الطبيب غـي دولانـوي.. مناضلا وإنسانا

الطبيب غـي دولانـوي.. مناضلا وإنسانا

المصطفى اجماهري

في شتنبر من سنة 1913، أي في عز ترتيب دواليب الحماية بالمغرب، حلت بمدينة الجديدة، قادمة من فرنسا، الطبيبة أوجيني روبنستاين دولانوي (1887-1951) صحبة ابنها الصغير جورج. جاء حلولها بالجديدة استجابة لنداء المقيم العام الجنرال ليوطي بحاجة سلطات الحماية لنساء طبيبات. وصلت أوجيني إلى ميناء الجديدة عبر الباخرة، قبل أن يلتحق بها زوجها، وكان من الصعب بسبب الأمواج النزول إلى اليابسة فتطلب الأمر إنزال المسافرين بواسطة رافعات إلى قوارب صغيرة أوصلتهم إلى الرصيف. ومن هناك انتقلت الطبيبة وابنها إلى فندق بزنقة ليسكول، قرب الميناء، كان يفتقر إلى الماء الشروب، والذي ما زالت بعض أطلاله بادية إلى اليوم. في السنة الموالية، سيلتحق بالسيدة أوجيني زوجها الطبيب بيار دولانوي، بعد عودته من عمله في ليبيريا، وسيجد أن الأسرة، انتقلت إلى منزل بساحة مولاي الحسن غير بعيد عن القلعة البرتغالية. 

في هذا المنزل سيزداد، سنة 1916، الابن الثاني للزوجين، غي دولانوي، والذي سيصبح بدوره طبيبا مرموقا وشخصية معروفة في المغرب. ويذكر لهذين الطبيبين أنهما من أشرف على تشييد المستشفى الإقليمي بالجديدة، مستشفى محمد الخامس حاليا. ولم تنقطع علاقتهما بهذه المدينة إلى أن توفاهما الأجل، حيث يوجد قبراهما بالمقبرة المسيحية. ومن باب الاعتراف، فقد قرر المجلس البلدي في عهد رئيسه الدكتور عبد الكريم الخطيب أن يطلق اسم كل منهما على شارعين يحاذيان المستشفى. ويمكن لمن أراد التعمق في تفاصيل حياة هذه الطبيبة وأسرتها وعملها والحالة الاجتماعية والإنسانية لساكنة الجديدة ونواحيها في الفترة الممتدة من 1913 إلى 1945 أن يرجع إلى كتابها الصادر بالفرنسية سنة 1949 تحت عنوان “ثلاثون سنة من العمل الطبي والاجتماعي بالمغرب”. 

كما يمكن الاطلاع، في نفس السياق، على الكتاب الذي خصصته لها حفيدتها نيلسيا دولانوي، الأستاذة الجامعية سابقا بجامعة باريس،  الصادر سنة 1989 عن دار النشر سيغرس، تحت عنوان “سيدة مازغان”. إلا أن ما يهمنا في هذه المناسبة هو المناضل الإنساني غي دولانوي، ابن الطبيبة أوجيني.  ولد هذا الأخير بالجديدة يوم رابع ماي 1916.

 وبعد دراسته الابتدائية بالجديدة والثانوية بالرباط، التحق بكلية الطب في الجزائر وحصل منها على الدكتوراه في الطب سنة 1942. بينما أصبح أخوه جورج مهندسا معماريا وهو من وضع تصميم حوض الأسماك سابقا بالدار البيضاء سنة 1947. وقد ظلت علاقة غي دولانوي بالجديدة متواصلة حيث كان يأتي لزيارة والديه الطبيبين بالمستشفى الإقليمي، وكذا لزيارة صهره السويسري “مانج” بالواليدية والذي كان يستغل ضيعة فلاحية هناك. في سنة 1951 سيتم تعيين غي دولانوي طبيبا للشغل بشركة السكر المغربية كوزيما بالدار البيضاء (ستصبح كوزيمار سنة 1967). وكان عمله بهذه الشركة هو الذي فتح عينيه على الوجه الحقيقي للحماية وذلك من خلال متابعته، عن كثب، لوضعية الطبقة العاملة المحلية. فقد لاحظ أن المغاربة كانوا ممنوعين من ممارسة الحق النقابي وكانت هناك تفرقة واضحة بين العمال الفرنسيين والمغاربة في الشركة من حيث الحقوق المكفولة والأجور وظروف العمل والمؤامرات المحبوكة من طرف رأس المال الجشع. 

ولاحظ كيف أن حوالي 300 عامل فرنسي كانت لهم مساعدة اجتماعية بينما خصصت مساعدة اجتماعية واحدة لحوالي 1.500 عامل مغربي. والسؤال هل وعى غي دولانوي متأخرا حقيقة الحماية أي حتى بداية الخمسينيات ؟ الجواب كلا. فقد اكتوى الراحل مبكرا بظلم هذا النظام سنة 1941 عند مساسه بعائلته وخاصة بأمه. إذ لم تتورع نقابة الأطباء التابعة لحكومة فيشي عن طرد والدته من وظيفتها كطبيبة بمبرر كونها فرنسية-بولونية من جذور يهودية، دونما اعتبار أن والدته لم تكن تمارس أية ديانة بل كان كل مجهودها منصبا على عملها اليومي. كذلك والده، وهو فرنسي مسيحي، أحيل على التقاعد المبكر في سن 58 عاما دون أن يستفيد من حقوقه في التقاعد وذلك لمعاقبته على زواجه من بولونية يهودية وكذا لعلاقته الوطيدة بجاره محمد أزرقان المنفي بالجديدة والذي كان بمثابة وزير خارجية عبد الكريم الخطابي.

أمام هذا الإقصاء الظالم اقتنع غي دولانوي بأن الدفاع عن حقوق الإنسان بغض النظر عن هوية ذلك الإنسان هو بمثابة الواجب المقدس. وبسبب المواجهة المفتوحة بين الحركة الوطنية والإقامة العامة فقد تأزمت الأوضاع في المغرب وبلغت أوجها حين أقدمت السلطات الاستعمارية على جريمة نكراء تمثلت في نفي السلطان سيدي محمد بن يوسف إلى كورسيكا ثم مدغشقر يوم 20 غشت 1953. وقد فطن دولانوي إلى أن مخطط نفي السلطان بدأ في حقيقة الأمر مع تقديم عريضة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944 إلا أن بعض الظروف حالت دون تنفيذه حتى 1953. حينها قام مجموعة من الفرنسيين الذين سيسمون “الفرنسيون الأحرار” بنشر رسالة عبروا فيها عن غضبهم من الطريقة التي تدبر بها سلطات الحماية الوضعية في المغرب مع المطالبة بمراجعة السياسة الخاطئة المتبعة من قبلها وإحداث انفراج في التعامل بين باريس والرباط. هذه الرسالة سميت “رسالة 75” لأنها حظيت بتوقيع هذا العدد من الشخصيات الفرنسية اللبرالية والمؤيدة لحقوق الإنسان. وقد سلمت الرسالة إلى رئيس الجمهورية الفرنسية روني كوتي يوم ثامن ماي 1954، كما نشرت في الصحف يوم 11 ماي من نفس السنة. كان غي دولانوي من بين أوائل الذين وقعوا الرسالة إلى جانب المقاوم الفرنسي بيار كلوسترمان، والمحامي بول بوتان، ورجل الأعمال جان فدرين، والصحفي أندريه دو بيريتي وآخرين. والأهم من ذلك أن الرسالة كانت وراء ولادة جمعية “الضمير الفرنسي” التي ترأسها غي دولانوي في يونيو 1954. وبما أن جمعية “الضمير الفرنسي” طالبت بتحقيق العدالة للشعب المغربي وبعودة السلطان الشرعي إلى عرشه، فقد دخلت في مواجهة مباشرة مع جمعية “الحضور الفرنسي” اليمينية المتطرفة. هذه الجمعية الأخيرة قامت بعمليات إرهابية استهدفت عددا من الفرنسيين الأحرار والوطنيين المغاربة. وما كادت “رسالة 75” تنتشر في الصحف حتى جن جنون السلطات الاستعمارية. وقد أحس دولانوي بالخذلان تجاه الطبقة السياسية الفرنسية في المغرب لأنهم صاغوا الرسالة بشكل مهذب ومع ذلك لم يسلموا من ردود الفعل العنيفة. طرد غي دولانوي من منصبه في الشركة بعد ثلاثة أيام فقط على نشر الرسالة. وقد حصل ذلك بضغط من اليميني فيليب بونيفاص، رئيس ناحية الدار البيضاء، الذي كان عضوا بمجلس إدارة الشركة. وكانت الضربة الثانية الموجهة إليه أنه لما فتح عيادة خاصة، لكسب عيشه، قوطع من طرف الجالية الفرنسية في المغرب كما من زملائه الأطباء. في تلك السنوات الحالكة من بداية الخمسينيات من القرن الماضي، كان غي دولانوي يستقبل المغاربة المرضى أو الذين تم التنكيل بهم من طرف الأمن الفرنسي ويعتني بهم. وإليه يعود الفضل في إنشاء مصلحة طب القلب بمستشفى كولومباني بالدار البيضاء، مستشفى ابن رشد حاليا. كان يقول إنه لم يكن يسأل من يأتي إلى عيادته، من جرحى الحوادث، إن كان بريئا أم مذنبا بل يكتفي بعلاجه دون التدخل في شأنه لأنه “طبيب القلب”، كما كان يحب أن يقول بالعربية، وللعبارة أكثر من معنى. وإلى حدود 1954، السنة التي نشرت فيها “رسالة 75″، لم يكن دولانوي قد زار فرنسا بعد. عندها سيزور فرنسا لأول مرة وسنه يقرب من الأربعين. إلا أنه سرعان ما سيرجع إلى المغرب ليكون في انتظار عودة محمد الخامس من منفاه يوم 16 نونبر 1955 بمطار الرباط. ولن يستقر نهائيا بفرنسا إلا سنة 1962 لأسباب مهنية وعائلية. مما يعني أنه عاش بالمغرب فترة تواصلت نحو نصف قرن. تقاعد غي دولانوي من عمله كطبيب سنة 1982، وحينها سيشرع في كتابة عمل أسماه “مذكرات تاريخية” صدر في ثلاثة أجزاء عن دار النشر “لارمتان”. يتعلق الأمر بمذكرات غطت الفترة الممتدة من بداية الحماية الفرنسية إلى حين حصول المغرب على استقلاله. لكن الصعوبة التي واجهها هي أنه لم يجد بسهولة ناشرا لمذكراته لأن فرنسا وقتها كانت تريد أن تنسى الحقبة الكولونيالة. وحتى بعد صدور الكتاب فقد تجاهله الإعلام الفرنسي باستثناء خبر صغير ظهر بأسبوعية “جون أفريك”. وزاد من امتعاضه أنه لم يتلق ردا من المستشار الثقافي للسفارة الفرنسية بالمغرب ولا من مدير مؤسسة تعليمية فرنسية بالرباط كان اقترح عليه التعريف بالكتاب أمام تلاميذ المؤسسة. وقد سنحت لي الظروف أن أتعرف على غي دولانوي سنة 1988، وسنه، زمنها، تعدى السبعين. كان التعارف بيننا، في البداية، عن طريق المراسلة. ثم سألتقيه شخصيا في الرباط، في فبراير 1990، في غرفة بأسقفية الرباط وضعها تحت تصرفه زميله الطبيب هوبير ميشون رئيس الأساقفة آنذاك. في لقائي به وجدته متعبا وكان قد بدأ ينسى قليلا ولذا كان يسجل المواعيد وأسماء من يلتقيهم في ورقة يحتفظ بها. ومباشرة بعد الرباط سنلتقي بالجديدة حيث جاء لتقديم الجزء الأول من مذكراته بمقر الرابطة الفرنسية-المغربية. وقد عبر لي لحظتها عن تخوفه من أن يخطفه الموت قبل إنهاء الجزأين الثاني والثالث منها. قال لي إنه أحس بضرورة كتابة مذكراته بعد تقاعده خاصة لما عثر في حقيبته على عدد من الوثائق ذات القيمة التاريخية المتعلقة بالمغرب والتي كانت ستضيع حتما لو لم يجمعها في كتاب. في تلك الزيارة لمدينة الجديدة، قضى ليلة بفندق بروفانس، وفي الصباح رافقته إلى وسط المدينة نحو ساحة الحنصالي. هناك دلني على الفندق الكائن بزنقة ليسكول الذي سكنت به والدته لما حلت بالجديدة سنة 1913. وبعد جولة قصيرة، استعاد فيها بعض صور الماضي، ساعدته ليستقل سيارة أجرة حملته إلى مدينة الواليدية (70 كلم من الجديدة). كان قد قرر الخلود هناك لبعض الراحة في الفيلا العائلية المجاورة للإقامة الصيفية للملك الراحل محمد الخامس. وهي الفيلا العائلية التي بيعت من طرف ورثته سنة 2012. كانت تلك زيارته الأخيرة للجديدة. زيارة وداع لمسقط رأسه، سيتوفى بعدها بأشهر قليلة، أي يوم سابع أكتوبر 1990 بجنوب فرنسا. ومن أسرار القدر أنه توفي بعد ثلاثة أيام فقط من انتهائه من كتابة الجزء الثالث من مذكراته. وبناء على وصيته فقد نقل رفاته يوم ثاني مارس 1992 إلى مدينة الجديدة ليدفن جوار والديه بالمقبرة المسيحية، وذلك بحضور أبنائه وثلة من رفاقه في العمل الوطني من بينهم الدكتور عبد الكريم الخطيب، ومحمد امجيد رئيس الجامعة الملكية المغربية للتنس، والسفير عبد السلام الحراقي الذي ألقى كلمة التأبين. ونظرا للأعمال الجليلة التي قام بها دفاعا عن الشرعية المغربية فقد وشحه الملك الراحل محمد الخامس بالوسام العلوي، وحظي من الملك الراحل الحسن الثاني بالوسام العلوي من درجة قائد. وفي الذكرى الخمسينية لاستقلال المغرب تسلمت عنه ابنته نيلسيا دولانوي من الملك محمد السادس الوسام العلوي من درجة ضابط كبير. لم يكن غي دولانوي مجرد طبيب، بل مناضلا مشبعا بالقيم الإنسانية للثورة الفرنسية، وعاشقا لبلده الثاني المغرب إن لم نقل بلده الأول. كان فعلا مغربيا حتى النخاع : مغربيا بالولادة وبالرضاعة، فمرضعته امرأة مغربية سوداء تحدث عنها في مذكراته وهي من علمته اللهجة المحلية، مغربيا أيضا بذكريات الطفولة الجميلة في مازغان، ومغربيا، أخيرا وليس آخرا، بمشاركته في الكفاح المشترك من أجل عودة محمد الخامس من منفاه وتحقيق الاستقلال المنشود.

 

Visited 8 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المصطفى اجماهري

كاتب وناشر مغربي