عندما كان عبد الجبار السحيمي بورجوازيا

عندما كان عبد الجبار السحيمي بورجوازيا

محمد عبدالله غلالي 

قبل أن يشغل منصب رئيس لتحرير في يومية “العلم”، أشرف الأديب والصحفي المرحوم عبد الجبار السحيمي مباشرة على عدة صفحات ثقافية وفنية ورياضية، وتميزت كتاباته بركنه الشهير”بخط اليد” لسنوات طويلة، ومازالت أصداء هذا الركن في ذاكرة المثقفين والسياسيين والصحافيين، وقد فعل خيرا الإعلامي المرحوم خالد مشبال حين أصدر ضمن سلسلة “شراع” في طنجة، كتيبا بنفس العنوان (بخط اليد) ضم نماذج من العمود الصحفي المشار إليه.  

بقدر ما كان عبد الجبار السحيمي مهووسا ومرتبطا بالكتابة الهادفة والملتزمة، وكانت كتاباته يسارية الهوى وسط منبر يتحدث بلسان حزب وطني يصنف في خانة المحافظين، كان السحيمي أيضا من هواة ممارسة الرياضة ومن عشاقها. ومثل الأستاذ عبد الكريم غلاب مدير “العلم”، كان السحيمي يكتب في مجال الرياضة من دون أن يمضي مقالاته في هذا المجال، خصوصا عندما يتعلق الأمر بمناقشة شؤون الرياضة من جانبها الاجتماعي والتربوي وبعدها السياسي.

 أما عن ممارسته للرياضة، فلم تستهوه كثيرا كرة القدم أو غيرها من الرياضات الموصوفة بالشعبية، بل كان عبد الجبار يحب لعبة كرة المضرب “التنس”. حيث كانت ملاعب “سطاد ماروكان” شاهدة على جولاته في هذه اللعبة، وكان عبد الجبار السحيمي غالبا ما يواجه فيها صديقه الدكتور الجبلي، الذي كان رئيسا لفرع كرة المضرب التابع لنادي “سطاد المغربي”.   

منذ تاريخ التحاقي بجريدة العلم “، في سنة 1975، بمكتبها في مدينة الدارالبيضاء، لما كان هذا المكتب في الوقت نفسه مقرا لمفتشية حزب الاستقلال ومقرا لفرع النقابة الطلابية التابعة لحزب الاستقلال (الاتحاد العام لطلبة المغرب)، كان مطلوبا مني إعداد مراسلات متعددة، في مواضيع وتقارير ثقافية واجتماعية وحزبية ونقابية، ورياضية أيضا. ومن المواضيع التي كنت أكتب فيها في حقل الرياضة، كان  موضوع كرة المضرب. إلا أني اكتشفت أني كلما أرسلت مقالا بهذا الخصوص يتناول منافسات رياضة “التنس”، كان الموضوع لا يرى النور على صفحات الجريدة. وكنت مدركا أن مثل هذه الرياضة، إلى جانب ممارسات رياضية أخرى، كرياضة الغولف ورياضة الفروسية مثلا، يدخلونها في نطاق “الرياضات البورجوازية”، فتوقفت عن الاهتمام بمتابعتها والكتابة عنها. لكني قررت قبل ذلك أن أتأكد من السبب الذي خلف “منع” نشر تقارير صحفية عن رياضة “التنس”. وطبعا توجهت بتساؤلاتي إلى رئيس القسم الرياضي في الجريدة، فأحالني على المسؤول الفعلي للقسم الثقافي والرياضي، وكان هو الأستاذ عبد الجبار السحيمي، الذي أجابني  بأنه هو من يمنع نشر كل المقالات عن “التنس”، لأنها كما أخبرني، تعتبر من الرياضات البورجوازية. 

هكذا أقفل الموضوع، ومن باب الاحترام، لم أتجرأ على مناقشة رئيس التحرير في رأيه ووجهة نظره، التي كنت أختلف معه فيها. ويبدو لي أن الموقف من الرياضات المنعوتة بالبورجوازية، كان ربما هو ذاته في باقي صحف المعارضة الحزبية حيذاك، سواء في “المحرر” التي كان يصدرها حزب الاتحاد الاشتراكي، أو في”البيان” التي كان تصدر عن حزب التقدم والاشتراكية.

 مر وقت، وأتت فرصة تبادلت أطراف الحديث مع رئيس الجامعة الملكية للتنس (المرحوم محمد آمجيد)، عن رأيه حول السبب في الرقابة المفروضة على لعبة “التنس”، فقال لي: “من حق مسؤول التحرير في جريدتكم أن يمنعك من الكتابة عن “التنس”، ولكن أن يقول لك إنها رياضة بورجوازية فهذا يتناقض كليا مع ممارسته وقناعاته الذاتية”. وأضاف امجيد موضحا: “ألا تعلم أن عبد الجبار السحيمي من المواظبين على ممارسة لعبة “التنس”، بشكل يكاد يكون يوميا؟ ما عليك إلا الذهاب إلى ملعب “سطاد ماروكان” في ساعة الظهر وسترى بأم عينك وتتحقق من قولي”. 

فعلا، توجهت ذات ظهيرة إلى ملعب “التنس” بالملعب المذكور، وجلست أتفرج حوالي ساعة من الزمن على اللعب الجميل بين الأستاذ عبد الجبار السحيمي الأديب والصحافي، ومنافسه الدكتور الجبلي رئيس النادي. 

لما انتهت المقابلة، لم أعرف من الفائز من بينهما، لكني تقدمت بالتهنئة إلى رئيسي الأستاذ السحيمي، وبعبارت مجاملة منتقاة أثنيت على استماتته وبسالته طيلة جولات المباراة، الودية طبعا. قبل أن أستدرك وأتشجع لأقول له بسخرية مهذبة: ” برافو عليك السي عبدالجبار .. ليس لدى المرء ما يقوله حول مهارتك وإتقانك للعبة..”. وأضفت: “لكن كيف تُحرِّم الكتابة في موضوعها، بدعوى أنها لعبة بورجوازية، رغم أن أبطالها المغاربة الدوليين، مع قاعدة ممارسيها أصبح أغلبهم هم من جامعي الكرات “ramasseurs des balles”، أي من الطبقات الشعبية الفقيرة؟”…

 وهو يمرر المنشفة حول عنقه ووجهه لتجفيف عرقه، استعاد عبد الجبار السحيمي جديته، وقال لي بأسلوب حازم: “اسمع أولدي.. اكتب على التنس، وما تكتبش على محمد آمجيد “. 

حينها فهمت من كلام لاعب التنس رئيس التحرير، أن الموقف سياسي حزبي محض، تتصل خباياه وكواليسه بشؤون حزبية، فقد كان امجيد مقربا من دوائر السلطات العليا، وسبق له أن كان باشا لمدينة أسفي مسقط رأسه، وسيصبح بعد سنوات قليلة من ذلك العام، من أقطاب حزب صهر الملك أحمد عصمان، أي حزب التجمع الوطني للأحرار، وقد مثله في البرلمان، في الوقت الذي كان فيه عبد الجبار السحيمي استقلاليا، يساري الهوى، وكان حزبه آنذاك يصطف في تكتل المعارضة.

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

محمد عبدالله غلالي

صحفي مغربي