سعيد أحمد سمعلي… مسرحي من الزمن الجميل
أحمد لعيوني
عرفت الساحة الثقافية بمدينة سطات، عاصمة الشاوية، خلال الثلاثة عقود الأخيرة من القرن العشرين، حركة مسرحية نشيطة، تأليفا وإخراجا وتقديما للعروض. ضاهت هذه الحركة، في مختلف أبعادها، مثيلاتها في العديد من الحواضر المغربية الكبرى، وتم إنجاز العديد من الأعمال، بالرغم من عدم وجود بنية تحتية في المستوى المطلوب. لكن ما ساعد مدينة سطات على تحقيق ذلك الإشعاع، بالرغم من صغر حجمها آنذاك، هو وجودها في موقع متميز على الطريق الرئيسية التي تربط شمال المملكة بجنوبها، وحيوية نخبة من شبابها المتطلع إلى الثقافة والفنون، وكذا الدور الذي لعبته بعض الجمعيات النشيطة بفضاء دور الشباب.
ففي تلك الفترة، تداول على المجال الثقافي المحلي العديد من الجمعيات التي كانت تنشط بدار الشباب – المدينة، والتي كان من أولوية اهتماماتها العروض المسرحية. هذا الاهتمام المسرحي الذي بدأ محدودا في تجربته الأولى، سرعان ما نما بوثيرة متوالية، بفضل عزيمة ثلة من شباب المدينة الذين آمنوا بالعمل الجاد والتنافس الشريف، لهوسهم وولعهم بهذا الفن. لكن الكوكبة لكي تتقدم بخطى حثيثة، كان لابد لها من رائد، يرشد ويسير ويرسم الطريق للرفع من الإيقاع كلما كانت الفرصة مواتية.
هكذا ظهر على رأس جمعية “رواد الخشبة” بمدينة سطات، أحد أبناء الشاوية، القادم من إحدى القبائل المجاورة، وهو سعيد أحمد سمعلي، المزداد أحد أيام مارس الربيعية من سنة 1947، بفرقة الهدامي، إحدى فصائل المعاشات بقبيلة أولاد سعيد المجاهدة. كانت أسرته قد غادرت القبيلة باتجاه مدينة سطات قبيل الاستقلال بقليل، بعد عودة الوالد، الذي شارك في حروب الهند – الصينية بداية خمسينيات القرن الماضي، ضمن القوات الفرنسية، وبترت إحدى رجليه في المعركة.
في مدينة سطات سيتمكن الطفل سعيد من ولوج المدرسة القريبة من سكنى العائلة بحي “نزالة الشيخ”؛ وهي “مدرسة الأمير مولاي عبد الله” الابتدائية. ويحكي الراحل في أحد الحوارات الصحفية، إذ يقول: “هناك في مستوى الابتدائي، تتلمذنا على يد أساتذة مشارقة، حفزونا على القراءة والمطالعة ومحاولة الكتابة، والتعبير عن مشاغل الهم اليومي، وهذا ما أهلني صحبة بعض الأصدقاء الذين أصبحوا يمارسون على الساحة”.
كان ذلك أواخر الخمسينيات وبداية الستينيات، وهكذا أصبح الطفل سعيد قارئا نهما للكتب منذ الصغر. تلك الكتب التي كان يشتريها أو يكتريها من الكتبي بوسدرة بدرب الصابون.
بعد حصوله على الشهادة الابتدائية سنة 1960، انتقل سعيد سمعلي لمتابعة الدراسة الثانوية بالتعليم الحر بالدار البيضاء، بإيعاز من الوالد الذي رسم له مخططا وفق تطلعات الزمن المدرسي الممنهج، قصد تأهيله للحصول على وظيفة في أسلاك الدولة. “لكنني، يقول سعيد سمعلي، اخترت ألا أتمنهج بأي طريقة، وألا أخضع لأسلوب معين يفرض علي أن أبدأ من نقطة ما، وأن أنتهي بنقطة ما “. من ثم رسم الراحل لنفسه، وهو في الدار البيضاء، اتجاها مغايرا لمخطط الوالد، تمثل في المطالعة الحرة والاحتكاك بكتاب وجمعيات ثقافية، عوضته عن متابعة الدراسة الثانوية والجامعية. وفعلا غادر الدراسة وهو لا يتوفر سوى على الشهادة الابتدائية. وخلال مدة إقامته بالدار البيضاء، كان من ضمن رواد دار الشباب بدرب غلف، ابتداء من سنة 1963، حيث تميز بمواظبته على المشاركة في أنشطتها الثقافية والمسرحية على الخصوص. ثم ساهم، بعد ذلك، في العديد من الأعمال بالتأليف والإخراج والتمثيل، منها: مسرحية “المسخوط”، و”الشهداء”، و”عدالة المصير”. كما شارك في الأنشطة الفنية لنقابة الاتحاد المغربي للشغل.
أما بمدينة سطات فإن مساهماته المسرحية، كانت ضمن فعاليات رواد دار الشباب، بدءاً بمسرحية “الحادكة والمخموجة”، ثم ” السنوان “، و”الخاطب”.
وخلال سنتي 1968 و1969، انخرط ضمن جمعية الشعاع المسرحي، التي كانت تتوفر على مقر مستقل، ويعود تأسيسها إلى أواخر الخمسينيات. كما ساهم في العديد من المسرحيات وقتها، نذكر منها: “عدالة المصير”، كن ذيب ليكلوك الذياب”، “اللي سلفتيه ضيعتيه”، “في سبيل الوطن” وغيرها.
بدأ سعيد سمعلي ينشر مبكرا في الصحافة الوطنية، ما بين سن 14 و20 سنة، خواطر وقصائد وموضوعات نقدية، بكل من جرائد “العلم”، “الكفاح الوطني”، “المحرر”، “البيان” ثم “الاتحاد الاشتراكي” فيما بعد. وكان من الأوائل الذين أسسوا المقهى الأدبي بسطات، وأخذ يثير الأسئلة الحارقة رفقة صديقه محمد خير الدين، كما بدا عنصرا فاعلا في النادي السينمائي بنفس المدينة .
في سنة 1967-68 ستتاح له الفرصة للمشاركة في البرنامج الثقافي “خميس الحظ ” الذي كان يشرف عليه الشاعر محمد البوعناني في التلفزة المغربية وهي في بداية نشأتها تشجيعا للمواهب الشابة. تمكن ابن مدينة سطات من اجتياز مختلف المراحل خلال المسابقات الشهرية، وصولا إلى النهائيات، رافعا بذلك صورة مدينته، التي عرفت إشعاعا وطنيا بفعل مشاركته الموفقة في هذه التظاهرة الثقافية المتميزة.
إلا أن سعيد سمعلي سيضطر للهجرة نحو فرنسا في شتنبر 1969، ضمن أفواج العمال الذين كانت تطلبهم فرنسا بطريقة نظامية، والتي كانت معاملها في حاجة إليهم. غادر الوطن ليشتغل في معمل سيارات “سيمكا” بضواحي باريس. كانت هذه الأفواج من العمال تتكون من مهنيين وفلاحين، من بلدان شمال إفريقيا، الذين لا يتوفرون سوى على عضلات قوية تساهم في دفع عجلة الصناعة الفرنسية. وعند اصطدامه بهذا الواقع سيصاب بخيبة أمل، إذ كان حلمه هو الاحتكاك بالثقافة الفرنسية، التي سبق له الاطلاع على العديد من أسماء كتابها البارزين، مثل فيكتور هيجو، وألكسندر دوما، وفولتير وغيرهم. حينها وجد نفسه وسط عمال من مختلف الجنسيات، لا معرفة لهم بالشأن الثقافي. وحتى الفرنسيين الذين كان يلتقي بهم لم يكونوا يبالون بتلك الأسماء التي كان يحملها في ذهنه، ولا يعرفون من تاريخ فرنسا العريق سوى اسم نابليون، كما حكى ذلك في إحدى حواراته الصحافية، بسخريته المعتادة. حيث يقول: “وجدت نفسي مجرد عامل رغم ثقافتي والكتابات التي ساهمت بها، ومشاركتي المتميزة في التلفزيون المغربي من خلال المسابقة الشهرية”.
كان سمعلي وقتها مرغما للبحث عن لقمة العيش لمساعدة الأسرة، ولم تكن موهبته كافية لضمان رزقه في بلده.
لم يستسلم سمعلي لليأس وهو في بلاد المهجر، بل استطاع أن ينمي ثقافته المسرحية، على المستويين النظري والعملي، من خلال العروض الأسبوعية التي كان يحضرها في أوقات فراغه، وهو ما مكنه من التعرف على العديد من تقنيات المسرح من إضاءة وملابس وماكياج… كما أن تراكمات المعرفة في المهجر ساهمت في اكتمال شخصيته في التجربة الشعرية والنضال السياسي بمفهوم الحرية والشفافية، حسب تعبيره. ومع ذلك، فإنه سيعيش في فرنسا، طيلة سبع سنوات، اغترابا قاسيا على حياته، وخاصة الاغتراب الثقافي وعدم التواصل مع الآخر، رغم كونه استمر في نشر مقالاته وقصائده بالجرائد الوطنية. لقد كان الراحل في حاجة إلى التواصل عبر المسرح والاحتكاك بمثقفي بلده.
وهكذا كانت العودة إلى الوطن سنة 1975، رغم قساوتها عليه، حيث فشل الحلم الغربي ومشروع الترقي الاجتماعي، مثلما كان فشل المشروع الدراسي للحصول على الشهادات التي كان بوسعها تغيير وضعه الاجتماعي. حينها كلف بالإشراف على تسيير دار الشباب – الحي الإداري بمدينة سطات. وعند توليه المسؤولية، بادر بتكوين فرقة لمسرح الهواة رفقة مجموعة من أبناء المدينة، منهم: محمد شهبة والزهراني والعلمي والفنانة التشكيلية ربيعة الشاهد. مع هذه المجموعة أسس جمعية “الانطلاق المسرحية” سنة 1975. كان مسرح الهواة وقتها في أوج عطائه، وكان لسعيد سمعلي موقف من الاحتراف، فالاحتراف في نظره يتطلب التكوين الجيد، لقد كان لا يراه مصدرا للرزق وإلا انقلب إلى بضاعة وانتفى منه الإبداع .
في سنة 1977 سيحقق سعيد سمعلي أمنية عزيزة، بعدما تلقى تكوينا نظريا وتطبيقيا في المسرح على يد الأستاذ فريد بنمبارك، في المعهد الملكي لتكوين الأطر، التابع لوزارة الشبيبة والرياضة. وهكذا عمل صحبة المتكونين على إعادة الحيوية لفرقة المعمورة، فقدموا مسرحية “هاينة “، وهو نص متميز أخرجه كل من فريد بنمبارك، العربي بلشهب والحسين المريني. كما استفاد في ذات المعهد من تدريب الدرجة الثانية على يد المخرجين الفرنسيين: بيار سيادوني وموريس ليفي، لمدة ثلاثة أسابيع. وتوج هذا التكوين بحصوله على شهادة الكفاءة التربوية. واستطاع الراحل، في نفس السنة، الحصول على دعوة للمشاركة في مهرجان أفينيون المسرحي بفرنسا.
في سنة 1979 ستتمكن جمعية “الانطلاق” من اجتياز الإقصائيات للمشاركة في المهرجان الوطني لمسرح الهواة بمراكش، بمسرحية “قال الراوي”. وهي عمل متأثر بمسرح بريخت، من حيث قلة الحوارات، والاعتماد على الإشارة، وبساطة الديكور، وتتبنى المفهوم الاشتراكي، كأغلبية الأعمال المسرحية التي قام بإنجازها. كان سعيد سمعلي مفتونا بالمسرح، ويعطيه الأسبقية في كل أنشطته، حيث يقول: “المسرح مني، جسدي، أنا والمسرح منصهران في ذات واحدة”. ويضيف، “من خلال المسرح تعلمت السياسة والشعر والمواجهة وأدب الحوار مع الناس، ومع الآخر. وعلى المسرحيين أن يحترموا أنفسهم ويقدروا قيمة عملهم، وعليهم الاقتداء بالطيب الصديقي، الذي يحترم حرفته، ويعرف ماذا يفعل”.
وللتذكير فقد سبق للراحل أن اشتغل فترة مع فرقة الصديقي، خلال مقامه في الدار البيضاء، بداية الستينيات، وذلك حسب رواية صديقه محمد شبهة.
وفي سنة 1980 قام سمعلي بإخراج مسرحية “مولاي إدريس”، وهي عبارة عن ملحمة، أعدها في إطار الاحتفالات بذكرى المسيرة الخضراء، واستعملت فيها تقنيات جديدة في الإنارة ممولة من وزارة الشبيبة، و بإشراف الشتوكي تقني الوزارة. كما أن عمالة سطات، ممثلة في شخص عامل الإقليم آنذاك السيد بلماحي، أنجزت الخشبة التي لا تزال تستعملها دار الشباب بالحي الإداري.
في سنة 1986 شاركت فرقة “الانطلاق” بالمهرجان الوطني لمسرح الهواة ببني ملال، بمسرحية للراحل عنوانها “ظرف مؤقت”، حيث عرفت نجاحا في الملتقى. وقد حصل وقتها أن أحدا سرب خبرا كاذبا مفاده أن إنجاز هذه المسرحية أملته وزارة الداخلية في شخص إدريس البصري. لكن هذه الدعاية الرخيصة سرعان ما تبين أنها نوع من الحروب الحزبية الاستقطابية. وذلك بحكم أن سعيد سمعلي، كان مناضلا في حزب الاتحاد الاشتراكي، بينما قطاع الشباب والرياضة كان يسيره الوزير عبد اللطيف السملالي من الاتحاد الدستوري. وقد عُرض على سعيد سمعلي آنذاك الانخراط في هذا الحزب، الذي استقطب أغلبية موظفي دور الشباب، إلا أنه رفض، حفاظا على مبادئه الاشتراكية، وارتباطه بهموم الناس، وتشبثه بأصوله البدوية، التي ورث منها الصراحة والوضوح. وعلى إثر هذه الإشاعة المغرضة، انفصل الراحل عن جمعية “الانطلاق”، وكون جمعية “الموهبة المسرحية” سنة 1988، التي أنجز معها مسرحيات: “ضرر التبغ” و”الفنيق”. ثم أسس جمعية “ناس المسرح” سنة 1991، وقدم في إطارها عددا من المسرحيات، منها على الخصوص: “التمرين”، و”بلعمان في المسرح”، و”فان غوغ”، و”السريفة”، بعضها مقتبس عن الأدب الروسي، ممثلا في منهج ستانسلافسكي، وهو منهج ممزوج بالواقعية الاشتراكية يعالج القضايا الاجتماعية والسياسية بطريقة ساخرة.
وكانت مسرحية “جنب الضاية ” التي شارك بها الراحل في مهرجان مسرح الهواة بالمحمدية، وعرضت في فاس والدار البيضاء والراشيدية من بين عروضه الناجحة. وهي مسرحية ذات طابع فلسفي، ترمز للسيرة الذاتية للراحل، حيث عالج فيها ظروف عودة والده من الجيش برجل واحدة، والوضع في العالم القروي، وزواجه المبكر. إذ اختارت له العائلة الزوجة وهو في سن التاسعة عشر، ووضعه الصحي في أواخر أيامه ومعاناته مع المرض. وبالرغم من مكابداته مع الداء منذ بداية تسعينيات القرن الماضي، إلا أنه بقي مثابرا على الكتابة، حيث ألف مسرحية “السطح” سنة 2001 و”عينين الميرنا” سنة 2002، ثم بعدها بدأ كتابة مسرحية “المطمورة” سنة 2010. وهي ثلاث مسرحيات لم يكتب لها النشر. وقد ألف الراحل مجموعة من المسرحيات لفرقة “الجرس” بالخميسات، نذكر منها: “عتبات” و”الواكل رجلو” التي قام بإخراجها وتقديمها في عدد من المدن المغربية وكذا بالجزائر، واستطاع بعدها الحصول على دعم وزارة الثقافة.
تجدر الإشارة إلى أن سعيد سمعلي عضو باتحاد كتاب المغرب مند سنة 1976. وله أيضا إبداعات شعرية، فقد شارك في مهرجان الأمة الشعري ببغداد في العراق سنة 1984. كما أتيحت له فرصة المشاركة في مهرجان المربد الشعري ببغداد سنة 1989. وصدر له ديوان “وردة الشعر” عن منشورات اتحاد كتاب المغرب سنة 2001. و”ديوان هشاشة القصب” عن منشورات وزارة الثقافة سنة 2008.