لما كانت “التحرير” في خضم النضال
عبد السلام البوسرغيني
تعوده بي الذكريات من حين لآخر وكلما حل شهر رمضان الكريم، إلى ما عشته وكابدته مع الصحافة الاتحادية في الستينات من القرن الماضي، أعود لها لما لهذا الشهرالمبارك من ارتباط بتطورجريدة “التحرير” التي انتسبت للعمل بها كعضو في أسرة “التحرير” منذ صدورها في 2 أبريل 1959. ولقد كان ميلاد هذه الجريدة حقا بمثابة حدث إعلامي وسياسي بارز، بالنظرإلى الظروف التي كانت سائدة آنذاك.
كان صدورها حدثا إعلاميا واضحا، إذ كانت الحاجة ماسة للتعريف بما كان يقوم به نخبة من الخبراء الوطنيين يرأسهم الزعيم اليساري الكبيرالمرحوم عبد الرحيم بوعبيد، ضمن حكومة عبد الله إبراهيم، ولا يزال منهم على قيد الحياة حسب علمي السيدان محمد الحبابي وأحمد بنكيران.
كان أحد أهداف جريدة “التحرير” أن يدرك الناس أهمية ومرامي ما يتم إرساؤه من مؤسسات من أجل النهوض بالاقتصاد الوطني، وبالتالي توفير أدوات ووسائل التنمية الاجتماعية.
وتمثلت المعركة السياسية التي أنشئت من أجلها جريدة “التحرير” في العمل على إقامة نظام ديموقراطي وحكم عادل يحققان للبلاد الأهداف المتوخاة من معركة التحرير والاستقلال، التي خرج المغرب منها منتصرا ومنذ بضعة شهورفقط، أي الانتقال من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر، كما وصفه جلالة المغفور له محمد الخامس طيب الله ثراه.
هذه جوانب من الأهداف التي أنشئت من أجلها جريدة “التحرير” التي كان أحد جنود معركتها، وأعني به المرحوم محمد عابد الجابري، قد أفاض في الحديث عنها في الأعداد الأولى من سلسلة مذكراته، الصادرة تحت عنوان “أضواء ومواقف”. وأريد هنا أن أضيف إلى ما قيل لأتحدث عن الظروف المادية التي كانت تشتغل فيها الجريدة، وهي تخوض معاركها الإعلامية والسياسية من 1959 إلى 1963، تحت قيادة رئيس التحرير المجاهد الأستاذ عبد الرحمان اليوسفي رحمه الله رحمة واسعة وجزاه ما قدم لوطنه.
لقد أوحى لي بالحديث عن جريدتنا “التحرير” حلول شهر رمضان الذي كان قد جاء آنذاك ليغير من نظام العمل بأقسامها، سواء بالنسبة للمحررين أوللمشرفين على الطبع والنشر والتوزيع. وأتذكر أننا ونحن في اجتماع للبث في إكراهات رمضان المبارك، اقترح علينا الأستاذ اليوسفي تغيير أوقات عملنا، بأن ننهي عملنا قبل حلول وقت آذان المغرب حتى لا نعود بعد الإفطار. لم نكن قد توقعنا أن ذلك سوف لا يكون فقط ملائما ومريحا لنا، بل إن إعداد الجريدة للطبع قبل حلول وقت آذان المغرب، لتوزع في المساء بعد الإفطار في الدارالبيضاء وفي الرباط على الخصوص، أعطى نتائج باهرة بالنسبة لانتشارالجريدة وارتفاع مبيعاتها. وأعتقد أن هذه المبيعات قفزت إلى مائة ألف نسخة في كلا المدينتين. ومنذ ذلك الحين سرنا على نفس النهج في العمل حتى خارج رمضان، وكان الأمر بمثابة سنة اتبعتها الصحف المغربية حتى الآن.
كان المرحوم الأستاذ عبد الرحمان يفكر في كل ما يتعلق بإدارة الجريدة، إلى جانب شؤون التحرير، بما فيه التوجيه الإعلامي والسياسي، وبفضل حنكته وكفاءته استطاعت “التحرير” أن ترقى إلى ما وصلت إليه، فيما يتعلق بالانتشار والنفوذ، إلى الحد الذي أزعج خصوم الاتحاد، فلم يترددوا في التجرئ على ارتكاب أعمال الإرهاب، ففجروا قنبلة في مطبعة “أمبريجيما” حيث كانت مكاتب الجريدة. وبقدر ما كان الأستاذ اليوسفي يولي الاهتمام لإعداد الجريدة من حيث التحرير، كان اهتمامه ينصب أيضا لجهة النشر، لكي يحقق لها نفوذا ما فتئ أن تجاوز الإطار الوطني ليشع خارج المغرب. كان تنظيم التوزيع يتم مع المرحوم السيد لمودي المكلف بمسائله، وكان يرجع إلى الأستاذ اليوسفي من حين لآخر ليتسلم منه لوائح الشخصيات التي ترتبط معه أو مع الاتحاد الوطني بعلاقات النضال، وكان بينهم قادة الثورة الجزائرية، الذين تبعث إليهم “التحرير”، ويتسلمونها أنى حلو وارتحلوا، حتى يظلوا مرتبطين ببلدهم الثاني المغرب، كما كانوا يفكرون ويعتقدون.
لقد كنت شخصيا من أول الملتحقين بجريدة “التحرير” بعد أن قضيت مدة قصيرة نسبيا في جريدة “العلم” التي كان عملي بها شبه تقني، فقد كنت مكلفا بالإشراف على إعداد الجريدة للطبع وترجمة ما يصلح من الأخبار للنشر. وكان وجودي ليلا بالجريدة قد أتاح لي الاتصال بالزعيم اليساري المرحوم المهدي بنبركة، الذي كان يتردد على الجريدة، إما لتزويدها بالمواد التي يراها جديرة بالنشر، أو لمراجعة ما ينشر. وبانتسابي وعملي بجريدة “التحرير” تطور تكويني المهني، وإليها يرجع الفضل في تكويني الإعلامي والسياسي. ولقد أحدث المرحوم الأستاذ اليوسفي قسم الاستماع أوكل إلي مسؤوليته، وذك من أجل تنويع مصادر الاخبار التي كانت في الستينات شحيحة. وإحداث هذا القسم أتاح لجريدة “التحرير” مسايرة الأحداث الهامة التي كان العالم الثالث مسرحا لها. كان تتبعنا لما يذاع على أمواج الأثير من مصادر متعددة يجعلنا نعيش الأحداث، ويجعلنا نعطيها الأهمية التي تستحقها غير معتمدين فقط على روايات وتوجهات الجهات الغربية المحتكرة لوكالات الأنباء، التي يملكها خصوم معارك التحرير والانعتاق التي تخوضها الشعوب في أفريقيا والعالم العربي وأمريكا اللاتينية، بل كانت جريدة “التحرير”، بتوجيه من المجاهد المرحوم الأستاذ اليوسفي، تعكس طموحات وتطلعت تلك الشعوب وتدافع عن قضاياها، ومنها قضية تحرير واستقلال الجزائر الشقيقة، كما كنّا نعتبرها وما نزال.
ومن سخرية القدر أن من تولوا الحكم في الجزائر بعد استقلالها تنكروا لكل ما كان الإعلام المغربي يعبر عنه باسم الشعب المغربي الذي ساند الثورة الجزائرية، بما كان يملك من إمكانيات. وأنه لكثيرا ما كانت الأطماع والأغراض الدنيئة تعمي الأبصار.
إن ما تحدثت عنه، لا يشكل سوى جزءا ضئيلا من معركة الإعلام المغربي بقيادة الاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ثم الاتحاد الاشتراكي. ولقد كنت في وقت من الأوقات شاهدا على تلك المعركة، وعشتها بكل زخمها في تلك الفترة الحاسمة إلى جانب مناضلين وطنيين في جريدتي “التحرير” و”المحرر” تعرضوا لامتحانات عسيرة، وتحملوا تضحيات قاسية، ولن ينسى لهم التاريخ فضلهم على وطنهم وإخلاصهم لشعبهم الذي لا يفتأ يمجدهم كلما ذكرت أسماؤهم.