أوراق من دفتر منسي: حرب الثمان سنوات

أوراق من دفتر منسي: حرب الثمان سنوات

عبد العلي جدوبي

حرب مدمرة تلك التي دارت رحاها بين العراق وإيران، واستمرت ثمان سنوات (1980- 1988)، ذهب ضحيتها مليون قتيل من الطرفين، وتم تدمير خمسين مدينة، وثلاثة آلاف قرية، وتم أسر أربعين ألف أسير، وتسببت تلك الحرب في فقدان سبعة آلاف شخص، وفي أربعة آلاف مشرد، وأكثر من ألف مليار خسائر مادية خلال ثمان سنوات الحرب..

 ففي يوم 17 أبريل من العام 1988، وهو التاريخ الذي استعاد فيه الجيش العراقي في حربه ضد إيران، سيطرته على شبه جزيرة “الفاو” بعد حرب طاحنة..

 بعد مرور أسبوعين من ذلك التاريخ، تلقيت دعوة من سفارة العراق بالرباط للسفر إلى بغداد، ومنها إلى شبه جزيرة “الفاو” بعد استعادتها من طرف الجيش العراقي، للوقوف على ما قام به أبطال العراق خلال الحرب العراقية – الإيرانية..

 والحقيقة أنني لم أتعود خلال مساري المهني، القيام بمثل هذه المهمات من قبل، ولكن رغبتي في الدخول في هذه “المغامرة الحربية “، قادتني إلى بغداد ومنها إلى البصرة، ثم إلى “هور الحويزة”، ومنها إلى “مهران” ، فمنطقة “نهر الجاسم”، وصولا إلى “الزوبير”.. وكانت الحرب ما تزال مشتعلة بين الطرفين، أصوات طلقات المدافع لم تتوقف في محيط مدينة “الفاو”، وفي عدد من من المناطق المحاذية لمدينة “المحمرة” الإيرانية، والتي تم فصلها عن مدينة “عبدان”.

 استعادت القوات العراقية مثلث مدينة “الفاو” في زمن قياسي لم يتجاوز 36 ساعة، كما جاء في تقرير للجيش العراقي..

 بداية الرحلة

 وصلت إلى محيط مدينة “الفاو” بعد رحلة شاقة رفقة وفد صحفي، يضم صحفيين من ألمانيا، أنجلترا، إيطاليا، فرنسا، وكنا الأسبوع كامل ننتقل من منطقة لأخرى عبر مركبات عسكرية على وقع دوي المدافع والراجمات..

 امتطى الوفد الصحفي طائرة عسكرية من منطقة “الزوبير” صوب مدينة البصرة، ومنها إلى ثكنة عسكرية تبعد بحوالي ثلاثين كلم، وهناك استقبلنا ضابط قدم لنا أحد معاونيه قنينات من ماء معدني وبعض الحلويات مع مشروبات غازية محلية، وبدأ الضابط يشرح لنا ظروف الحرب، كان ينتقي كلماته وعباراته بدقة متناهية. قضينا الليلة في الثكنة العسكرية التي يكسوها الظلام، إلا من  بعض المصابيح الزرقاء الداكنة المنصوبة على أعمدة جانبية. وفي صباح اليوم الموالي، تسلمنا بزات عسكرية، وقتها فهم الجميع أن الأمر ليس بالسهولة كما كنا نتصورها قبل مجيئنا!!

 تواجدنا بمنطقة (الشعيبة) كان خطرا علينا، لأن القذائف ما تزال تسقط باستمرار في محيطها، أخبرنا الضابط أن هذه المنطقة شهدت قبل أسبوعين أشرس المعارك وأكثرها ضراوة، حيث التقت القوات العراقية والإيرانية وجها لوجه. وأضاف: عندما كنا نتقدم إلى الخطوط الأمامية كان القصف يشتد، وكانت مشاهد الجنود الجرحى العائدين من خطوط التماس، تقشعر لها الأبدان.. في مقطع السلامجة كان الجو حارا جدا ولايطاق وكأنها جهنم..

 غادرنا قاعدة (الشعيبة) بواسطة مركبة عسكرية نحو (أبو الخصيب), حيث وقفنا هناك على عدة آليات عسكرية محطمة ومحترقة تابعة للجيش الإيراني، وناقلات الجنود.. وكانت طريقنا عبر ممرات (المملحات)، وهي برك مائية بجانب الطريق الرملي.. ويسير الجندي السائق بسرعة مفرطة، وقد تم طلاء زجاج الشاحنة الأمامي بالطين، مع عدم استعمال الأضواء الأمامية!!

أحد الصحفيين أصيب بدوار وآلام في الرأس، جراء الاهتزازات العنيفة للشاحنة التي كانت تسير في ممرات غير معبدة، وبسرعة غير مألوفة لبعضنا!!

 سألت الجندي المرافق لنا عن سبب  كل تلك الإجراءات، أخبرني أنها احتياطات ضرورية حتى لا يعكس زجاج السيارة وأضواءها موقعنا العدو! 

قطعت المركبة الشاحنة حوالي الساعة قبل الوصول إلى “أم قصر” المحادثة لمنطقة “راس البيشة”، والمقابلة لمدينة المحمرة أكبر المدن الإيرانية..

 كان هناك دخان كثيف يخنق الأنفاس.. مكثنا الليلة بـ”أم قصر” تحت دوي طلقات المدافع، وفي كل لحظة كنا ننتظر سقوط إحداها على رؤوسنا!! لأن أصوات المدافع كانت قريبة من مكان تواجدنا رفقة مجموعة من الجنود العراقيين المدججين بكل أنواع الأسلحة، والمستعدين للدخول في أية معركة مباشرة مع الجنود الإيرانيين..

 الدخول إلى الفاو  

من “أم قصر”، توجهنا صباحا إلى مدينة “الفاو”، وقبل وصولنا ببضع كيلومترات، بدأت تتراءى لنا على جنبات الطريق جثت لجنود ملقاة هنا وهناك، قيل لنا إنهم إيرانيون، وشاهدنا دبابات إيرانية محطمة، وهي من نوع “تشيفتن” بريطانية الصنع. وكان دخان الاحتراق يعم المكان..

عند بوابة “الفاو” استقبلنا العديد من الجنود العراقيين وهم يحملون أسلحتهم ويلوحون بشارات النصر. هذا الاستقبال لم يدم إلا بضع دقائق، تحسبا لهجوم إيراني مباغث، وحذرونا من التحرك خارج الإطار الذي حددتها القوات العراقية للوفد الصحفي، خوفا من انفجار لغم أرضي، فالمنطقة، كما أخبرونا، حولها الإيرانيون إلى مقبرة ألغام على طول الجبهات، وزرع الألغام كان الأكثر استخداما في حروب القرن العشرين..

 بمكان قريب كانت هناك أسلحة ضخمة، يبدو أنها لم تستخدم بعد، تركتها القوات الإيرانية، إذ لم يكن لها على ما يبدو الوقت الكافي لسحبها أو إتلافها!!

 مشاهد فظيعة تلك التي شاهدناها تثير الهلع في النفوس.. أشلاء جنود، خنادق أعدت من كل الاتجاهات وبداخلها عدد من الموتى.

 أيام عصيبة 

 كانت الأيام الثلاثة الأولى من تواجدي بالجبهة الخلفية حيث المعارك التي دارت هناك، أياما عصيبة، ذلك أنني لم أتعود طوال حياتي سماع طلقات نارية بهذه القوة والضراوة للمدافع والراجمات، لم أكن أعرف أين سينتهي بي المطاف في هذه المهمة الصحفية العصيبة المحفوقة بكل أشكال الفزع والخوف والرعب!! ودرجات الحرارة كانت بالجبهة مرتفعة جدا، لا يكاد المرء يتنفس إلا بصعوبة، هذه الحرارة  الشديدة، أفقدتني قوة الصمود، فقد شعرت بألم شديد في أذني، بفعل دوي طلقات المدافع، أحالني الضابط المكلف بالوفد الصحفي على طبيب عسكري، قدم لي إسعافات أولية للتخلص مؤقتا من ضغط الألم، قبل استكمال العلاج بعد العودة إلى بغداد، إذا ما سارت الأمور على ما يرام!!

خلال تواجدنا بالمنطقة، انتشر خبر بين الصحفيين يفيد بأن الرئيس العراقي صدام حسين، يتواجد قريبا قريبا من المنطقة، رفقة ضباط من غرفة عمليات قيادة الحرس الجمهوري.

العودة إلى بغداد

 كل تلك المخاوف والصعوبات تبددت بعد رجوعنا إلى بغداد، ودخولنا فندق “منصور ميليا” المطل على نهر دجلة بالمنطقة الخضراء، حيث كان هناك في استقبالنا شخصيات عراقية كبيرة، في مقدمتها وزير الإعلام آنذاك لطيف نصيف جاسم.. كانت بحق لحظات جد مؤثرة، عندما وقف المتحدث يشيد بشجاعتنا، وبحضورنا في جبهة الحرب.

 كانت لي عدة لقاءات مع عدد من القادة العراقيين. وكان الجميع ينتشي بالنصر الذي حققه الجيش العراقي. والجميع تنفس كابوس الحرب المدمرة.في شوارع بغداد.. بشارع السعدون، أو بشارع المتنبي، أو بشارع أبو نواس, أو بساحة التحرير، شوارع على غير عادتها، أصبحت تعج بالحركة، والجميع يتحدث عن أفراح العراق التي ستحيي لدى العراقيين نشوة الفرح والاعتزاز بالوطن.

وخلال السنة الموالية قامت السلطات العراقية بعملية إعمار العراق، وقد وجهت لي دعوة شرفية، كما حضر هذه المناسبة عدد من الزملاء  الصحفيين المغاربة من مختلف المنابر الإعلامية، وكانت مناسبة الإعمار والاحتفال بالنصر العراقي.

 *إشارة: – في العشرين من شهر يوليوز 1988 أصدر مجلس الأمن القرار وقم 598 المتضمن لخمسة بنود. 1- وقف إطلاق النار بين الطرفين. 2- الانسحاب إلى الحدود الدولية. 3- تبادل الاسرى. 4- عقد مفاوضات السلام. 5- إعمار البلدين بمساعدات دولية .

Visited 85 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عبد العلي جدوبي

صحفي مغربي