محمد بلاجـي .. سنوات “الإمام مالك”
المصطفى اجماهري
ازداد الدكتور محمد بن البشير بلاجي، بالحي المحمدي بالدار البيضاء سنة 1944. تلقى تعليمه الابتدائي والثانوي بالدار البيضاء. حصل على الإجازة من جامعة محمد الخامس سنة 1968، وعلى دبلوم الدراسات العليا من كلية الآداب بالرباط سنة 1987. حاصل على دكتوراه الدولة من كلية الآداب عين الشق سنة 1991. عمل، في بداية مسيرته المهنية، أستاذا بثانوية الإمام مالك بالدار البيضاء من 1968 إلى 1978، ثم بالمركز التربوي الجهوي، فأستاذا بكلية الآداب عين الشق من 1982 إلى حين تقاعده. خلال مسيرته العلمية أطر عددا مهما من الباحثين لنيل دبلوم الدراسات العليا وشهادة الدكتوراه. وهو عضو مؤسس ومنسق لمجموعة الأبحاث والدراسات حول “الثقافة الشعبية” بكلية الآداب عين الشق.
تلخص هذه الورقة مسار عشر سنوات قضاها ذ. بلاجي بثانوية الإمام مالك في الدار البيضاء، وما رافقها من وقائع وذكريات. وقد أعدت على إثر الزيارة الجماعية التي قام بها يوم السبت 26 فبراير 2022 إلى بيت الدكتور محمد بلاجي كل من المصطفى اجماهري ومبارك بيداقي وأحمد لعيوني وحمادي كيروم بصفتهم من أصدقائه ومن قدماء تلاميذه بالثانوية المذكورة.
يرى الدكتور محمد بلاجي أن فترة تدريسه بثانوية الإمام مالك خلال العشرية 1968-1978 تعد من أجمل فترات حياته وأغناها. فقد التحق أول عهده بالتعليم بهذه المؤسسة على إثر حصوله على الإجازة من جامعة محمد الخامس، فرع كلية الآداب بفاس. تخرج معه في نفس الفوج عبد الغني أبو العزم، وإدريس الملياني، وعبد الرحمان كاظمي، ومحمد عنيبة الحمري. هذان الأخيران التحقا به للتدريس بنفس المؤسسة. ويعتبر أن عمله بهذه الثانوية كان بمثابة عودة إلى النبع، فهو ابن الحي المحمدي حيث كان والده يملك به مخبزة تسمى “مخبزة المعلم البشير البولانجي”. وهو الحي الذي تعرف فيه على العديد من أقرانه المواهب بدار الشباب – الحي المحمدي مثل الشاعر أحمد هناوي، والمسرحي المسكيني الصغير السروت، اللذين أسسا معه، فضلا عن نشطاء آخرين، “جمعية رواد القلم” سنة 1962. وكانت الدار مقرا لفعاليات كثيرة ولجمعيات أخرى منها “ناس الغيوان” التي ستتأسس فيما بعد.
كان محمد بلاجي شابا في مقتبل العمر، وهو يلج باب ثانوية الإمام مالك، لأول مرة، فيتعرف على مديرها المرحوم العربي عمور، والحارسين العامين محمد عبدو الراضي وزايد أوحدو. بل ستتوطد علاقة الأستاذ الشاب بهذا الأخير بعدما وجد صعوبة في كراء شقة بحي بلفدير الأوربي، حيث توجد المؤسسة، لكونه شابا أعزب. فما كان من الأستاذ زايد أوحدو إلا أن رافقه عند الوكيل العقاري الفرنسي الذي أكرى له شقة بالرقم 32 من زنقة سواسون، قريبا من الثانوية، بمبلغ لا يتجاوز 150 درهما. ولما كان وقتها عازبا، كان أحيانا يتناول عشاءه في مطعم الداخلية مما يمكنه من الالتقاء، في المساء، بتلاميذه الداخليين.
أنيط بالأستاذ بلاجي تدريس مقرر الأدب العربي الذي كان يمتد من العصر الجاهلي إلى العصر الحديث. وبالإضافة إلى هذا المقرر دعي أيضا لتدريس مواد أخرى في مقرر الخامسة ثانوي وقسم الباكلوريا، مثل دراسة المؤلفات والتربية الإسلامية والأصول والفكر الإسلامي. إذ عوض السيميائي الراحل محمد مفتاح في تدريس المواد الشرعية. وكان عند حلول امتحان الباكلوريا ينسق مع سالم يفوت، أستاذ الفلسفة، لوضع أسئلة الامتحان كل في تخصصه: الفلسفة بالنسبة ليفوت، والفكر الإسلامي بالنسبة لبلاجي.
في هذه السنوات، من أواخر الستينيات وبداية السبعينيات، كانت غالبية المواد التعليمية تدرس بالفرنسية، وبالتالي كان غالبية الأساتذة فرنسيين. ويذكر ذ. بلاجي أن السيدة الشباني تعد أول أستاذة مغربية في سلك الإعدادي بمؤسسة الإمام مالك درست العربية. بينما ذ. العربي عمور أول مدير للمؤسسة، سواء في فترة الإعدادي أو الثانوي. وكان معه من الأساتذة محمد الخرشافي، الذي سيلتحق بالجامعة، ومحمد العاقل، الذي سيصبح محاميا. وفي 1973، التحق أستاذان جديدان بالثانوية، هما أمينة عوشر لتدريس التاريخ والجغرافيا وسعيد إهراي.
آنذاك كانت للأستاذ الشاب علاقات طيبة مع زملائه الأساتذة الأوربيين مثل مونيك هويير، وفلوشير، وروني بيريز. وقد رافقهم في رحلات مختلفة بناحية الدار البيضاء. بل إنه طور علاقة متميزة مع المستعرب روني بيريز، أستاذ اللغة الفرنسية، الذي حضر، مرات، للاستماع لدروس ذ. بلاجي في مادة الفكر الإسلامي وخاصة لبعض المحاور منها، مثل تلك، المتعلقة بالمرجئة والمعتزلة. وبعد مغادرتهما معا للثانوية، استمرت علاقتهما الثقافية، فقد التحق روني بيريز بمركز التوثيق “لاسورس” بالرباط التابع للكنيسة الكاثوليكية، حيث كان بعض الرواد الأجانب ينادونه هناك “الأب بيريز”، بينما كان ذ. بلاجي قد بدأ في تحضير دبلوم الدراسات العليا في الأدب الأندلسي. وهناك أطلعه بيريز على أطروحة الدكتوراه التي كان قد أنجزها في الأدب الإسلامي. ونظرا لحاجة ذ. بلاجي لمرجع خاص بالفترة الأندلسية يوجد بمكتبة الفاتيكان، فقد كتب بيريز مراسلة بهذا الشأن إلى المسؤولين هناك لتمكين ذ. بلاجي من نسخة للمرجع المطلوب. وللعلم فقد كان روني بيريز مرافقا للبابا يوحنا الثاني حين زيارته للمغرب في 19 غشت 1985.
ويذكر ذ. بلاجي أن غالبية الأساتذة المغاربة في فترة اشتغاله بالثانوي كانوا مصنفين في خانة التيار التقدمي، دون أن يكونوا، بالضرورة، منتمين عضويا لحزب في اليسار. فالفكر السائد آنئذ، سواء بالمغرب أو بكثير من دول العالم، كان ميالا للتقدمية. وكان ذ. بلاجي قد اقترب فترة من الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية دونما انتماء إليه. ولم يكن ذلك استثناء يخصه ما دامت غالبية أصدقائه وزملائه قد تأثرت بهذا التوجه. فإلى حدود منتصف الستينيات مثلا بقي الفكر الناصري مهيمنا في أذهان كثير من الشباب انطلاقا من تأثير بعض الأساتذة العرب. وللتذكير فقد تتلمذ ذ. بلاجي، وعدد من زملائه، بثانوية لحلو على يد أساتذة أغلبهم من المصريين وبعض السوريين والسودانيين. بل إن مديرها عبد القادر الصحراوي بدوره كان مجازا في الأدب من جامعة القاهرة. كل هذا كان له أثره في تلاميذ الستينيات والسبعينيات.
وفي سنة 1970 اندلعت بعض الإضرابات بثانويات الدار البيضاء، ثم امتدت لثانوية الإمام مالك. وخلال أيام الإضراب زار المؤسسة عامل إقليم الدار البيضاء آنذاك الكولونيل بوعزة أبو الحمص مع مجموعة من مساعديه. وفجأة ولج إلى قسم ذ. بلاجي مرفوقا بالمدير العربي عمور. انتبه العامل إلى كلمة “إضراب” مكتوبة بالفرنسية في السبورة، فسأله عن صاحبها، أجابه الأستاذ بأن لا علم له بشيء. فعاد ليسأله عن سبب عدم مسحه للكلمة من السبورة، فكان الجواب أنه لا يعرف الفرنسية. وبعدها لم يجد العامل ما يلاحظ عليه سوى الأمر بمحو الكلمة ثم غادر المؤسسة. وقتها كانت الحركة التلاميذية والطلابية تمثل رأس الحربة في ما كانت تعرفه الدار البيضاء من إضرابات واحتجاجات.
عاش ذ. بلاجي هذه المرحلة بكل توتراتها السياسية والاجتماعية. وفي هذا الصدد فقد عاين اعتقال زميله سالم يفوت أستاذ الفلسفة من داخل ثانوية الإمام مالك، حيث قضى، هذا الأخير، فترة في السجن. وخلال فترة غيابه الاضطراري تم تعويضه بالأستاذة الغراس، علما أن ذ. يفوت، بعد إطلاق سراحه، سيلتحق بكلية الآداب بالرباط. وكان للحركة النقابية أيضا امتدادها القوي داخل فئة الأساتذة سواء بثانوية الإمام مالك أو بغيرها من المؤسسات التعليمية. ويذكر ذ. بلاجي أن زميله، الأقدم منه في المؤسسة، الفضيل الإدريسي، وكان نقابيا معروفا، دعاه مرة إلى مرافقته إلى مركزية الاتحاد المغربي للشغل. لكن ذ. بلاجي لم يواظب على مرافقته بحكم انشغالاته التدريسية والشخصية. فبالإضافة إلى وظيفته في التدريس، اختير مكلفا باللجنة الثقافية، وذلك على إثر مشاركته في دورة تكوينية بالمعمورة خصصت لتدارس تنظيم الأنشطة الموازية بالمؤسسات التعليمية. فكانت الفترة خصبة أيضا بالنسبة للتلاميذ من حيث تنظيم حلقات النقاش، وحضور المحاضرات داخل نادي الثانوية، وعرض المسرحيات. وكان ذ. بلاجي أول من نسق مجلة لإبداعات تلاميذ ثانوية الإمام مالك تطبع بالستانسيل وتضم مقالات وقصائد وأركان أخرى من بينها ركن الكاريكاتير.
وفي ظروف عديدة، فقد بقيت علاقات ذ. بلاجي مستمرة مع الكثير من تلامذته بالثانوية المذكورة الذين أصبحوا جامعيين أو أطرا أو كتابا معروفين، مثل الروائي محمد غرناط، والجامعي محمد البكري، والناقد السينمائي حمادي كيروم، والمسرحي محمد قاوتي، والمؤرخ عيسى العربي، والإطار إبراهيم أوسيرو. كما يتذكر الأستاذ بكثير من الأسى والحسرة تلميذه محمد البقالي، مؤسس “فرقة مسرح البخلاء” بثانوية الإمام مالك، الذي توفي في حادثة سير. كان الفتى، وهو تلميذ في قسم الباكلوريا، يبحث عن نفسه بين التيارات الفكرية. ارتمى، في البداية، في حضن التصوف، مما جعله يفاتح أستاذه بشأن مرافقته لمقر الزاوية البودشيشية التي كان البقالي قد أصبح يتردد عليها. وفعلا رافقه ذ. بلاجي مرة واحدة قصد الاطلاع والتعرف على الرواد. لكن لم يعد إليها بعد ذلك.
بعد 1978 سينتقل ذ. بلاجي إلى المحمدية، وهناك سيدرس سنتين بثانوية الجولان بمعية البلاغي محمد العمري، وذ.محمد العبدلاوي. ثم سيعود بعدهما إلى الدار البيضاء للتدريس بثانوية لحلو، التي مر بها تلميذا أيام المدير عبد القادر الصحراوي. وبحلول سنة 1981، فتحت كلية الآداب بعين الشق فالتحق بها كأستاذ مساعد بعد مباراة توفق فيها إلى جانب أربعة أساتذة آخرين اعتبروا من مؤسسي شعبة اللغة العربية بهذه الكلية. ومن ثمة بدأ مسارا جامعيا حافلا بالإنتاجات والعطاءات زاوج فيه بين التدريس والبحث، وكان من ثماره دبلوم الدراسات العليا تحت إشراف المرحوم الدكتور عزة حسن، الذي استغرق اشتغاله فيه سبع سنوات. وعني موضوعه بتحقيق كتاب “روضة الأزهار” لأبي علي الحسن بن علي القرطبي، ثم حصوله على دكتوراه الدولة من كلية الآداب عين الشق سنة 1991.