الوزير إدْبهي.. من الماوية وتحريض سارتر إلى الترفيه عن المهاجرين
عبد الرحيم التوراني
أطلقوا عليه لقب “الوزير”، ويقصدون “وزير الثقافة المغاربية”. أما هو فيتحدث عن نفسه بالقول: “لقد استرشدت في حياتي باللقاءات والمصادفات السعيدة. وتم تقديري مسبقًا، حيث قادتني دروبي إلى حد ما إلى اتخاذ خيارات معينة. لكن الحياة وتقلباتها ساعدتني، بل دفعتني غالبا نحو الأفضل”.
اللقاءات والصدف الجميلة التي ميزت مراحل متعددة من مسيرته، “هي التي صنعت ما أنا عليه”، يؤكد مصطفى إدبهي، ابن مدينة الدار البيضاء، الذي وجد نفسه من دون تخطيط مسبق يقوم بدور “مُمَرِّر”، أو همزة وصل، في خدمة الثقافة والهجرة وعالم العمال المهاجرين.
اسمه عبد الله، ولكن بمرور الوقت وجد الجميع ينادونه بمصطفى، صار بمثابة اسمه الحركي.
عندما وصل مصطفى إدْبهي إلى فرنسا، بالكاد وهو في العشرينيات من عمره، كانت السنة 1968. تلكم السنة المميزة، التي شهدت جملة من الاضطرابات والأحداث الثورية التي قلبت كل شيء، ليصبح كما لم يكن من قبل، إنها انتفاضة ماي 1968، وقد زلزلت فرنسا وامتدت أصداؤها إلى باقي العالم.
بفضل منحة حصل عليها في المغرب تمكن إدْبهي من السفر إلى بلجيكا بغاية دراسة صناعة المنسوجات. لكنه أخطأ موعده وفاته الالتحاق بيوم التسجيل، مما اضطرره للانتظار لتاريخ التسجيل الموالي. لكن كان عليه أن يعول نفسه أولا ويكسب لقمة العيش. هكذا عمل لمدة ستة أشهر كأمين مخزن في مستودع في شركة Samaritaine في باريس، ثم مراقبًا. ومدير الطلبات في مؤسسات Marchal في Gennevilliers ،Hauts-de-Sein، لمدة ستة أشهر أخرى. وبعد العديد من المغامرات انتهى به المطاف عاملا في مصنع السيارات Renault Billancourt “رينو بيلانكور”. ولم يكن مصطفى ساعتها مدركا أن هناك حياة جديدة كانت بانتظاره. حيث أن ما كان من المفترض أن تكون مجرد محطة عبور، تحولت إلى مغامرة ثقافية وإنسانية، يسميها إدبيهي بـ”مغامرة العمر”.
كانت باريس التي عاش بها مصطفى، بطريقته الخاصة مدينة “خالية من الهموم، مليئة بالأحلام”، إنه الشعور بالحرية المستوحاة والمستمدة من “انتفاضة ماي 68”.
“كانت باريس بالنسبة لي، ولآخرين كثيرين غيري، محصورة في جمال الشوارع والمسارح الباريسية وصالات السينما. لما وصلت إلى “رينو بيلانكور”. اندمجت بسرعة في العالم النقابي للعمال الذين كانوا من جنسيات مختلفة”. لقد كان مصطفى بصدد اكتشاف عالم جديد، وكان عليه أن يجد اتجاهاته ويتلمس طريقه.
تم تعيين مصطفى إدْبهي في أكتوبر 1969 في “رينو”، وسرعان ما حصل على وظيفة مراقب، حيث أتيحت له الفرصة لمعرفة كيفية القراءة والكتابة باللغة الفرنسية، ولم يكن هذا هو الحال بالنسبة لأمثاله من العمال في ذلك الوقت. كانت وظيفته هي فحص المركبات المثبتة على السلاسل. “كان هناك عمل، ولكن كان هناك أيضًا الباقي، أي الحياة بتفاصيلها اليومية، وقبل كل شيء اللقاءات الإنسانية، واستكشاف أوضاع العمال والمهاجرين”.
بشكل طوعي، تقدم مصطفى لممارسة مهام اجتماعية وثقافية للعديد من نشاطات المصنع تحت لواء نقابة CGT.
وأحبه العمال، “كانوا يأتون إلي كلما رغبوا في إرسال خطاب أو ملتمسات إلى الدولة، ولكن أيضًا عندما أرادوا ببساطة فهم منشورات النقابة. كانوا يدركون جيدا أنه يمكن لهم أن يعتمدوا علي، وكنت واحدا منهم. كنت محظوظًا بما يكفي لأتمكن من تحقيق شيء ما، لمساعدتهم ببساطة. لذلك لم أكن أتردد”.
شيئًا فشيئًا، أصبح مصطفى إدْبهي مهتمًا بالحياة غير المهنية لرفاقه العمال، والتي كان يدركها ويستوعبها جيدا، وقبل ذلك كان يتقاسمها معهم. هكذا انضم إلى المجلس النقابي للعمال. وانتهز الفرصة على الفور لتقديم ورش عمل لمحو الأمية لصالح زملائه العاملين. في هذا السياق، خطرت لمصطفى فكرة إضفاء لحظات مشرقة على الحياة اليومية للعمال وأسرهم، من خلال تنظيم حفلات موسيقية وأنشطة ثقافية، بالاعتماد على لجنة مجلس العمال والنقابات.
“لقد عشنا في زمن خاص، إنه فجر عقد السبعينيات. فإلى جانب الأنشطة في وضح النهار، أي الحفلات والأنشطة المرتبطة بمناسبات دينية معينة، مثل عيد الفطر وعيد الأضحى وأعياد استقلال دول فريقيا وافريقيا الشمالية، كان من الضروري أيضًا القيام قدر المستطاع بالأنشطة شبه السرية التي لم تكن تخلو من مخاطر، والتي سنستوعبها اليوم في “المقاهي الأدبية”، التي تمكنت من إدامتها من عام 1972 إلى عام 1986”.
بما أن دخول مباني المصنع كان ممنوعا على أي شخص من الخارج، قام العمال بعد ذلك بنقل الفنانين والكتاب بطريقة سرية، وطلب منهم الاستلقاء في الشاحنة لتجنب رؤيتهم عند الحاجز الأمني. وهذا يبدو اليوم غير معقول. من بين هؤلاء، يذكر إدبيهي الكاتب الطاهر بن جلون، الذي رفض في البداية أن يكون جزءًا من هذه المغامرة، لكنه في النهاية اقتنع وقدر أهمية التبادل مع اللجنة النقابية للعمال في “رينو”.
سيقضى إدْبهي حياته المهنية في مصنع السيارات، من مراقب خط، أولاً في المحركات، وصولا إلى التحكم في الهيكل المعدني للسيارة. هنا في 1969 سيلتقي بالمناضل الماوي جاكي لافورتون، أحد مؤسسي “لجنة النضال” الماوية. دربه مصطفى إدبيهي على مهامه، وأصبحا صديقين ورفيقين. وشاركا معا في الحملات التي قادها الماويون في لجنة “رينو” النضالية، عبر توزيع منشورات في المعمل.
في أكتوبر 1970، عندما وصل الفيلسوف جان بول سارتر لإلقاء خطابه الشهير وسط عمال “رينو”، كان إدْبهي حاضرا. في نفس الورشة عمل أيضًا بيير أوفيرني، وعندما حدثت عملية اغتيال الأخير على يد أحد حراس المصنع، كان مصطفى إدْبهي مع عمال “رينو” ممن حضروا مراسيم الدفن وشيعوا الجنازة.
تردد مصطفى على المناضل الجزائري محمد بودية، من مؤسسي جبهة التحرير الجزائرية، وعضو الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، مدير مسرح باريس في بولوني، الذي اغتاله الصهاينة الإسرائليون سنة 1973 بباريس، وساهم مصطفى معه في أنشطة فنية. يقول مصطفى أن المناضل محمد بودية كان على صلة بالمخرج المسرحي الطيب الصديقي، وكان مبرمج مسرحية الصديقي “سيدي عبد الرحمن المجدوب”، ومسرحية “سيدي ياسين في الطريق”، التي حولها الصديقي لاحقا إلى فيلم سينمائي بعنوان “الزفت”. ويضيف أن مقر مسرح بودية كان غير بعيد عن مصنع “رينو بيلونكور” في المنطقة الصناعية بضواحي باريس، قرب ملعب كرة القدم الشهير “بارك دو برنس”.
وقد انتسب مصطفى ادبهي لفترة وجيزة إلى الحزب الشيوعي الفرنسي.
لم يتوقف إدبهي عن مزاولة نشاطه الثقافي والفني الموازي لنضاله النقابي. ومن بين أمور أخرى، تمكن من برمجة مسرحيتين للمخرج المسرحي المغربي الطيب الصديقي في عام 1971. بعد ذلك بعام، جاء دور الجزائري كاتب ياسين بمسرحية “محمد خذ حقيبتك!”، وتتناول قضية العنصرية والعنف ضد المهاجرين. وكان الدخول مجانيًا لعمال “رينو”.
في نفس الوقت نجح إدبهي في تنظيم حفلات باريسية للنجمة اللبنانية “الشحرورة” صباح، ولكن أيضًا للمطربين المغاربة عبد الوهاب الدكالي، وعبد الهادي بلخياط ونعيمة سميح، ولاحقًا لفنانين متنوعين مثل المغنية الشعبية نجاة عتابو، والجزائري عبد القادر شاعو، وللمجموعة الغنائية الأسطورية “ناس الغيوان”، وكذلك مجموعة “كارت سيجور” (بطاقة إقامة) للفنان رشيد طه، وغيرهم.
لقد تمكن العديد من هؤلاء الفنانين، الذين أصبحوا أصدقاء شخصيين لمصطفى إدبهي، من إطلاق حياتهم المهنية على المستوى الدولي، بفضل هذه الحفلات الموسيقية، وهذه اللحظات الدافئة من المشاركة مع الطبقة العاملة وعالم المهاجرين. كما أتيحت لإدبهي الفرصة لاصطحاب فنانات شعبيات، مثل الشيخة الحاجة الحمداوية والشيخة لطيفة أمل، إلى قاعة الحفلات “أولمبيا” المرموقة وسط باريس.
“لقد عملت في هذه المشروع مع العديد من الجمعيات ومؤسسات التواصل، بما في ذلك جمعية العمال المغاربة في فرنسا (ATMF) التي كان وراءها يساريون من منظمة “إلى الأمام”، حيث شاركت إلى جانبهم في تنظيم “الموسم الثقافي” الذي استمر ثلاثة أيام، واستقبل أزيد من 15 ألف أتوا من مختلف أنحاء أوروبا. يؤكد مصطفى “أن “الموسم” كان حدثا رائعا بكل المقايسس، هو الأول من نوعه شهدته أوروبا في ذلك الوقت”. كما لا ينسى عمله مع التلفزيون، ولا سيما قناتي FR3 وMosaik”.
فجأة، أصبح مصطفى إدبهي “مديرًا ثقافيًا”، أي مديرًا للشؤون الثقافية. بفضل شبكة علاقاته الفنية الواسعة في بلدان المغرب العربي وفي إفريقيا، بل حتى في الشرق الأوسط أيضًا.
“تعرفت على عالم الفنانين، وذهبت إلى الجزائر وتونس والمغرب للتفاوض على إمضاء العقود. كنت أسافر بالطائرة مع حقيبتي الصغيرة. وتمكنت من مقابلة العديد من الفنانين وكذا الدبلوماسيين ورجال الأعمال… كان لدي دور مدير، لكن في المصنع، كنت أرتدي البلوزة الزرقاء كعامل بين زملائه العمال”.
سنة 1986 كانت بمثابة نقطة تحول بالنسبة لإدبهي. بسبب كفاحه ونشاطه الثقافي، وأيضًا بسبب انخراطه في العمل النقابي، خصوصا أثناء الإضرابات، سيدفع الثمن، ليكون ضمن الموجة الأولى من عمليات الفصل من المصنع، والتي شملت حينذاك 120 عاملًا.
“عندما تمت إقالتي، غادرت “رينو بيلانكور” وانضممت إلى جمعية ثقافية اسمها Dialogue plus، حيث كلفوني بمهمة قسم “المغرب العربي”. بعد ذلك، بدأت عملي الخاص كمنتج فني. ثم أصبحت رسميًا “مدير فنان” ومنظم حفلات، باختصار: مدير أعمال”.
ومن المثير للدهشة أن “رينو” بدأت تتعامل مع وكيل الأعمال الجديد مصطفى إدبهي، وصارت تلجأ إليه للتعاون معها في الأنشطة الثقافية. كما كانت تتصل به مصانع أخرى…
لقد ساهم إدبهي بطريقته وأسلوبه الخاص، في إشعاع العديد من المواهب المغاربية، وجعل الثقافة عنصرًا للتنوع وعاملًا للحراك الاجتماعي. حتى الرابط بين البلد الأم والأرض المضيفة هنا وهناك، ظل رابط أيضًا بين الثقافات والأديان والتخصصات الفنية المختلفة. لهذا السبب عمل على مر السنين مع أيقونات فنية وثقافية ذات مواهب فتمكنت من تجاوز الحدود. مثال من بين أسماء أخرى، المغنية سافو، الفنانة الفرنسية – المغربية الشهيرة ذات العقيدة اليهودية، وذلك في حفل رعته منظمة اليونسكو.
في 2010 استدعاه إدريس اليزمي رئيس مجلس الجالية المغربية المقيمة بالخارج للاستفادة من خبرته. وإلى جانب مهام أخرى، انكب إدبيهي على العمل في إنجاز أنطولوجيا خاصة بموسيقى وأغاني الهجرة، من بدايات القرن العشرين إلى اليوم، وبمختلف الألوان واللغات واللهجات. إلا أن هذا المشروع النوعي والضخم لم يكتب له الظهور بسبب نقص التمويل. وفي 2015 غادر إدبيهي مجلس الجاليات..
اليوم، يعمل مصطفى إدبهي في “مؤسسة ليلى علوي”، كنائب لرئيسها، إلى جانب كريستين علوي والدة ليلى، هذه المصورة الفوتوغرافية الشابة التي راحت ضحية عملية إرهابية في واغادوغو ببوركينا فاسو، في عام 2016 وهي في سن 34 من عمرها.
<
p style=”text-align: justify;”>غالبًا ما تتم دعوة إدْبهي للتحدث عن ماضيه كعامل في شركة رينو في المدارس والثانويات في فرنسا، ولكن نادرا ما يحصل ذلك في بلده المغرب.