مع صدوق نور الدين عند مبارك الدريبي
المصطفى اجماهري
في سنة 1978 كنت ما زلت أتلمس طريقي في عالم الكتابة. صدرت لي زمنها أول مجموعة قصصية تحت عنوان “أمواج”، أي في نفس الوقت تقريبا الذي صدرت فيه مجاميع قصصية لأدباء شباب من بينها “تمزقات” لمحمد صوف، و”أنغام العشق والثورة” لعبد الكريم التمسماني، و”سفر في أودية ملغومة” لمحمد غرناط، و”الألوان والجدار الزاحف” لمحمد دراعو. بيد أن ما وحد هذه الإصدارات، من بين أشياء عدة، صدورها عن نفس المطبعة، مطبعة الأندلس المقابلة لسينما الكواكب بشارع الفداء في الدار البيضاء.
بعد أيام قليلة على صدور مجموعتي القصصية، نشرت جريدتا “العلم” و”المحرر” في صفحاتها الثقافية خبر صدورها. كان لهذه الصفحات الثقافية زمنئذ شأن كبير كوسيلة إخبار وتثقيف، وكانت أيضا بمثابة الرابط الأساس بين الكتاب في المغرب من شماله إلى جنوبه.
وهكذا، ذات صباح، طرق بابي ابن الجيران المرحوم محمد بوحريص، أستاذ التعليم الابتدائي فيما بعد، الذي أمدني بخمسة دراهم وطلب نسخة من مجموعتي القصصية. قال لي:
– إنني أتابع دراستي بقسم الباكلوريا مع صدوق نور الدين وإنه يطلب نسخة من مجموعتك القصصية.
كانت تلك بداية معرفتي بالزميل نور الدين، الذي كان وقتها بدأ ينشر قصصا ومقالات بجريدتي “العلم” و”المحرر”. كان سنه حينها تسعة عشر سنة وكنت أكبره قليلا. كان، هو المنتمي لمدينة آزمور، قد جاء إلى القسم الداخلي بثانوية ابن خلدون العريقة بالجديدة، لاجتياز امتحان الباكلوريا. وبحكم كونه كان عريفا في القسم الداخلي فقد دعاني مرة إلى قراءة بعض قصصي أمام التلاميذ الداخليين. وهي لعمري أول قراءة عمومية قمت بها.
كانت الجديدة وقتها مدينة بحجم إنساني، محصورة على صعيد الجغرافيا. لم تكن بها آنذاك جامعة ولا كلية ولا مدرسة عليا ولا جريدة جهوية ولا فرعا لاتحاد كتاب المغرب. إلا أن ذلك لم يكن يعني الفراغ البثة. بل كانت تعرف إرهاصات ثقافية نشأت بمجهودات بعض الأساتذة المغاربة والفرنسيين، فضلا عن حركية مسرحية كان يقودها محمد سعيد عفيفي، وحضور سينمائي نشيط معزز بوجود ثلاث قاعات سينمائية تقدم أفضل منتوجات الفن السابع، ووجود جالية أجنبية لا بأس بها ساهمت في تنشيط المدينة وعصرنتها، إلى جانب النادي السينمائي.
وبحكم صغر المدينة ومحدودية مجالها على جميع المستويات، فلم يكن يقطن بها آنئذ أي اسم معروف في عالم الكتابة أو البحث الأكاديمي. وعليه كان من الطبيعي أن جميع الأسماء المعروفة بانتمائها للمدينة قد هاجرت إلى الدار البيضاء أو الرباط، مثل عبد الكبير الخطيبي، وأستاذ الاقتصاد الطاهر البحبوحي، والمخرج لطيف لحلو، ناهيك عن أطر الإدارة العليا مثل إدريس جطو، والدكتور مصطفى المصمودي، والدكتور مصطفى الكثيري. هكذا وجدنا أنفسنا نحن ثلاثة كتاب شباب وحدنا كيتامى في شبه جزيرة. فكنا نجتمع بمقهى “لاماركيز” المقابلة للمسرح البلدي لقراءة كتاباتنا ومتابعة الوضع الثقافي. وأقصد بالثلاثي الناقد صدوق نور الدين والشاعر محمد نجيم وأنا. بينما كان رابعنا، ويكبرنا سنا، لا يلتحق بنا إلا لماما وذلك بحكم انشغالاته المهنية والحزبية. هذا الأخير هو القاص محمد البحتوري، القادم من وادي زم. كان أستاذا للتعليم الثانوي، ومسؤولا عن فرع الاتحاد الاشتراكي للقوات الشعبية بالجديدة، وعضوا بالمجلس البلدي. جمعنا بالمرحوم البحتوري الجانب الأدبي والثقافي.
كان الصديق محمد نجيم، الذي يعيش اليوم بآسفي، شاعرا عصاميا، يكتب الشعر بقلبه وجوارحه. اضطرته ظروف عائلية واجتماعية ليتوقف عن الدراسة في وقت مبكر ليساعد أباه في محله التجاري لبيع المواد الغذائية. إلا أنه، وفي نفس الوقت، كان ينهل الشعر من المجلات والدواوين التي يشتريها بكثرة ويقرأها بغزارة. كان مغرما بمراسلة الأدباء والشعراء ورجالات الصحافة، وينشر قصائده داخل المغرب وخارجه.
كنا ثلاثة شباب نعيش وضعية اجتماعية هشة نمني النفس بتجاوزها بالكد والقراءة. جمع بيننا شغب الكتابة وشغف المكتوب، فكنا نلتحق، في أوقات معلومة، بمقهى لاماركيز وسط الجديدة، لتبادل الأفكار ومتابعة الكتابات والإصدارات والأسماء التي تظهر في الصفحات الثقافية لملحقي “العلم”و”المحرر”. لم يكن هناك اسم كاتب مغربي معاصر نجهله. فعن طريق هذه الوسائط تمكنا من معرفة الأسماء الرائجة في عالم الكتابة بربوع المغرب ومنها ربع الغرب. وقصدي من كلمة “الغرب” هنا هي مدينة القنيطرة. فقد كانت هذه التسمية شائعة وقتها بين أهل الجديدة ومنطقة دكالة عموما. ثم إن أسماء مثل إبراهيم السولامي، ومبارك الدريبي، وإدريس الصغير، والعربي بنجلون، وعبد الرحيم مودن، ومصطفى يعلى كانت لدينا معروفة.
في أحد لقاءاتنا بمقهى “لاماركيز” طرح الأخ صدوق نور الدين فكرة القيام بزيارة ودية لكتاب القنيطرة عبر الاتصال بالأخ الأديب العربي بنجلون. والحال أنه لم تكن لنا وقتها سابق معرفة مباشرة بهؤلاء الأدباء. بل إن فكرة الزيارة جاءت بكل عفوية، فقط كاستجابة لنداء الكتابة ورغبة في التعرف على الآخر. عبرت عن موافقتي على الفور، بينما تفهمنا وضعية الصديق محمد نجيم الذي لم يكن بمستطاعه التخلي عن متجر والده. قال لي الأخ نور الدين إن هناك في القنيطرة مقهى اسمها “طارق” كائنة بشارع محمد الخامس يجتمع فيها كتاب المدينة وسوف نلتقيهم هناك.
في اليوم المحدد أخذنا الحافلة من الجديدة إلى محطة بنجدية بالبيضاء ومنها إلى القنيطرة. وبمقهى “طارق” وجدنا في انتظارنا القاص الراحل مبارك الدريبي الذي رحب بنا وسقانا شايا وقهوة. ثم سرعان ما قدم الأستاذ العربي بنجلون الذي رحب بنا بدوره وألح علينا لقضاء الليلة معهم في القنيطرة. ومن جميل الأشياء أنه حتى صاحب المقهى ونادلها كانا على علم بقدومنا، فكان كلما حل كاتب بالمقهى إلا ويخبرانه بأن الجديديين وصلا. رتب الأخ العربي بنجلون برنامج ذلك اليوم، حيث قمنا بجولة في المدينة التقينا خلالها بالقاص إدريس الصغير، والقاص عبد الرحيم مودن، والقاص محمد سعيد سوسان، والقاص مصطفى يعلى، والقاص أحمد بطا. هذا الأخير صاحب المجموعة القصصية اليتيمة “أطفال يكبرون رغم أنفهم”، دعانا إلى وجبة غداء في منزل الأسرة مع الأخوين الدريبي وبنجلون. وكانت المناسبة لمعرفة أعمق بتجربة كل منا وظروفه الخاصة في عالم الكتابة. ثم استكملنا حديثنا في بيت الأستاذ العربي بنجلون الذي حدثنا عن مساره المهني والعلمي وبعض الأشياء الخاصة في حياته والتي تحدث عنها بتفصيل، فيما بعد، في سيرته الذاتية “أنا الموقع أسفله” (الصادرة عام 2012). كما أطلعنا على مكتبته العامرة والتي حفلت تقريبا بكل ما صدر للكتاب والباحثين المغاربة. وبعد العشاء في بيت الأخ بنجلون انتقلنا إلى المبيت بمنزل الراحل مبارك الدريبي. وكم كانت دهشتنا كبيرة حينما قدم لنا الراحل شايا ومأكولات أخرى، جعلتنا نستحيي من أنفسنا ونقول للرجل ضاحكين:
– يا أخ مبارك لقد جئنا بحثا عنك لا عن وليمة.
في تلك الليلة الدافئة حدثنا الدريبي طويلا عن جمال القنيطرة إبان فترة الحماية، وعن الشركة الفلاحية التي كان يشتغل بها محاسبا، وعن شغفه بالروائي الفرنسي ألبير كامو، وصداقته الطويلة مع الروائي الراحل محمد زفزاف، فكلاهما ينتميان لمنطقة الغرب. كان الدريبي متصوفا نوعا ما في عالم الكتابة حين تأتيه فكرة ما يخاف أن ينساها فيكتبها في وريقة ويرميها في كيس صغير معلق بحائط بيته. أطلعنا على ذلك الكيس معتبرا إياه بمثابة كنز للأفكار. كان الدريبي وقتها معروفا في الساحة الثقافية المغربية بنصوصه القصصية المتميزة على صفحات “العلم الثقافي” ومجلة “أقلام”. وهي قصص ضمتها مجموعته القصصية “عيون تحت الليل” الصادرة عن منشورات اتحاد الكتاب العرب بدمشق.
وستمر السنون ثم تنقطع عنا أخبار الدريبي إلى آن سمعنا بأنه حط الرحال بمدينة وادي زم. فقد أرغمته ظروف قاهرة على مغادرة القنيطرة للاشتغال بعيدا عنها. اضطر لذلك بحثا عن لقمة عيش شريفة بعرق الجبين وكد اليدين لأنه لم يتمكن حينها من العثور على عمل بالمدينة التي خصها بحبه وإبداعه. ولنا أن نسأل، ولو بعد مضي الأوان، كيف عجزت مدينة وافرة الخيرات مثل القنيطرة عن إيجاد شغل شريف لأديب من أبنائها البررة. وكان هذا هو ما حصل بالضبط للشاعر الجديدي محمد نجيم حيث لم يتمكن من إيجاد شغل قار بمدينته فهاجر نحو آسفي، مواصلا، من هناك، نشر نصوص تنضح بالحياة والصدق بعيدا عن الأضواء والضوضاء.
في ذلك اليوم البعيد من زمن السبعينيات، حدثنا مبارك الدريبي عن تصوره لشخصية الكاتب ودوره في الحياة. إذ كان يرى بأن الكاتب ينبغي أن ينشد الحرية والاستقلالية ويترفع عن بؤس السياسة لأنها، في الحالة العربية، تفرق أكثر مما تجمع. قال لنا ما معناه: “إن الكاتب الحر لا يعزف على نغمة القطيع”. وكانت قولة الدريبي تلك قد ذاعت في المجالس الخاصة وجرى تأويلها خطأ ممن اعتبروا أنفسهم “مناضلين”. ومنهم من أسرع بنقلها، بعد ذلك، مصبوغة بنظرية المؤامرة إلى رفيق الدريبي في الكتابة الأديب محمد زفزاف، ملمحين أن الدريبي إنما يقصد من قولته تلك جهة معينة. ومضت أيام وعرجنا على زفزاف في حي المعاريف بالدار البيضاء فوجدناه مستاء بعض الشيء من الدريبي بسبب هذا التصريح. كان موقف زفزاف أنه لا ينبغي على كاتب من عيار مبارك الدريبي إطلاق الكلام على عواهنه. وفعلا، دافعنا، من جهتنا، عم اعتبرناه رأيا شخصيا لكاتب لم يقصد الإساءة لجهة محددة، بقدر ما انتقد ما اعتبره نوعا من الوصاية على المبدع. ثم كيف لأحد أن يزايد على موقف الدريبي، المناضل في صفوف المقاومة المغربية. إذ ألقي عليه القبض سنة 1954 ولم يفلت من الإعدام إلا بأعجوبة. وقد أكد التاريخ، سنوات طويلة بعد ذلك، أن رأيه كان سديدا.
لم تكن تلك فرصتنا الوحيدة لزيارة أدباء القنيطرة، بل ستتلوها زيارة أخرى، سنة 1980، بدعوة كريمة لحضور عرس الأخ العربي بنجلون. اصطحبنا زميلنا القاص محمد صوف في سيارته. وفي هذه الرحلة الثانية تعرفنا على أدباء آخرين من بينهم القاص محمد قنديل بعاير والشاعر المرحوم محمد الطوبي. أما القاص مصطفى الكليتي فكان ما زال لم يلتحق بالقنيطرة بعد.
أعود لأقول إنني وزميلي صدوق نور الدين مدينان لإخواننا من كتاب القنيطرة بما حظينا به، من قبلهم، من حسن المعاملة وجميل التعامل. فقد كنا وقتها في بداية مشوارنا في عالم الكتابة بينما كانوا هم أسماء معروفة في المشهد الثقافي المغربي. ومن حينها ظلت القنيطرة في وجداننا أيقونة من الزمن الجميل.