الكاتب الافتراضي – الحقيقي

الكاتب الافتراضي – الحقيقي

محمد بوحمام

لا أحد يستطيع أن يكتب عن ادريس الخوري، إلا با ادريس شخصيا. وقد فطن لذلك قبل الرحيل، بحسه الشاعري النافذ الذي لا يعكس بتاتا ظاهره في شيء، حين كتب عن الكاتب المفترض، الذي لم يكن سواه. 

إدريس الخوري الذي أعرفه، متصالح مع نفسه إلى حد بعيد، أبعد مما يتصوره الآخر عن شخصه المركب من طينة ناذرة.. فقد أرغم الجميع على التعود على بّا ادريس الظاهرة، بّا ادريس المحبوب/ المكروه، السليط الذي لا يهادن، ولا يخفي مشاعره ومواقفه من أي كان. وقد جرت عليه هذه المسألة ويلات وويلات في البداية، وعداوات وحروب كلامية، كان يعرف كيف يتصدى لها، وينقل فصول معاركها إلى صحفات الجرائد، بجرأته المعتادة، بحمولة معرفية، تتجاوز السطحي العابر في ندوات أو منتديات عابرة أو جلسات حميمية مخترقة من طرف بعض الفضوليين أو المتعالمين، أو المتطاوسين الأكادميين، الذين لم يسلم منهم أحد من لسانه ولا من حدة قلمه. 

بّا ادريس لا يغفو له جفن إلا بعد تصفية تركة جميع حسابات وترسبات المخزون اليومي، والبصم عليها في الآن والأوان دون إخضاعها إلى أي رقابة أو مراجعة، خطا مستقيما كخيوط المطر، التي تنفذ إلى العمق، قصة خاطرة مقالة أدبية أو بروفايل لشخصية افتراضية أكثر واقعية من الواقع المنتج لها، بمرجعيات ضاربة في عمق التربة المغربية الأصيلة. 

إلا أن أشد الغاضبين والمتحاملين، تعودوا على ّا ادريس كما هو، بعنفه الصاخب/الناعم، وشغبه الجميل، الذي يضفي على الجلسات طابعا خاصا، وأصبحوا مع مرور الوقت، من المتهافتين على حجز مقعد في حضرة مبتكر “النميمة المكتوبة”، وسلخ الجلد بتقنية الطبيب الجراح، حيث كان يعرف كيف يشرح أدق شرايين الواقع المر في جلسات حميمية لا تخلو من إمتاع ومؤانسة، واستحضار الغائبين أحياء وأموتا، بطعم المرارات اللاذعة، ولا يهدأ له بال إلا بهز المكان بإقفاليته الشهيرة، قهقهات مجلجلة، وكأنه أسعد رجل في العالم، ملتفتا نحو الشيفور، “كب يحرق دين مك.. حتى نتا مقود، أكثر منُّو”، القفلة الشهيرة التي تسدل الستار على الحكاية الشفوية، لتفسح المجال لأخرى، أكثر جذبا وتشويقا بخاتمة مغايرة، وكأنه يكتب نصا قصصيا.

ثلاث محطات رئيسية، كانت تشكل بؤرة الفضاء العام المفضل لدى بّا ادريس بشارع الروداني، حانة “الكون”، وحانة “الماجستيك”، وحانة “لابريس”، حسب أحوال الطقس، وتقلبات الأحوال المادية، ونوعية الرفقة، وكانت الرابعة مختلفة تماما، عن بقية الحانات، تلك المتواجدة بزقاق متفرع عن الروداني، بمحاذاة الكنيسة، المركب الثقافي محمد زفزاف حاليا، حيث كان يلتقي بالشاعر الراحل السي أحمد الجوماري، في جلسة صباحية هادئة، لاستعادة الأنفاس، حانة من ثلاث موائد فقط، وكونطوار لا يتسع لأكثر من خمسة أشخاص. ومع ذلك كانت رائحة “سطورك” تبلغ أقصى رقعة في المعاريف، قبل أن يفتح الجوماري قارورة النبيد لبداية السفر ورحلة الامتداد القابلة لتغيير المكان في أي وقت. ويكون صديقه اللدود محمد زفزاف، أول من يعرف بالخبر، من خلال صديق الجميع الرفيق مصطفى الذهبي رحمه الله، الذي كان يتفقد أحوال الرعية كل صباح، بجميع  الحانات الرودانية أو المتفرعة عن الشارع الرئيسي. وكل معلومة كانت تفيض بعكاز الطريق وسيجارة، حيث كان زفزاف يتلقى الخبر بامتعاض ملحوظ، مرفوقا بعبارة: آعوذ بالله، مما كان يشي بوجود خلاف جديد قديم مع بّا ادريس، ولولا ذلك لكان على علم بذلك في الليل قبل النهار.

وقد كنا نجد أنفسنا في هذه الحالة، محرجين أمام معسكرين، معسكري الإخوة الأعداء، بّا ادريس في حانة “الكون”، وزفزاف في “الماجستيك”. وكل منهما يتحدث عن الآخر، في غيابه، وعينه على مدخل الحانة متطلعا إلى قدومه في أي لحظة، لتذويب الخلاف. ولا أحد كان يعرف كيف يعودان ومتى إلى علاقتهما الطبيعية، اللهم في حالات قليلة جدا. 

وكانت أطول مدة خلاف بينهما، بعدما قام بّا ادريس بكتابة قراءة أولية، لرواية زفزاف “بيضة الديك”، فور صدورها، حيث عمل على شخصنة المسألة معتبرا أن المرأة في نظر زفزاف “لا تصلح إلا للبيت وغسل الصحون”. الشيء الذي تلقاه هذا الأخير بنوع من الامتعاض واعتبره تجنيا فادحا على العمل. ولم يفته الرد على ذلك طبعا، بطريقته في  حوارات صحفية وفي جلسات حميمية.

 وإذا التحقت بمعسكر زفزاف، تثير غضب معسكر الخوري، الذي كان يعتبر نفسه الأولى، كبيضاوي، يجمعنا الحي القديم، درب غلف، وقطع ولد عايشة، معتبرا أن له أفضال على زفزاف، ابن القنيطرة، يوم جاء وافدا جديدا على البيضاء، بعد تعيينه أستاذا بالمعاريف، حيث ساعده في العثور على سكن للكراء بعد شهور من التسكع في ضيافة بعض الأصدقاء، ومكنه من التعرف على أهلها وتضاريسها، في الوقت الذي كان لقائد المعسكر الثاني، رأي آخر. حيص بيص من نوع محرج، غالبا ما كنا نؤدي فاتورته بغضب أحد الطرفين. أما إذا كان قائدا المعسكرين على وئام، فلا يمكن أن تتصور حجم سعادة بين الطرفين، مع توقع أي احتمال ممكن في نهاية الجلسة، التي قد تتواصل ببيت زفزاف أو يتفرق المجمع قبل الأوان. 

هذا هو بّا ادريس يعيش براءة طفولية بسمو الكبار، وتحرر مطلق من كل الاعتبارات الشكلية، بدون كوابح.      

 وخلافا للعلاقة الهادئة التي كانت تجمعه مع الراحل أحمد الجوماري، فقد كانت علاقته دائمة التشنج مع زفزاف وشكري، ولو أنها ذهبت في وقت من الأوقات إلى حد القطيعة مع مبدع “الخبز الحافي”، الذي كان يتعمد إثارته من باب المرح، بالتصنيف الثلاثي، الذي يدرج فيه الخوري ككاتب محلي، وزفزاف ككاتب عربي، وهو ككاتب عالمي، بطريقته الخاصة، إلا أنه كان يتجنبه ما أمكن، لأنه لم يكن يتحمل سلاطة بّ ادريس وصراحته. ولست أدري ماذا سيكون مصير الكم الهائل من الرسائل المتبادلة بين الراحلين زفزاف والخوري، والتي كان البعض منها، يوجز طبيعة تلك الخلافات، وقد كان لي شرف الاطلاع على السطر الأول من إحداها، باعتباري كنت معنيا بما ورد فيها من شتائم، إلى جانب بعض الأصدقاء، إلا أن زفزاف أخذ مني الرسالة لأنه هو نفسه لم يقرأ سوى السطر الأول، ومزقها.. وقد كان لدي فضول عارم في إتمام قراءتها. ضريبة ثقيلة كان علينا آنذاك تحمل فاتورتها مكرهين، مع الحرص الشديد ألا نكون طرفا في تلك الخلافات العابرة.   

 با ادريس نموذج المثقف العصامي الراقي، الذي ترجم سير شخصيات الهامش، إلى نماذج تنضح بالصمود والتحدي، واختراق عوالم وجوانب من شخوص الطبقات البرجوازية النتنة، المسيجة بسلطة المال، لشراء السعادة المزيفة. خبر كل أصناف الحرمان وتمكن بإصرار وتحدي من التغلغل في عمق المغرب الستيني والسبعيني، الغارق في الأمية والجهل والفقر المدقع، وامتداداته الثمانينية المتوحشة، والحفر في تضاريسه وجغرافيته المقعرة بنصوص قصصية وإبداعات تدين البؤس الإنساني والفوارق الاجتماعية، بلغته الساخرة والعنيفة، التي كانت تتسربل بإيقات مختلفة، متناغمة مع الطقس الإبداعي، وطبيعة الجنس الأدبي.

با ادريس، الذي نعرفه من خلال سِيَـر المهمشين، كان ذلك الإنسان، ذلك الكاتب الافتراضي/ الحقيقي، الذي يحمل هويات من لا هوية لهم، بشخوص متعددة الروافد والمعاناة والظلم الاجتماعي، والحلم المشترك بوطن رحيم بأبنائه.

Visited 6 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة