8 مارس.. بين الأسطورة والبروباغندا ومعاناة النساء
فاطمة حوحو
تقول أسطورة من الأساطير أن “كسرى الثاني” ولكي يصرف قلب الشاب “فرهاد” عن حبّ زوجته الحسناء الملكة “شيرين”، كلّفه بحفر جبل، وعندما كاد ينجز مهمته أوحى له بموتها، فامتطى المعمار “فرهاد” جواده في منحدر وسقط صريعاً، لينمو زهر التوليب الأحمر في الأرض التي إرتوت بدمه.
في أذار- مارس من العام 1989، كنت في موسكو، في زمن الأسئلة الصعبة حول مصير الشيوعية ما قبل انهيار الاتحاد السوفياتي ومنظومة الدول الاشتراكية. كان العالم يتغير بسرعة. جاءت “البيريسترويكا” الغورباتشوفية ومعها مصطلحات العلانية والشفافية. كانت العاصمة الروسية تتهيأ للاحتفال بعيد المرأة العالمي. كنت أحب تلك الوردة الأنيقة ذات العنق الطويل. التوليب بأنواعها وألوانها المختلفة، الحمراء والزهرية والصفراء والبيضاء والبنفسجية أو المزركشة بأكثر من لون. وكانت منتشرة بكثرة عند باعة الأرصفة في “الساحة الحمراء” المغمورة بالثلج الأبيض.
إنه عيد الجميع هنا، وليس مجرد احتفال نسائي. إنه أشبه باحتفال عيد الميلاد. الكل منهمك بحجوزات المطاعم. أنخاب الفودكا لا تهدأ، وما أن تفرغ حتى تمتلىء من جديد.
إنه يوم يبشر بربيع آتٍ. احتفال يقترن بقبلة وهدية عنوان محبة واحترام وتقدير للنساء عموماً، ولا سيما أولئك العاملات اللواتي يضفن على الحياة نكهة حب وصرخة مساواة.
لم أكن من المعجبات بهذا العيد في لبنان. كنت أعتبره نوعاً من الأسطورة، لكنني أحببت الطقوس السوفياتية الاحتفالية، لا سيما عندما دخلت غرفتي في الفندق، لأجد باقة توليب قرب السرير، وباقات من أنواع وألوان مختلفة تغمر المزهريات المنتشرة في أرجاء الغرفة، وتحمل عبارات جميلة وتواقيع كثيرة ودعوات للاحتفال بالعيد.
لهذا العيد حكايات…
أينما انوجد حزب شيوعي أو اشتراكي، كان للعيد احتفاليته.
بروباغندا الأحزاب اليسارية التي تريد اجتذاب النساء إلى قواعدها، من دون بذل أدنى جهد للتعامل مع قضايا المرأة، ببرنامج ملموس وقضايا جدية. حين اجتمعت نساء تنتمين إلى الفكر الاشتراكي في 8 أذار- مارس 1910 في كوبنهاغن (الدانمارك)، كان شعارهن المطالبة بحق الانتخاب، وهو شعار اجتذب النساء في بلدان شاركت ممثلات عنها في المؤتمر الذي بادرت الى تنظيمه المناضلة الألمانية كلارا زنكين التي كانت تراس تحرير مجلة “المساواة”، وكانت مجلة مهمة في ذلك العصر وتوقفت عن الصدور في العام 1917.
في سان بطرسبورغ، تدافعت النساء العاملات في 8 أذار- مارس 1917 في تظاهرة كبيرة للمطالبة بالخبز، وبعودة أزواجهن من الجبهة، ولم تجرؤ الشرطة القيصرية على قمع هذا الحدث الذي مهّد للثورة في روسيا، حيث أدى انتصارها الى إعلان قائدها فلاديمير ايليتش لينين في العام 1921 يوم 8 أذار- مارس، يوماً للنساء. وبناءً عليه، صار يطغى عليه الطابع الشيوعي، لا سيما بعد أن حذت الصين حذو روسيا فجعلته عيداً رسمياً في العام 1924، وكذلك معظم دول أوروبا الشرقية، غداة الحرب العالمية الثانية.
في 19 أذار- مارس 1911، احتفلت أكثر من مليون امراة في ألمانيا وسويسرا والنمسا والدانمارك بيومهن، لمناسبة ثورة 1848 وكومونة باريس، إلا أن الفرنسيات لم يتبعهن إلا في العام 1914 تحت قيادة مجموعة من النساء الاشتراكيات أقمن تظاهرة كبيرة في باريس. في العام 1948، دعا الحزب الشيوعي الفرنسي والكونفدرالية العامة للنقابات العمالية إلى الاحتفال بيوم المرأة بتظاهرات في كل أنحاء فرنسا في يوم 8 أذار- مارس، وقد اقرت الحكومة الفرنسية عام 1982 يوم 8 اذار- مارس عيدا رسميا، وهو ما أثار انتقاد حركات نسوية فرنسية تساءلت عن معنى تخصيص يوم لتظاهرات خاصة بالمرأة بما يشبه عيد الأمهات، أي احتفال ليوم واحد وفي المقابل استغلال على مدار العام.
تحولت البيوت إلى “مكان خطير جداً” لضحايا العنف الأسري، خلال فترة انتشار جائحة كورونا، حسب تقارير دولية عديدة، أبرزها تقرير منظمة الصحة العالمية بعنوان “كوفيد-19 والعنف ضد المرأة في إقليم شرق المتوسط”، ونشرت صحيفة “لومانيتي” الناطقة بلسان الحزب الشيوعي الفرنسي في 5 أذار – مارس 1955 افتتاحية ذكرت فيها أن الاحتفال بيوم المرأة يعود إلى ذكرى إضراب عاملات مصانع الخياطة في نيويورك في العام 1857، وقد انغرست هذه الأسطورة عميقاً في الأذهان، إلى أن قررت الكاتبتان الفرنسيتان ليليان كاندل وفرنسوا زيك فضح الأسطورة عام 1982، حين أشارتا إلى أن اضراب العاملات الأميركيات لم يوجد أصلا، وأنه قبل مبادرة مؤتمر كوبنهاغن (1910) لم يحصل سوى احتفال واحد عام 1909 أقامته نساء اشتراكيات في أميركا الشمالية.
لكن يبدو أن فكرة إضراب العاملات الأميركيات الأسطوري ما تزال تبعث على الحلم، مما يدل على أن حياة الأساطير طويلة، علما أن الأمم المتحدة أقرت في العام 1975 جعل الثامن من أذار- مارس يوما عالمياً للمرأة في جميع أنحاء العالم. ومنذ ذلك التاريخ، صار للعيد حضوره في كل أرجاء المعمورة، بما في ذلك بلدان تحكمها أنظمة إسلامية، تأخذ من العيد فقط طابعه الشكلي وتجرده من مضمونه الفعلي المتصل بالمشاركة السياسية وحق العمل والجنسية والحضانة والإرث والطلاق وغيرها الكثير من الحقوق البديهية.
لقد تسبب فيروس كورونا الذي اجتاح العالم في الأعوام الأخيرة، في مقتل أكثر من مليونين ونصف المليون نسمة، نصفهم من النساء، ولكن عدا الخسائر البشرية، واجهت نساء العالم، كما الرجال وكل البشر، تحديات من نوع جديد. ضغوط نفسية. خسارة وظائف. تعثر مادي وزيادة الصعوبات الإقتصادية والإجتماعية. العمل والدرس من المنازل. كان على النساء أن يتحملن الكثير من أجل الحفاظ على تماسك العائلات والحيلولة دون تفكك شبكات الحماية الاجتماعية. العالمية.