عن الهوية وما أدراك ما الهاوية!!

عن الهوية وما أدراك ما الهاوية!!

عز الدين العلام

في الأيام القليلة التي صاحبت إنشاء لجنتي مراجعة الدستور المغربي الأخير، وما أثارته من مناقشات، تضخّم الحديث عن “الهوية”، هويتنا نحن المغاربة. قال لنا البعض إنّ الإسلام هويتنا، ليس كبلد فقط، بل أيضا كدولة! 

وقال البعض الآخر، نحن المغاربة، تاريخا ولغة وحضارة ومصيرا، عُروبيون وجزء لا يتجزّأ من الوطن العربي. وانتفض آخرون ضدّ تجاهل مكوّن، رأوا فيه عمق تاريخ المغرب، فصدحوا قائلين: نحن المغاربة، أوّلا وقبل كلّ شيء، أمازيغ أبناء أمازيغ. ولم يجد البعض الآخر بدّا من الدّلو بدلوه، فعوّم حديث الهوية، مشيرا إلى ما أسماه بالعمق المتوسّطي، والجذر الإفريقي، ولمَ لا، شيء من التواجد العبري… 

  وأخيرا، جاء الدستور الجديد، وقال للجميع: أيها السّادة، لا حاجة لكلّ هذا الضجيج، فالإنسان “المغربي” يجمع دفعة واحدة بين كلّ هذه المنابع التي أنتم فيها مختلفون، بل وأضاف حتّى لا يكسر خاطر أي طرف، أبعادا أخرى، حسّانية وصحراوية وأندلسية، فهل من مزيد؟ وبناء عليه، يكون المغرب، والحمد لله، بلد التعدّد الثقافي، والتنوّع اللسني، والتّسامح الديني، والعمق التاريخي. هكذا إذن هدأت عاصفة الهوية، وأحسّ كل طرف، بشكل أو بآخر، كما لو أنّه انتصر في معركة لا أشكّ أبدا في وهميتها.

 ولكن، لنتريّث قليلا ونتساءل: هل يوجد أصلا معنى ما لطرح سؤال الهوية، وخاصة على مستوى قانون يتربّع فوق كلّ القوانين، وهو القانون الدستوري؟ تصبّ الهوية نظريا في مجال الخصوصيات، وما يميّز هذا الجنس عن ذاك. أمّا نتائجها العملية، فليست شيئا آخر غير الدوران حول الذات، وفي أقصى الأحوال، التلبّس بلباس الشوفينية والعنصرية، وطهارة الأصل، والتوجّس من الآخرين حتّى لا يفسدوا عنّا هويتنا، وما نحن عليه من صفاء!

    ما قيل عنه أنّه مكوّنات هويتنا، وأخصّ خصائصنا، يبدو أنّه ليس بالكامل لنا، ولنا وحدنا بالحصر والتحديد. فالإسلام مثلا الذي يكاد البعض أن يتصوّره ملك لنا، نتقاسمه مع الباكستانيين والفليبيين والسينغاليين، ناهيك عن مسلمي الهند والصين وأذربيجان والموزامبيق… ليس الإسلام ميزة المغاربة، ولا هو يخصّهم وحدهم دون سائر المسلمين. هو في أقصى الحالات اعتقاد في دين يقول هو نفسه أنّه دين للعالمين، ومن تمّ ليس له أبدا، ولا ينبغي له، أن يصبح خصوصية تميّز شعبا عن آخر. وما عدا ذلك، يكون من حق العديد من بلدان إفريقيا وأمريكا اللاتينية أن تعلن أنّ المسيحية هوبتها باعتبار تديّن أغلب ساكنتها بهذه الديانة. وطبعا لا مجال هنا للحديث عن الآثار السلبية التي يحدثها التقاء الإسلام بالعمل السياسي، بدءا من خلفاء نصّبوا أنفسهم حكّاما باسم الحقّ الإلهي، إلى آخر العمليات الإرهابية التي تتمّ باسم الجهاد الإسلامي.

  أمّا العروبة، فواضح أنّها بدورها عامل مشترك لا يخصّ المغربي حصرا. هي علامة انتماء لجنس. وهذا دون أن نؤكّد، لو رجعنا إلى غابر الزمان، أنّ أصلها الأصيل تاريخيا هو شبه الجزيرة العربية، وليس شمال إفريقيا التي وجدنا أنفسنا فوق ترابها. أما نتائجها السياسية وانعكاساتها الثقافية، فأقل ما يُقال عنها، والتاريخ القريب يشهد على ذلك، أنّها كانت، وربّما لا تزال، كارثية بكلّ المقاييس. فالقومية العربية أخطأها التاريخ، واللغة العربية، تريد لنفسها دون سائر اللغات، قداسة موهومة. 

  أمّا الأمازيغية، فغموض مشروع دعاتها مثار تساؤل، وانعكاسها السياسي يتضمّن شيئا غير قليل من التشويش، ومآلها الثقافي محدود. وهي بدورها، ليست علامة مميّزة للمغاربة، ولهم وحدهم، بل هي عامل مشترك بين مناطق عدّة في شمال إفريقيا وصحاري جنوبها. هي حقا نمط عيش وتفكير، تراث تناقلته أجيال وراء أجيال، اندثر منه بفعل التاريخ ما اندثر، وبقي منه عالقا من استطاع لذلك سبيلا. فهل نحيي باسم الهوية الأمازيغية ما قتله التاريخ؟ وهل يكون مصيرنا دوما النّبش في الماضي لنُنعش ما لم يعد له عمليا أية وظائف؟

 قد يثير ما قلته حنق الكثير. ولكن من حقّي أن أتساءل: أليست هذه المكوّنات ذاتها عوائق تحول دون انطلاق المغرب نحو مستقبله أكثر ممّا هي أدوات مساعدة على كسر أغلال الماضي للتفكير في الآتي. نعم، قد تصلح مطيّات تُسعف حركيي الإسلام والقومية والأمازيغية في تحقيق ما يصبون إليه من ترقيات، لكنّها بعيدة عن أن تكون جوابا عمليا على مستلزمات المستقبل المغربي. والعجب العُجاب أن تحظى بأهمية كبرى في مناقشاتنا الدستورية مقارنة مع ما يُفترض أنّه الموضوع الجوهري للدستور، وأقصد بذلك التحديد الدقيق للسلطات الثلاث، وعلاقاتها بالسلطة الملكية من جهة والمواطنين من جهة أخرى.

 هوية المغربي أنّه إنسان أوّلا وأخيرا. إنسان يطمح كسائر الناس لتحسين معاشه، وقضاء عطلة مريحة مع أبنائه. هوية المغربي هي كل المسارات التي تحقّق له كرامته، وتضمن حرّيته. أمّا وأن يكون عروبيا أو أمازيغيا، حسّانيا أو ريفيا، عبريا أو مسلما، أو لا دين له… فذاك شأن يخصّه.

Visited 37 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عز الدين العلام

باحث وأكاديمي مغربي