بعض تداعيات الحكم المغولي في روسيا
د. جمال القرى
كان لحكم المغول التتار عواقب وتداعيات كثيرة على الحياة في الإمارات الروسية من النواحي الاقتصادية والسياسية والثقافية. فمن الناحية الاقتصادية، كان عقبة أمام نمو القوى الإنتاجية لروسيا، وحافظ لفترة طويلة على الطابع الطبيعي الإقطاعي البحت للاقتصاد. أما من الناحية السياسية، فقد جرى انتهاك العملية الطبيعية لتطور الدولة في روسيا. وهذا ما كان من أسباب تأخر روسيا الاقتصادي والسياسي والثقافي عن دول أوروبا الغربية.
كان حاكم القبيلة، الخان، في روسيا يُدعى “القيصر”، وكان هذا اللقب أعلى من لقب أي من الأمراء الروس، ويتوافق مع لقب “إمبراطور” في أوروبا الغربية و “باسيليوس” في بيزنطة. مع مرور الوقت، بدأ يُنظر إلى سلطة خان القبيلة، الملك، على أنها تقليدية واعتبرت في روسيا إلى حد ما شرعية وقانونية. وما ساهم في الحفاظ على هذا الواقع لوقت طويل، هو أنه هيمن في روسيا خوف امتد حتى منتصف القرن الخامس من أن تقرر القبيلة الذهبية الذهاب إلى الحكم المباشر في المدن الروسية وليس من خلال الأمراء. وانعكس هذا الخوف على وجه الخصوص في بعض الكتابات عن معركة كوليكوفو في العام 1380، حيث ذُكر أن حاكم القبيلة ماماي لم يقصد حينها تدمير روسيا فحسب، بل الاستقرار فيها مباشرة، وتحويل السكان إلى العقيدة الإسلامية. وقيل أنه قال: “سآخذ الأراضي الروسية، وسأدمر الكنائس المسيحية، وسأنقل إيمانهم إلى إيماني، وسآمر بالسجود لمحمد”.
أما من ناحية تقويم تداعيات هذا الاحتلال، فيمكن تمييز ثلاث مجموعات من الباحثين. الأولى، رأت فيه تأثيراً إيجابياً كبيراً للغاية على تطور روسيا، وكان له الفضل في إنشاء دولة روسية واحدة (موسكوفي). ومن هؤلاء الباحثين نيقولاي كارامزين. مؤرخون آخرون مثل سيرغي سولوفييف وفاسيلي كليوتشيفسكي، رأوا فيه تأثيراً ضئيلاً جداً على الحياة الداخلية للمجتمع الروسي، معتبرين أن جميع العمليات والتغيرات التي طرأت في النصف الثاني من القرنين الثالث عشر والرابع عشر على روسيا، كانت إما استمرار وتتابع لاتجاهات الفترة السابقة، وإما أنها نشأت بشكل مستقل عن القبيلة. وهناك من الباحثين من تميز بالموقف “الوسطي”، حيث اعتبروا أن التأثير في تطور البلاد كان ملحوظاً ولكن ليس حاسماً. وقد سادت وجهة النظر الأخيرة هذه في التأريخ الروسي في الفترة السوفياتية.
لا ريب أنه عند تقويم تأثير الغزو على المجتمع الروسي، ينبغي التمييز بين النتائج المباشرة والعواقب طويلة المدى. بالنسبة للأولى، كان لغزو باتو والحملات اللاحقة عواقب كارثية مرحلية انعكست في الموت الجماعي وأسر الناس، وتدمير القيم الثقافية والآثار والعمارة، مع الإشارة إلى أنه تم تمير المدن والإمارات عدة مرات بعد إعادة إحيائها، منها فلاديمير وموسكوفي وبيريسلاف – زالسكي. وبنتيجة ذلك، فقدت تقنيات الحرف اليدوية، وتوقف بناء المعابد الحجرية لعدة عقود.
أما بالنسبة للعواقب طويلة المدى، فقد تأثرت التغييرات التي حدثت في المجتمع الروسي في القرنين الثالث عشر والخامس عشر بسياسة القبيلة الذهبية. من الناحية الثقافة، تعثرت العلاقة بسبب الحاجز الديني بين روسيا المسيحية والقبيلة الوثنية في البداية ومن ثم الإسلامية.
ويُذكر هنا أنه نتيجة للسلوك القاسي الذي انتهجته سياسة القبيلة الذهبية، اختفى في الأدب الروسي الموقف غير المتسامح الذي ساد سابقاً تجاه القتل كوسيلة للنضال السياسي، وباتت عقوبة الإعدام تنتشر في روسيا كقاعدة قانونية، وهذا لم يكن معتمداً في فترة ما فبل المغولية، على الرغم من أنها كانت موجودة بين الجيران الغربيين لروس الكيفية.
من الناحية الاقتصادية، كانت هناك اختلافات في النظام الاقتصادي: في روسيا، كان العمل الرئيسي للسكان هو الزراعة، بينما تعايش في القبيلة اقتصاد تربية الماشية مع اقتصاد المدن التجارية الكبرى. ولكن الالتقاء بين النموذجين الروسي والمغولي، كان الشأن العسكري.
من الناحية السياسية، حلّت مكان الإمارات المتعددة في نهاية القرن الخامس عشر مع تحرر روسيا من حكم القبيلة الذهبية دولتان اثنتان كبيرتا الحجم، دوقية موسكو الكبرى التي شملت أراضي روسيا الشمالية والشرقية – سوزدال ونوفغورود وجزء من سمولينسك وتشرنيغوف، ودوقية ليتوانيا الكبرى، التي شملت أراضي روسيا الغربية ومعظم أراضي جنوب روسيا.
وتجدر الإشارة إلى أن توسع الأراضي الروسية، لم تأت في غالبية الأحيان بمبادرة من القبيلة، إذ أن الخانات سعت فقط لحفظ التوازن بين الأمراء وعدم السماح بتعزيز سلطة أحدهم على الآخر. ولكنها كانت تدعم أحياناً مبادرة توسيع الأمراء الروس والليتوانيين لأراضيهم (كان هؤلاء الأمراء الأكثر دينامية ونجاحاً في توسعة أراضيهم)، وما كان عليهم، سوى تقديم طلب للحصول على الدعم من القبيلة.
أما فيما يتعلق بالبنية الاجتماعية لروسيا، فقد انتقل مركز الدولة الروسية في المرحلة التي كانت فيها الأراضي الروسية تحت السلطة العليا للقبيلة من منطقة دنيبر الوسطى إلى المنطقة الشمالية – الشرقية للأراضي السلافية الشرقية، إلى أراضي سوزدال. إلا أن الظروف الطبيعية والمناخية الصعبة في هذه المنطقة، تسببت بانخفاض المحاصيل الزراعية، التي كان مردودها غير كاف لعمل هياكل الدولة، وخصوصاً أن جزءًا منها كان يذهب لخزينة القبيلة الذهبية. ولكن تفاقم الأوضاع بسبب موجات البرد العامة التي بدأت في القرن الثالث عشر، وهي ما سُمّيت بمرحلة “التجلد الطفيف”، لم تؤد في القرنين الرابع عشر والخامس عشر إلى انهيار الدولة الروسية المنشأة حول موسكوفي، بل جعلت هياكلها تصبح أكثر صلابة مما كانت عليه مرحلة روس الكييفية، وحاكمها أكثر استبداداً. وربما، أعطى هذا الطابع القوي المركزي للدولة الروسية الفرصة والقدرة على التخلص من التبعية للقبيلة الذهبية من جهة، وعلى مقاومة هجوم الدولة الليتوانية القوية من جهة أخرى. بالمحصلة، أرست هذه السلطة على المدى الطويل، القنانة والاستبداد كشكل من أشكال الحكم، وهذا ما ترسّخ خلال القرنين السادس عشر والسابع عشر وأبطأ تطور البلاد على النمط الحديث.