أفق: في رثاء الزمن الجميل.. من يذكر الراحل الأستاذ أحمد البيضاوي؟
صدوق نور الدين
لعل من المفارقات الغريبة في المغرب، إن لم يكن في العالم العربي برمته، الإجهاز على الذاكرة. فالعديد من الأسماء المبدعة في شتى الفنون والتوجهات طواها الغياب، ولم تعد تذكر حتى في لحظات قوة ذكراها. لقد غدت كأن لم تكن، أو كأنها ما أبدعت لهذا البلد ولا أسمعت صوته هنا وهنالك، علما بأنها لم تنل حظوتها الرفيعة المساوية حتما لما أبدعت وأنجزت، في الآن الذي غدونا نتابع فيه صناعة الرداءة، ونتلقى أخبارا عن احتفاءات مادية معنوية بأسماء لا تاريخ لها، وبخاصة على مستوى الأغنية المغربية، حيث تنعدم ثقافة المبدع مثلما تصوره لما يجب أن يتأسس عليه إبداعه.
والواقع أن الأستاذ أحمد البيضاوي المغني والملحن، كما العلم الموجه، كان نسيج فرادة سواء في اختياراته الغنائية، أو على مستوى التلحين.. هذه الاختيارات أهلت إبداعه الفني لأن يتراوح بين الخصوصية المغربية والمشرقية وبالتالي يتأطر في سياق العصر الحديث من حيث توظيفه للآلات وإسهامه في تنويع الإيقاعات، وهو ما خوله أصالة المبدع الفنان على السواء.
ويمكن القول بان الأستاذ أحمد البيضاوي ومن خلال هذه الاختيارات والتوجهات، لم يكن مغنيا وملحنا فقط، وإنما الموسيقي المثقف المنفتح على الثقافة العربية الإسلامية، وفق ما دلت عليه حواراته ومشاركاته اللامعة في البرامج الفنية والثقافية.. ويكفي التمثيل بإشارته الذكية الدقيقة لكتاب “الأغاني” للأصفهاني، حيث ألمح إلى كون التأليف انبنى على الحس الموسيقي أكثر من الأدبي.. كما تأسف غير مرة على عدم استفادتنا من معلوماتنا الموسيقية التي لم تدون و”تنوط”. وأرى إلى أن البعد الثقافي المعرفي في شخصه، يجسده على السواء إلمامه بالشعر العربي ولعل أبلغ دليل اختياره لقصيدة الشاعر الأندلسي ابن زيدون “أضحى الثنائي”، والتي أدى غناءها بمهارة واقتدار رفيع أبان عن ثقافة لغوية إيقاعية لا تخطئ الهدف، مثلما تصيب القصد. على أن هذا البعد تمثل أيضا في ترؤسه للجنة الكلمات، والتي نم من خلالها عن ذوق موسيقي في اختياره للنصوص وللقصائد الشعرية المراد ترجمتها غناء..
بيد أن ما طبع مساره الغنائي الشعري الجاد: التنوع. فلقد كان في أكثر من نص غنائي أداه رومانسيا يستنطق بالصوت تفاصيل المكان ودقائق الجمال الأثير ساردا حكاية حب طال انتظاره، أو داعيا إلى الاحتفاء بيقظة صبح يكللها تبسم روض، أو نافثا نداء في صيغة أمر إلى حبيب مات المنزل المعد محترقا شوقا لخطوه، فيما الذاكرة تستعيد رقة صوت”بهيجة إدريس”..
ومثلما غنى الرومانسي احتفى بالوطني مشيدا بالرمز مجسدا القيمة الرفيعة المثالية للوطن، والمستحضرة قيمه وأبعاده الحضارية في مطلقها من خلال قصائد صيغت للمدح والإشادة بأقوى الذكريات الوطنية. وأما الديني فأبرز نص غناه باحترافية سامية “نهج البردة” لـ”أحمد شوقي”، مجسدا شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم، بذكر مزاياه وخصائصه التي سمت به والإسلام كدين قام على التسامح وترسيخ الأمن وصدق الوفاء.
إن “أحمد البيضاوي” ومن خلال هذا التنوع و ـ كما أسلفت ـ نسيج فرادة وسيظل، بالقوة والفعل معبرا أبلغ تعبير عن “كلاسيكية” نادرة في تاريخ الأغنية المغربية والعربية.
ويبقى أن أعترف بأني ما اخطأت في سفراتي على قصر مسافاتها بين البيضاء، أزمور والجديدة، صوته،ولا مللت منه أو أتعبني، وإنما كنت المستمتع النبيه لقامة وذاكرة رائدة وبامتياز.