صلوات عند ضريح في مرشان

صلوات عند ضريح في مرشان

جمعة اللامي

الصَّديقُ الطَنْجاوي

 الأحد  9 أيلول 2007

قبل أربع وعشرين سنة، وضع محمد شكري، طوقاً من نار، أو عقداً من نور، حول رقبتي، ومضى. كنا في الرباط ـ وليس في طنجة ـ في خريف سنة 1984. سنة بعد سنة أقول: “سأردّ له دَينه”. لكن السنوات تمضي، ومضى معها أصدقاؤنا الأقرب: محمد زفزاف، أحمد الجوماري وأحمد المجاطي، ولم أردّ له الدين.

وحين تيسّر لي ذلك، عندما كنت قاب قوسين أو أدنى من الرحيل إلى طنجة في مطالع سنة  2003، رحل محمد شكري، بعدما استراح في أحد مستشفيات الرباط، ثم نقله صديقنا الأقرب: “الزَّبَيْر  بن بُوْشْتى”، إلى مقبرة مرشان بطنجة.

وزاد الشاعر حسن نجمي في تأكيده :

ــ “هذا المسرحي اليقظ، الزَّبَيْر، سيكون رفيقك في طنجة”، حيث قُبر بمرشان، يرقد تحت ثراه، الرجل الذي ولد غريباً، ومات غريباً وهو في أوج شهرته. وعلى الخط الآخر في طنجة، كان الزَّبَيْر يقول: “سأنتظرك”.

تلك كانت أيضا إحدى بركات الرجل الطريد والطريدة.

في يوم الأحد، 5 آب 2007، جلست قبالة رأس محمد شكري، في مقبرة مرشان، بين قبرين كستهما نباتات قصيرة السيقان، وأخذت أتلو:

– “بدأ يسكنني شيطان الأدب، فصرت أهتم بقراءة الكتب الأدبية، أكثر من اهتمامي بدروس علم النفس التربوي، والتشريع المدرسي، النصوص التي أعيرها اهتمامي هي اللغة العربية”. (**)

كانت المقبرة تردد صدى كلماتي : شيطـــــان الأدب ، شيـــــ ، شـــــ .

ومن على مبعدة يسيرة سمعت صوتاً ينادي: “الله أكبر”. وكان ثمة جنازة تنضم إلى هذا المجتمع من الشواهد، الذي يكاد ينطق ضجيجاً، لشدة صمته.

وفي “دار المخزن”، عندالجزء الشرقي لقصبة طنجة، كانت موسيقا الصمت، سيدة المكان. هنا، قرب هذا القصر التاريخي، عاش محمد شكري، وتعلّم، وقبل ذلك تشرد، وبكى، وسرق، وهرّب، وخبر العالم السفلي، وراقب العالم الأرضي، ليستوي بعد ذلك، براءة القلب والجسد والروح في “زمن الأخطاء” .

رأيت شكري مصلوباً في فضاء “القُبَّة الكبرى” لهذا القصر، وسط هذا الثراء الأندلسي غير المسبوق. ولم أجده أبداً، واأسفاه، عند إحدى ساحات المدينة التي اشتهر بها، وحازت على شهرة مضافة به.

قال الزَّبَيْر:

ــ هذا من بركات “زمن الأخطاء”.

هربت إلى “مغارة هرقل”.

 تركت “دار المخزن” خلفي، ورأيت شكري يخرج من جسد هرقل، ويضرب ما بين “الخليج والمحيط” فيقسمه إلى نصفين: نصف لشكري والمهمشين جميعا…

… (ورأيتني أرى قامتي، وأنا أغادر مدينة العمارة، خائفا وجلا في ذلك الليل الغوغائي في 11 ـ 11 ـ 1959، بعدما هرّبني والدي إلى بغداد، في سيارة قريب لنا، عقب شجار مع أحد الطلبة الإيرانيين . قال زميلي الطالب الإيراني:

– “ستالين أشرف من عبدالناصر”، فلم أتمالك نفسي، وضربته بقوة، وهربت إلى “بستان عواشه” ، بينما كنت أستمع إلى أصوات هادرة: “الموت للمتآمرين”… )، … ونصف لهم، هؤلاء الذين لم يعرفوا معنى أن يهبط فتى من الريف المغربي، ويعيش عراك الدنيا بجسده، وروحه، وشوقه إلى الحرية.

… (قلت لزفزاف عندما استضافني بمنزله في ذلك الحي اليهودي بمدينة الدار البيضاء، وكان معنا أحمد الجوماري، الذي غادر منزله بعد اعتصام طويل: “عزيزي محمد ..، أعود إليك بعد سنة على لقائنا الأخير في منزل صديقنا الفلسطيني بالرباط ، وقد تعمقت قناعتي في أن فكرة الحرية عندي، لا ينبغي أن يعلو عليها أي شيء”. اكتفى زفزاف بالإنصات، فقلت: “أنظر إلى ما حولنا. إنه جرب الفكر الأحادي، وجدري النبذ والإستئصال والتسلط. النظام والمعاضة يتبادلان الأدوار في لعبة جهنمية: وحده المثقف المبدع ينبغي عليه أن يعود إلى تابوته الذي صنعه بيديه، كما فعل مونترلان: “لا يجب أن نسمح لأيّ حزب أو نظام أو مجموعة دينية، التطاول على حلمنا في الحرية”. تناول زفزاف رشفة من كأسه، بينما تحدث الجوماري بعد صمت مطبق:

– “أنا بريء من عالمهم”.

ثم عاد إلى صمته.

علق زفزاف: “هذا ما ينحته لنا مصيرنا الذي نختاره بدراية وصرامة”. وكان يبدو ناحل الجسد، يكاد يتكسر داخل قميصه الفضفاض وهدوئه الأبيد…).

… وصعدت إليَّ ذاكرتي من جديد، فأمرتها بالتوقف عن الضجيج، لأن البحر الطنجاوي، كان يحمل إليّ صوت محمد شكري: “يا.. جُو.. مُو.. عاه، سنلتقي ذات يوم، ولو في حضرة الملاك المخيف، وعندها سترى من منا سيفوز في الصراع “. (… التقيت الملاك ذات يوم من شهر شباط سنة 1963: كنت مقيدا إلى عمود في وكر طائرات الميغ ــ19 بمعسكر الحبانية..

* من مقدمة الفصل الأول في العنوان الرئيس ذاته، في مخطوطة (أعراس الصيف).

Visited 3 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة