عن حالة الاغتراب الفردي والاجتماعي في مجتمعنا

عن حالة الاغتراب الفردي والاجتماعي في مجتمعنا

د. جمال القرى

يمكن فهم الحالة البؤس والقهر والتخبّط والتناقض والعدمية التي وصل إليها اللبناني كفردٍ في المجتمع، وكجزءٍ من مجموعة هي (طائفية ودينية)، وكمجتمع هو وحدة جامعة لكل هؤلاء الأفراد والمجموعات،

من خلال مفهوم الاغتراب. فعدم اكتراث كثرٍ بعملية التغيير الجذرية كشكلٍ لا بد منه في عملية تحقيق الذات والمجتمع معاً، إنما تؤدي إلى تعميق الاغتراب على الصعد النفسية والسياسية والاقتصادية والثقافية. لا شك أن الوعي الفردي والجماعي للمكونات اللبنانية يلعب دوراً يتسم بالسلبية أكثر مما يحمل من الإيجابية. فالحرية الفردية تترنّح لصالح مصلحة الجماعة، ويصبح فيها الفرد عبداً لإيديولوجية جماعته، في الوقت الذي تتنافر فيه مصالح هذه المجموعات مجتمعة. فعدم الاكتراث بالتغيير هو نتيجة الالتهاء بالأنا وبتحقيق الأرباح والمكاسب الشخصية.

وهذه الهامشية التي وصلنا إليها إنما تؤجّج العجز والانغلاق والتعصب وتقتل أية مبادرة للمواجهة. لقد تحوّلت يومياتنا إلى صراع لتأمين لقمة الخبز وقطرة المياه وحبة الدواء وبضع ساعات من الكهرباء بكلفةٍ فاقت أكلافها العالمية. ألا يسمّى هذا اغتراباً عن الذات وعن المجتمع؟ أليس العجز الذي نحن فيه واللامبالاة تجاه هذا الواقع الأليم غير المسبوق هو انفصال إشكالي عن المجتمع والمحيط؟ لماذا لا يؤدي هذا الشعور بالقهر والنقمة إلى ثورة لتحرير الذات أولاً من العلاقة الإشكالية مع المحيط، ومن ثم تتحوّل عند ازديادها إلى وعي جمعي يفرض وعيه على المحيط؟ ما هي العوامل التي توقف تحرير الذات ويجعلها مستكينة راضية قانعة بواقعها؟ هل الاستسلام والعيش دون هدف قدرنا لنصبح أشخاص آليين منصاعين دون وعي لمن يحرّكنا؟

تعرّف العلوم الفلسفية والاجتماعية والنفسية وتفسّر هذا النمط من الانفصال بين الفرد ومحيطه كل من مجاله، إلا أن التعريف والتحليل الذي ساقه كل من ماركس وهيغل يحمل أهمية كبرى.

يعرّف ماركس مفهوم الاغتراب بالحالة التي يصبح فيها الشخص خلال عملية التنشئة الاجتماعية رهينة لعوامل خارجية ساحقة، وهو استقاه من التقليد الفلسفي الهيغلي. لقد تحدث ماركس عن الاغتراب في كافة مجالات الحياة، الدين والسياسة والعلاقات الاجتماعية والاقتصادية، ولكنه شدّد عليه أكثر في مجال العمل. ويقصد بذلك، عندما يتخذ عمل الفرد أو نشاطه، شكلاً لا يعتمد عليه ويعمل ضده. وهكذا يصبح الاغتراب ليس ظاهرة ذاتية حصرية، إنما حالة اجتماعية موضوعية لا يمكن التغلب عليها إلا من خلال التغييرات التاريخية. ويستخدم ماركس الاغتراب بالمعنى النقدي، فالعمل الذي يكتسب الإنسان من خلاله إدراك ذاته ووعيه بها، هو شرط أساسي لحياة طبيعية. ولكن عدم تحكم الشخص بأنشطته، يجعله معارضاً لجوهره الإنساني وللحياة الطبيعية. وهو تحدث عن أربعة أنواع من الاغتراب: فهم عملية العمل، تحليل ناتج نشاط العمل، وعي المرء بجوهره والتنشئة الاجتماعية من حيث تواصل الناس مع بعضهم البعض. وهنا الجانب الأخير من الاغتراب، أي، اغتراب الإنسان عن الإنسان يحصل عندما تُدمر الروابط المجتمعية من قبل القوى الاقتصادية مع ما تنتجه من تفتيت للأفراد، وتبدأ القوى الاقتصادية بعيش حياتها الخاصة وبتدبيج قوانينها الموضوعية الخاصة. ولكن كيف يمكن تخطّي هذا الاغتراب؟ بالنسبة لهيغل، يمثل المجتمع الليبرالي الحديث (أي الرأسمالي) نهاية اغتراب الفرد والمجتمع الذي ميّز الأشكال الاجتماعية السابقة. أما بالنسبة لماركس، فهو يرفض هذا الرأي، ويرى أن الاغتراب سمة حتمية للمجتمع الرأسمالي. فالاغتراب في العمل، يقضي على الإبداع الحر، ويفصل المنخرط في العمل المغترب عنه عن جوهره الإبداعي، عن جوهره الذي يجعله إنساناً.

فما هو الاغتراب يحسب ماركس؟

الاغتراب هو انفصال إشكالي بين الموضوع والشيء المرتبطين معاً بشكل طبيعي، ويحدث هذا عندما تتحوّل العلاقة التي من المفترض أن تكون طبيعية بين الموضوع والشيء إلى مشكلة توصل إلى الانقسامات، التمزقات، التشعبات، الانشقاقات، إلى العزلة، أي، اللامبالاة، اللامعنى، العجز، الانفصال، إلى العداء، أي، النزاعات، الصراعات، الهيمنة. وتنسحب هذه الانفصالات الإشكالية بين الذات الفردية والجماعية، وبين والآخرين، أي، كل ما هو ليس بداخلها. وفكرة الاغتراب هذه، تختلف عن فكرة الظلم التي تركز عليها الكثير من الفلسفة السياسية الليبرالية الحديثة.

أنواع الاغتراب والعلاقة بينها:

هناك الاغتراب الشخصي والموضوعي، والمعيار المحدِّد للانفصال بأنه مسبب إشكالي. لقد وصف ماركس المجتمع الرأسمالي المعاصر بأنه عالَم اجتماعي يحتوي على كلٍّ من الاغتراب الموضوعي والشخصي معاً. وربما كان النوع الشخصي هو الذي يتبع النوع الموضوعي. في المقابل، يؤكد هيغل أن العالم الاجتماعي الحديث يقترب من أن يكون عالماً اجتماعياً لا يحتوي على الاغتراب الموضوعي، ولكنه لا يزال يحتوي على نوعه الشخصي..

إن تشخيص ماركس وهيغل للمجتمع الحديث بطرق مختلفة، يتأتّى من التزاماتهما السياسية الاستراتيجية المختلفة. ولكن كليهما هدفا إلى تقريب المجتمع من الوضع الذي تُلغى فيه أشكال الاغتراب الموضوعي والشخصي، ولكن بطرقٍ مختلفة. بالنسبة لماركس فإن هذا يتطلب قلب العالم الحالي، أي، إحداث ثورة. أما بالنسبة لهيغل، فإن هذا يتطلب تغييراً في المواقف فقط، أي أن نصالح أنفسنا مع هذا العالم. أما الحالة التي تتكون من عالم اجتماعي يحتوي على اغتراب موضوعي ولكن ليس شخصياً، يمكن وصفها بأنها واحدة من الاغتراب الموضوعي البحت، وهذا يتطابق مع إحدى رؤى مدرسة فرانكفورت التي تشكّل الكابوس الأكبر للمجتمع الرأسمالي المعاصر.

فعلى سبيل المثال، يظهر الأفراد في المجتمعات الرأسمالية المتقدمة سعداء في علاقاتهم المختلة، فالاغتراب الموضوعي يُكتسب، ولكنه لم يعد يولِّد نزاعاً اجتماعياً. يثير هذا الافتراض الأخير القضية الأوسع للعلاقة بين الاغتراب وما يمكن تسميته الدافع الثوري فلو أن التغيير الاجتماعي الجذري يتطلب من بين شروطٍ أخرى وجود شخص أو مجموعة ثورية تتمتع بالقوة والرغبة في إحداث هذا التغيير، فإن دور الاغتراب بالمساعدة لتحقيق هذا الشرط، أي الرغبة في إحداث تغيير من جانب المجموعة الثورية المفترضة، يبدو معقداً. ويبدو أن هذا الاغتراب الموضوعي لا يمكن أن يلعب دور التحفيز، لأنه لا ينطوي على أي شعور، أو تفكير، أو على تجربة الانفصال الإشكالي هنا، وأيضاً، لأن العلاقة بين الاغتراب الشخصي والتحفيز أكثر تعقيداً مما قد يبدو، فإن مشاعر العجز والعزلة على سبيل المثال، قد تؤدي إلى الانسحاب الاجتماعي، بدلاً من المشاركة الاجتماعية.

بناء على ما تقدم، يمكن القول أن عناصر الانفصال الإشكالي هي في صلب مجتمعنا، فبالإضافة إلى الاغتراب الشخصي، هناك الاغتراب الموضوعي، وهذا الاغترابان معقودان على سلسلةٍ من الاغترابات التي تطبع داخل كل مجموعة للمكونات اللبنانية، ومتشابكان بالصراع مع خارجها. أما عن شروط إيجاد جلولٍ لهذه الإشكالية، التي هي في حقيقة الأمر انفصام وانفصال، فهي غير متوفرة حتى في حدّها الادنى، وصورة مجتمعنا اليوم، أبلغ دليل على ذلك.

Visited 25 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. جمال القرى

طبيبة وكاتبة لبنانية