حكايا: خيول غسان…

حكايا: خيول غسان…

جورج الراسي

كان ذلك على الأرجح في الربع الأول من العام 1972، حين اتصل بي في صبيحة ذلك اليوم بسام أبو شريف، وسألني إذا كنت أستطيع أن ألاقيه بعد ساعة بسيارتي في زاوية من زوايا برج أبو حيدر، المتفرع من شارع المزرعة الرئيسي، فيما أصبح يعرف بعد بضع سنوات “ببيروت الغربية”…

أجبته أن هذا ممكن، دون أن أطلب أية تفاصيل، إذ كانت لغة الرموز والإشارات هي السائدة في تلك المرحله العصيبة (وهي ما زالت كذلك…).. والواقع أنني كنت في مكتبي في مجلة “البلاغ” الواقع في الشارع إياه، والمقابل تماما لمكتب مجلة “الهدف” الناطقة بلسان “الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين”…

كنت قد تعرفت على بسام قبل ذلك بثلاث سنوات، حين حل ضيفا علي في  مدينة Strasbourg  الفرنسية، حيث كنت “أتابع تعليمي”… من حيث المبدأ..! وحيث كنت أرعى نشاطا للتعريف بالقضية الفلسطينية في أكبر المدن يهودية في فرنسا…

(هو يناديني حتى اليوم بإسم “جودت”، وهو “الاسم ” الحركي “الذي أعطي لي حينها، تمشيا مع مقتضيات المرحلة!…)

وفي الوقت المحدد وصلت إلى التقاطع المتفق عليه.. وبلمح البصر فتح الباب الخلفي ودلف إلى المقعد ورائي رجلان، لم أتبين ملامحهما على الفور.. وصعد بسام إلى المقعد الأمامي بجانبي، وقال لي: سنذهب إلى مستشفى بعبدا الحكومي… معي الحكيم (الدكتور جورج حبش) – يرافقه شخص آخر – يريد زيارة غسان كنفاني الموقوف هناك، حيث نقلوه بسبب إصابته بداء السكري…!

“سامحك الله يا بسام.. قلت في نفسي.. لو شرحت لي أكثر لأخبرتك أن سيارتي  موديل “أوبل” قديمة العهد وصاحبة مزاج! تركها لى والدي لأتمرن عليهآ في زواريب بيروت… يعني يمكن أن تتوقف بنا في أية لحظة، ومتى خطر لها ذلك ودون سابق إنذار… فتصور الفوضى التي سنحدثها والازدحام الذي سنتسبب به وسط “أوتو روت ” الحازمية مثلا… والله لخرجت “الواشنطن بوست” في اليوم التالي تقول: إن الإرهابيين يسرحون ويمرحون في بيروت…”.

الله يستر.. يبدو أن السيارة قدرت حساسية الموقف، فحافظت على رباطة جأشها حتى اللحظة الأخيرة… وأظهرت روحا ثورية عالية…

أما سبب توقيف غسان فكان يعود كالعادة إلى تعرضه لبعض علية القوم في مقاله الأسبوعي، الذي كان ينشره في مجلة “الصياد” إلى جانب رئاسته لتحرير مجلة “الهدف” بمؤازرة بسام… الذي كان أيضا يرعى بعض تنقلات الحكيم المحاطة دائما بكثير من الحيطة والحذر..

ما أن دخلنا على غسان حتى وقف منتشيا يقبل الحكيم على وجنتيه.. مع هبوط واضح في مستوى السكر في الدم..!

أول ما لفت نظري كان رسوم الخيول التي ملأ بها غسان جدران غرفته – السجن، خيول بكل الأشكال والألوان، كلها متهيئة للوثوب طلبا للحرية..

منذ ذلك اليوم وأنا أتساءل ماذا حل بتلك الخيول… ألم يفكر أحد بإقامة معرض لها  منذ ذلك الوقت..؟

كان شباب “الجبهة الشعبية” الأقرب إلى القلب. شباب بلا عقد. أصحاب عقيدة راسخة. لكنهم منفتحون على الحياة. لم تكن تخلو سهرة من سهرات الـBlow Up دون وجود أحدهم. أعطوا للمرأة دورا قياديا رفعته ليلى خالد إلى علو طائرة مخطوفة. أدخلوا بعض الماركسية إلى العروبة. وأدخلوا بعض العروبة إلى الماركسية. لكنهم كانوا متصالحين مع أنفسهم ومع محيطهم…

قبل دخول غسان إلى “السجن” كنا نلتقي من حين إلى آخر في مقهى يقع في الطابق الأرضي تحت مكاتب “الهدف” مباشرة، المواجهة تماما لمكاتب “البلاغ” على المقلب الآخر من الشارع. كان هناك شارع صغير يقود إلى المبنى القديم.  طاولات المقهى القليلة كانت منصوبة على الرصيف المحاذي، بحيث أننا كنا نرى القادمين عن بعد…

كم من الفتيات الجميلات، الأوروبيات خصوصا، اللواتي كن يتوافدن على “الهدف” ومعظمهن من أنصار الحركات اليسارية في العالم، المأخوذين بوهج الكفاح الفلسطيني في تلك المرحلة.

كنا ونحن نحتسي القهوة، نراهن وهن يخطون خطواتهن الأولى في ذلك الزاروب. أكثرهن ببنطلون الجينز، الممزق والمرقع و”المجعلك”، قبل انتشار تلك الموضة بعقود طويلة، إضافة إلى القمصان المفتوحة على كل نفحات الهواء المنعشة…

كان غسان كلما رأى واحدة متجهة صوبنا يضع فنجان القهوة جانبا، ويتمتم دون أن يلتفت إلي أو إلى أي من الجالسين معنا: “هيدي بتكسب…”..

بعد ، في الثامن من هذا الشهر تموز – يوليو 2022 يكون قد مضى نصف قرن على رحيل غسان … بتفجير سيارته…

ربما إن إحداهن قد “كسبت” بالفعل… لكننا خسرناك يا غسان… فمن سيطلق سراح تلك الخيول…؟

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

جورج الراسي

صحفي وكاتب لبناني