حكاية القرامطة: حفريات في التاريخ الموؤود

حكاية القرامطة: حفريات في التاريخ الموؤود

لحسن أوزين

عندما يتعلق الامر بالمهمش والمسكوت عنه، أو بالمحرم المدنس، والمحظور انتهاكه أو اختراقه، فإن المرأة تكون أكثر جرأة وقدرة على الحدس والرؤية العميقة، والإلمام بالبنى والعلاقات والديناميات، ومختلف أشكال الجدل والصراعات المتحكمة في الوقائع والاحداث، وفي الأفكار والممارسات، وإنتاج المعاني وتوليد الدلالات. هذه القدرة على الكشف وتعرية المستور قهرا، وفضح المقموع بجعله في متناول الناس، تصحيحا لفهم الذات، وإدراكا للمسارات المعقدة، الظاهرة والخفية، لسيرورات الهوية والانتماء، في تغيرها المستمر. هذه الكفاية في التحليل والتفكير، والحفر والتفكيك، بأدوات الكتابة النقدية، أو بآليات التخييل الفني الجمالي للإبداع  ليست ذات طبيعة صوفية عرفانية، و لا جوهرانية أو ماهوية مرتبطة بشكل طبيعي بالمرأة دون الرجل. بل لها جذور بالعلاقات الجندرية الثقافية والاجتماعية السياسية، وبتوزيع السلطة في العلاقات الاجتماعية التي جعلت المرأة مضطهدة ومقهورة عبر التاريخ الذكوري للمجتمعات البطريركية. هذا يعني أنها تمتلك التجربة والمحنة والفكرة والرؤية، لما يعانيه المقهور على كل المستويات الاقتصادية والسياسية والأيديولوجية، وعلى مستوى الشفرة النفسية للاشعور الثقافي الجمعي.

هذا ما يلمسه القارئ في رواية ” حكاية القرامطة” لجوسلين اللعبي. ويعيشه بفرح كبير، مفعم في الوقت نفسه بالألم، حين يتعرف على جزء من ذاته، هويته، انتماءاته التاريخية الاجتماعية الثقافية، جزء مهم وضروري، ظل طوال قرون مغيبا عنه، مطموسا، مدفونا تحت ركام هائل من الأقاويل وكتابات الأدب السلطاني في الفقه والنوازل والتراجم، والتاريخ المسكون بخطابات التزلف والتقرب من حضرة الحاكم الواحد الأحد في السلطة والثروة وإنتاج نظام الخطاب المباح. الجميل الممتع في الرواية أن تكتشف بسؤال النقد الذي تعبر عنه بعض شخصيات الرواية( خاصة أبو الفتح)، دون تبجيل أو تقديس جزأك الحي الذي تعرض ظلما وقهر وتسلطا لعملية وأد عنيفة وبشعة، في سياقات وترابطات مركبة وشديدة التعقيد، ميزت جدلية الصراع الاجتماعي السياسي الثقافي حول السلطة والثروة، بين المحكوم والحاكم، بين الهوامش والمركز، بين المقهورين والخلفاء. وتتعرف جدلية القمع والثورة في سيرورتها التاريخية العميقة الجذور، وما اكتنفها من التباسات منعت رؤية زيف التاريخ الشرعي لقداسة الظلم والقهر والاسترقاق السياسي، الذي تلبس قناع ما اعتبره الخليفة الدين الحق والصراط المستقيم في احتكار السيادة و السلطة، والاستئثار بالثروة والكلام.

هكذا هي الرواية تنتهك المحظور، وتقتحم باب الحكاية الممنوع. تقتلعه بمنطق الكتابة الفنية للشكل الروائي. فنجد أنفسنا أمام مجتمع العبيد الذي سلخت عنه قصور الخلافة قيمته الإنسانية، بسبب التفقير والاستغلال والضرائب. كما تصدمنا المجازر المروعة، حيث الرؤوس المقطوعة، والأعضاء المبتورة، والمدن والحرمات المنتهكة والمخربة بلا شفقة ولا رحمة، والدماء المسفوكة، تحت وطأة  جدل دنيوي  مرعب تلبس وجه الإله، من طرف الخليفة، والحلم البريء الجميل من طرف مجانين الأمل في الثورة والتغيير. إننا أمام صرعات وصراعات جنونية، إما حماية للسلطة والثروة، أو بحثا عن العدالة والحرية والمساواة. سياسات ظالمة من طرف الخلفاء، وأحلام العدالة الوردية من قبل الثوار. الامر يتعلق بنقيضين ليس فيهما ممرات آمنة، خالية من البشاعة وسفك الدماء.

  تورطنا الرواية بآليات التخييل التاريخي في عوالم التاريخ المهمش، لمجانين الأمل في امتلاك حق العيش الكريم، واكتساب القيمة  الوجودية الإنسانية. نقلب بفرح ومرارة صفحات من تاريخنا في رفض الظلم والقهر والتسلط والتجويع والعبودية المسيجة إلهيا. و حق الناس المقهورين عيشا ووجودا في امتلاك الحلم وجنون الأمل، وما يولد من فرح على أنقاض الجثث والخراب، والدماء البريئة لمضطهدين مثلنا، في نوع من التماهي بنمط عيش وأحكام وسياسات وقيم المستبد القاهر.

تقتحم الرواية باب الحكاية المحظور، ليس بسادية مقصودة في التهويل والتخويف، و نشر الحقد والرفض لما يشكل مصادر أنفسنا، بل ليتعرف مجانين الأمل اليوم طريقهم، بعيدا عن معاودة إنتاج الخراب والدمار والبشاعة التي خلفها ومارسها التسلط، والقهر السياسي والاجتماعي والثقافي والديني، وكرسها الثوار عبر تاريخنا القديم والحديث والمعاصر.

أولا عتبة العنوان : حكاية القرامطة

الرواية واضحة في عنوانها، وهي تقتحم مرحلة مهمشة إن لم نقل موؤودة من التاريخ العربي الإسلامي. وفي هذا التاريخ الرسمي للبلاطات والعائلات الحاكمة بالشوكة والتغلب والقهر، وعنف الدماء، يعتبر كل ما هو معارض ومختلف عن السائد، نوعا من الشرك والكفر الذي يطاله الوصم السيء للزندقة والهرطقة والبدع والأهواء، التي تقابل بحد السيف وبتر الرؤوس. لهذا فإن الحديث عن القرامطة في المدونات الرسمية فيه الكثير من الغريب والمدهش، والافتراء والساحر العجيب الخلاب، والقليل من المعقول والكثير من الغرائبي و اللامعقول حجة ومنطقا وعقلا. كما فيه الكثير من أليات التدليس والأحكام المعيارية التي ترمي الى العزل والاقصاء والاجتناب والتنفير من كل ما له علاقة بالقرامطة. خاصة بعد أن أحرقت كتابات ومدونات القرامطة. ولم يبق منها إلا النزر اليسير في كتب الخصوم، الى جانب بعض الأتباع، والمتعاطفين مع تاريخ ومذهب القرامطة.

لذلك جاءت الرواية من أولها الى آخرها تعبيرا صريحا لما تعنيه الحكاية، كشكل إبداعي فني جمالي أدبي. بكل مقوماتها وخصائصها الجمالية الأدبية. فقطبها الفني كخطاب أدبي استثمر الخصائص المعنوية للحكاية والرواية في بناء سردية القرامطة المغمورة والموؤودة، محتضنا الكثير من النصوص كتناص، منح الحضور والتنوع لمختلف أشكال التعبير، من الشعر والسرد والتفكير والسؤال النقدي، والتشكيك والمراجعة. والهدم للجاهز المتطاول عبر القرون، بفعل التغلب وسطوة القهر والتسلط، والبناء للجزء المبتور من الذات، بتهمة الكفر والتحريف والهرطقة. هكذا كانت حكاية القرامطة ممتعة في قدرتها الفنية على إنتاج جمالية التلقي، خلال تفاعلها مع القارئ. تمنحه بسخاء في التعبير والحكي، وفي سيرورة إنتاج المعنى، القدرة على التقبل والقبول والاعتراف بالتنوع والتعدد والاختلاف الذي أقبره عنف تاريخ الدماء، للحروب والعائلات والبلاطات في التغلب والقهر، باسم قداسة السماء في احتكار السلطة والثروة ونظام الخطاب في إنتاج الحقيقة الأحادية، النازلة، الناجزة والنهائية.

الرواية تمتلك فنية الحكاية، متعتها، غرائبيتها، سحرها النابع من قسوة تركيبها، وسيرورة انبنائها، كخطاب شائق محفز في نفسية القارئ للاهتمام والرغبة الجامحة في الركض بلا التفات، من صفحة لأخرى، بين الجثث وعنف الدماء. مطاردا أملا، حلما سرعان ما تلطخت يداه- الحلم-  بدم الأبرياء، وبالحرائق والخراب، وهو المقهور أبا عن جد. ورغم أن الحلم كان يخبو، فعلي كقارئ أن أواصل الركض كولد الحكاية، لأنها تعنني وتقصدني. فسيرورة القراءة عبر صفحاتها كانت تفعل فعلها الساحر الجميل، رغم قسوتها وألمها كنتُ متفاعلا مع حرقة أسئلتها في إزاحة سيقان القصب الثقيلة التي تشربتها مع الطفولة في أننا أمة عظيمة في العدل والحق والكرامة الإنسانية. ومع أسئلة السارد وشخصية أبي الفتح بدأت أتعرف طريقي في هذا الركض العنيف المشبع بأمل التخلص من الحقيقة الوحيدة والنهائية التي سلخت عنا القيمة الإنسانية، ومنعت عنا الكثير من الشموس الأخوية القادرة على إضاءة الزوايا المظلمة، والمناطق المعتمة في العيش والحياة والفكر، في الذات والآخر والعالم.

فكل ما أحرقته وهمشته وغيبته المدونات الصراطية بمختلف أشكال عدائها شدة وحدة للقرامطة، استطاعت جوسلين من خلال التخييل التاريخي أن تنفض الغبار المتراكم عن مرحلة مهمة من تاريخنا العربي الإسلامي في دمويته وهمجيته، وفي فرحه الكبير بحلم  وأمل ولادة جنة الانسان على الأرض حرية وعدلا ومساواة…

ثانيا: التاريخ  والتخيل التاريخي

تتناول الرواية فترة تاريخية عصيبة ودقيقة، من تاريخ الدولة العباسية. وهي المرحلة التي تميزت بنضج التناقضات السياسية والاجتماعية والاقتصادية والأيديولوجية، لما سمي بالامبراطورية الإسلامية. ففي منتصف القرن الثالث الى القرن الربع الهجري اكتملت دورة الاقتصاد السياسي للسيرورة التاريخية للغزوات الإسلامية التي تمددت وتوسعت على حساب الكثير من البلدان. كان فيها للجهاد “الاقتصاد السياسي”  كمفهوم سياسي اقتصادي مركب (الخليفة، الريع، الإيديولوجية/العقيدة) دور في بناء دولة الخلفاء والامويين والعباسيين. هذا يعني أن اقتصاد الغنيمة أو الريع، استنفذ طاقته التوسعية، ولم يعد قادرا على تحصيل الثروة من خلال التوسع والانتشار. لذلك دفعته طبيعته الريعية بوصفه اقطاعا عسكريا الى  الانكفاء على نفسه ليتغذى على الداخل.  هذا ما أفرز تناقضات كبيرة بين الفئات الحاكمة والعامة من الجمهور، من العبيد والمزارعين والفلاحين وكل المسحوقين والمقهورين.

تؤسس الرواية هويتها السردية من خلال العودة الى الأحداث التاريخية لثورة الزنج التي عرت حقيقة وطبيعة الدولة الإسلامية من نشأتها الى هذه الفترة من الحكم العباسي. وهي ذات طبيعة حربية تسلطية، وقهرية للفرد والجماعة والمجتمع. تحكي الرواية هذا التاريخ بآليات التخيل التاريخي، مازجة بين الحدثي والتخيل من منظور الشكل الروائي الذي ينتصر للتخيل والتخييل، ولا يرى في الواقع مرجعا مباشرا لتشكله كإبداع. ومن الفشل الذريع الذي منيت به ثورة الزنج وما رافقها من آلام وخيبات وفظاعة، تولد حكايات المقهورين، ومن بينها حكاية القرامطة. من سيرورة جدليات الفشل والانطلاق، السقوط والنهوض، القهر والتمرد، اليأس والأمل، تمسك جوسلين بالخيط الرفيع لشر ومكر التاريخ في القهر المزدوج الذي يتعرض له المقهورين، بالهزيمة والخيبة على أرض الواقع، وفي السطو على المدونات التاريخية، وتهميش تاريخ المنهزمين من المزارعين والعبيد والفلاحين. ويصل هذا القهر الخبيث مده عندما يتم تشويه تاريخ هذه الانتفاضات وزعمائها.

“كان علي نزيها- زعيم ثورة الزنج- وعادلا. كيف لا وهو المهدي. لكن منذ موته نسجت حوله جبال من الأكاذيب.

– من الذي نسجها ولماذا؟

من؟ الخليفة طبعا، وأخو الخليفة، وجنود الخليفة، وناس البصرة، إضافة الى الخونة، أولئك الذين خذلوه من بيننا، كل هؤلاء لماذا… لماذا… لأن عليا كان يقول بأن الأيام يجب أن تكون دولا بين الناس. أي أن الثروة والبيوت الجميلة والعبيد لا يجب أن تبقى دائما في يد نفس الأشخاص، بل أن يكون هناك تداول لها، لكن بالنسبة لأولئك الموجودين في بغداد: يريدونها دائما لأنفسهم فقط دون سواهم”. (21)

من اليأس والخيبة والهزيمة تنمو الرواية كمتخيل تاريخي، ومع الركض العنيف والمروع للطفل “ولد”، تتطور كمتخيل مشبع بالغموض والالتباس والخوف والاسئلة المحرقة، بقدر ما هو مفعم بالحلم والأمل، في مواصلة الكفاح والرفض للبنيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية التي رسختها السيطرة السياسية للبلاط العباسي والاقطاع العسكري. من رعب فشل ثورة الزنج تولد وتتكون وتتطور سيرورة الرواية في هويتها السردية الجامعة بين التاريخ والمتخيل. يحدث هذا بالموازاة مع نشأة وتكون وتطور سيرورة  حكايات القرامطة. هنا تكمن روعة وجمالية الرواية في الانطلاق من التاريخ لتسليط الضوء على الظلال المعتمة المهمشة والمدفونة، لما يشكل مصادر أنفسنا، والمنسية بقهر السلطة وتعسف المؤرخ الذي لم يكن إلا فقيها أو محدثا أحاديا متصلبا والعهدة في هذا القول على عبد الله العروي.

في سيرورة هذا التكون والتطور تعمل الحبكة عملها الخلاق والساحر في منح المعنى  للسياقات في تمرد وثورة المسحوقين، في اختلالاتها واضطراباتها، في رعبها وفظاعاتها، في شظايا التفكك والتناقضات الصارخة التي تمنع رؤية وحدة بنيات بشاعة عنف الدماء والقهر والهدر الذي تسترت عليه كتب البلاط التاريخية والدينية والمذهبية، حيث جعلت المختلف كفرا يحل دمه.

وفي سياق التقاطع والتمفصل الأدبي بين التخيل والتاريخ تحضر شخصيات متخيلة وواقعية، كما تحضر الوقائع التاريخية، تبعا لمنطق الكتابة الروائية التي تتأمل وتتفحص و تنتج تاريخ مهمشين أريد له ولهم الموت، أو على الأقل أن يدفنا معا في منطقة الظل. هكذا نتابع بشغف القراءة نماء وتطور سيرورة حكاية القرامطة بكل عنفوانها وتطلعاتها وطموحاتها الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والدينية. بكل أحلامها في العدل والكرامة والمساواة والتسامح الديني…

 نواصل القراءة بانتشاء، يغمرنا الفرح كلما نجح البسطاء في تمردهم وثوراتهم. وحين تهزم جيوش الخليفة أمام ثورة الزنج وولادة مدنهم “لا أحد فيها كان يعاني الإقصاء أو التهميش، كان كل حي من أحيائها يتوفر على مسجد وسوق ومستشفى. فيها سكنوا دورا مبنية بالطوب، هم الذين لم يعرفوا في حياتهم غير أكواخ القصب.” (22)

 ويتقوى هذا الفرح ونحن نرى مجتمع القرامطة في وحدته وأمنه وأمانه، في تنظيمه المحكم للحياة الاجتماعية. وقيادته الجماعية لتجربة التغيير في العلاقات الاجتماعية، وممارسة السلطة وصياغة القرار، وفي التغيير الإنساني الذي يطال كل جوانب الحياة المادية والمعنوية، بما في ذلك التصورات والمعتقدات. ويزداد الفرح غبطة وحبورا كلما توسعت حقوق الناس ونالت المرأة مكانتها اللائقة، بعيدا عن الدونية والتبخيس والقهر.  كما نستمر في القراءة تبعا لمكر التاريخ في فجائيته المرعبة. يتملكنا الحزن والألم حين نتعرف استمرار ورسوخ العبودية في مجتمع القرامطة، حيث عدد كبير من الناس سلخت منهم قيمتهم الإنسانية وتحولوا الى متاع يباع ويشترى. كما نصاب بالخيبة تجاه المسارات، ولا نقول الانحرافات، البشعة في الخراب والتدمير والقتل المروع الذي مارسه القرامطة، خاصة في عصر أبي طاهر. وأيضا نتفاعل مع رسائل أبي الفتح وأبي علي باعتبارهما الضمير الحي الذي يبلور الوعي اليقظ والسؤال النقدي في قراءة الواقع في أفراحه وأتراحه، في انتصاراته وهزائمه، في قيمه الإنسانية وفظاعاته. وفي الهذيان الديني والسياسي للأحلام التي تنهض على أنقاض الجثث والدماء المهدورة للمقهورين. ذنبهم الوحيد أنهم كانوا في مدن الخليفة. هكذا نواصل القراءة تحت وطأة تاريخ دموي لا يرحم الحلم، ولا يترك متسعا لمجانين الأمل في الولادة من جديد.  

استثمرت الرواية بشكل مبدع خلاق المعطيات التاريخية، وهي تميز نفسها عن تاريخ المنتصر الذي ضيق الخناق على الذاكرة. حيث قُمعت أي محاولة لتدوين ما حدث بشمولية أوسع، ومن زوايا نظر مختلفة، لما ترسب في ذاكرة الناس من صور وأفكار وتمثلات، أو خطه الناجون من المحرقة التي طالت كل ما يمت بصلة للأحداث والوقائع. أو ما هو مكتوب في كتب ومخطوطات المنهزمين التي أبيدت وأحرقت.

تعود الرواية إلى الزمن التاريخي لتبني الزمن السردي، معتمدة في ذلك على منطقها التخييلي ككتابة إبداعية، لها أدواتها وآلياتها الفنية، في تشكيل هويتها السردية المتحررة من المرجعي الحدثي للزمان التاريخي. تعود الى التاريخ لتقوله روائيا، بأدوات التخييل في الاسترجاع و التقطيع، وإعادة التركيب للمفكك المتناقض والمتنافر، من خلال حبكة روائية تسحر فيها سيرورة السرد فعل القراءة. وتعطي للتاريخي معنى حيا، ضد منطق التاريخ المرجعي الواقعي الجاف والمحنط، والمشحون بالأحكام المعيارية والأخلاقية التمييزية، في الاقصاء والعزل والمسخ والتشويه للرأي الاخر، في السياسة والفكر والدين، وفي الرؤية للذات والآخر والعالم. اشتغال الذاكرة السردية التخييلية يفسح المجال لكل الأصوات الأخرى في الكلام والتفكير والشك والنقد. والسؤال هو الهاجس الأكبر في سيرورة بناء الخطاب أكثر من الانشغال بالحدث التاريخي، كمتن روائي.

ثالثا: حفريات في تاريخ المقهور

“الأرض الميتة، هكذا كانوا يسمون هذا البلد في الماضي. فمزارع قصب السكر لم تر النور إلا بامتصاص حياة الزنوج. تعاقبوا بالآلاف على هذه الأرض المحنطة تحت القشرة الكلسية الكثيفة. مئة، ألف زوج من السواعد كانت تشقى وتكد من أجل إفراغ الأرض من صديدها، وإزالة المادة المتصلبة ونقلها على ظهور الرجال والبغال، لتكديسها في تلال عالية وعقيمة كجبال من الصخر الأصم. آلاف الزنوج اشتغلوا قسرا في حفر شبكة الأخاديد، التي تصل الى النهر، بغرض تجفيف المستنقعات وإحياء الأرض. أزهقت أرواح العديد منهم، تحت سياط الحراس، في سبيل إثراء المدير وسيده العبد. غير أن ذلك لم تكن له أية أهمية على الاطلاق، فالعبد الزنجي رخيص جدا في سوق البصرة”. (18)

 الجميل الممتع في رواية جوسلين أنها تضع العدالة أفقا للتخيل التاريخي. تذهب بعيدا في الحفر والتنقيب عن الصفائح الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، التي ولدت الاختلالات والاضطرابات، وجنون الغضب والرفض لكل ما يأتي من سلطة القهر. كما أسهمت هذه البنى العميقة، بشكل أو بآخر، في البحث عن الخلاص الغيبي، السحري، الخرافي…، حيث كان الوهم فجرا قوي الوعود، كثيف الأحلام بليلة فلق آتية لا ريب فيها، تخرج المهدي من غيبته، لينشر العدل، ويقضي على الظلم والقهر. تقحمنا الرواية في وحل المعيش والحياة، بين الجثث والدماء المسفوكة، والأرواح المغدورة. ونتعرف على خبث ما قيل  في الكتب المدرسية، بدعم من الوعاظ وفقهاء الظلام، التاريخ الإسلامي المجيد والعظيم. وفي الفظاعة التي تنشر الرواية غسيلها الدموي القذر، ندرك الكم العائل من العذاب والمآسي والآلام التي وشمت بقسوة شرسة أجساد وقلوب الناس. وفي باب الحكاية المحظور من التاريخ المهمش المغيب والمنسي نرى كيف يتحول الناس الى مجرد عبيد جياع، مسخهم الفقر والذل والمهانة في ظل الله على أرضه، ظل ذي ثلاث شعب: الخليفة، وزراء الخليفة، وجند الخليفة. هكذا تنفتح الرواية على هذا العمق المجهول من تاريخنا الذهبي العظيم. فندرك كيف يتم تمرير السائل المخصب بين وحل المعيش اليومي للعبيد والمزارعين وكل المسحوقين، وقهر الخليفة، ليولد المهدي في قلوب الناس حلما وأملا في التغيير والعدالة. ونفهم لماذا قامت ثورة الزنج ودولة القرامطة، وغيرهما من قوى الكفاح والرفض. كما نتجشم عناء الركض، و السفر والترحال مع الزنجي الصغير “ولد”، الذي فوجئ بخبث العلامات التي ترميه بشرر العبودية، كالقدر المحتوم الذي لم يحرمه الدين القيم . نتابع بشوق كبير المسارات والمنعطفات التي مر منها ” ولد”. وتزيد حبكة الرواية من سطوتها الفنية والجمالية، وهي تضع في طريق “ولد” رجالا مساعدين: زيد والتاجر وأبو الفتح. وضعوه في تفاصيل ذاكرة صراع المقهورين مع الخليفة، حتى يتعرف طريقه، قدره المرسوم بحد العرق والفقر، في أن يكون حرا أو لا يكون. ومع سيرورة القراءة في هذا الحفر الذي تورطنا فيه الرواية، نفرح لانتصارات ولد ومن معه من قرامطة سعيد الجنابي. و نحبط الى حد الخيبة و السخط الشرس عندما دمر القرامطة الكوفة والبصرة ومكة، ومُسّ المهمشون في أرزاقهم وأرواحهم وأمنهم. وتضاعفت عذابات الألم بعد انقلاب أبي طاهر على التجربة السياسية والاجتماعية والاقتصادية الفتية للقرامطة، المناهضة للظلم والقهر والجور والاستبداد في الحكم، وهي ترفع  مبادئ العدالة والحرية والتسامح والتعاون والتآزر، بين المقهورين. فلا أغنياء ولا أثرياء، ولا فقير منبوذ، متروك مرمي لحاله، في القهر مأواه. وكانت الخسارة مرعبة وكبيرة عندما قتل “ولد” معلم ومربي الطاهر أمام عينيه، وعلى مقربة منه، دون أن يرف جفن ضميره الإنساني المفقود.

تبعا لتوالد حكائي جميل وجذاب نصاب بعدوى الحفر عميقا في هذا التاريخ المنسي، الذي فتح التخيل التاريخي الروائي باب حكايته المحظورة. فيحاول القارئ الممسوس بحلم القرامطة البحث عن الكتب القليلة حول ثورة الزنج وتجربة القرامطة في النص/المعتقد، والسلطة والتاريخ.

ووراء هذا الانهمام بتجربة هؤلاء الصعاليك، بالمعنى الإيجابي للتسمية، تنتصب بشموخ شاهق حرقة الأسئلة، التي اكتوت بلهيبها شخصيات الثوار، مثل زيد والمؤرخ أبو الفتح…

رابعا: العمق الجذري لحرقة الأسئلة

العمق الساحر لتجربة القرامطة في رواية جوسلين، يكمن في روعة إستراتيجية الكتابة الحوارية التي تعتمدها، أولا، في تركيبها بين الصنعة الروائية والرؤية الفكرية، كقطب فني لاشتغال النص، في توليد الخصائص الفنية والفكرية، وثانيا في علاقتها التفاعلية بالقارئ كقطب جمالي فاعل. تضع الرواية بين يديه المعطيات والملفات بموضوعية وحيادية في البناء والتركيب لكل الرؤى والأصوات والتناقضات والمفارقات، المقبولة عقلا ومنطقا، والمفارقة للعقل والتاريخ، الغريبة والغيبية في أفكارها وقناعاتها ومسوغاتها. هكذا يتورط القارئ في لعبة بناء الفرضيات التأويلية قصد إنتاج المعنى ومطاردة وقاحة وخبث العلامات، وتوليد الدلالات.

فبرزت أسئلة الشرعية والمصداقية الدينية والأخلاقية لهذه الثورات. أسئلة المقدس والمدنس المغرضة التي تحاول تشويه بعدها القيمي والإنساني، والتستر على المدنس السياسي والاجتماعي للخليفة”. اندلعت الثورة مع نهاية رمضان. ألا يعتبر ذلك طنبا؟ أن نحارب خلال هذا الشهر المقدس؟ لكن ألا تعد التضحية بأولئك الذين يخلقون الثروة بسواعدهم وينحصر كل طموحهم في المطالبة بحقهم فيها، ذنبا أكبر؟ هذا الحق هو ما وعد به علي”. (19)

وتطال الأسئلة واقع التغيير الذي فرضته ثورة الزنج، التي لم تكن بديلا حقيقيا في العلاقات الاجتماعية. وهي تعاود إنتاج العبودية من جديد. بالأسلوب الدموي نفسه في التخريب والمجازر. لكن من المغالطة التاريخية أن نحاكم نحن ثورات الماضي خارج شروطها وظروفها التاريخية الاجتماعية والثقافية الأيديولوجية. ومن الغباء أن ننتصر لسلبياتها ومساوئها، بدعوى الحق في الثورة والتغيير. ومع ذلك فلا وجود لممارسات إلا في شروط وسياقات تتجاوز المثاليات في الأحلام الساحرة الأخاذة.

“وماذا عن تخريب العديد من المدن المحتلة؟ عن المجازر التي ارتكبت؟ وماذا عن إحراق البصرة ومسجدها الكبير؟ إذا كان الخليفة يعاملك بسوء، فحارب الخليفة، يقول زيد. الشر يوجد في الإنسان… ألا يتاجر أهل البصرة في أجسادنا؟ ينظرون إلينا نموت دون أدنى بصيص من الرحمة في عيونهم. لأي ملة ينتمون إذن؟ الديانة التي نعرفها تقول بأننا جميعا سواسية، وأنه لا شيء أفضل عند الخالق من فك رقبة”. (24)

هذا ما قصدناه بالبعد الحواري الفاعل في الرواية. تستحضر القارئ المتعدد المتباين في مرجعياته وقناعاته. تحاوره وتدفعه لمزيد من التفكير النقدي الشامل، بأخذ الأمور من كل جوانبها، ووجوهها المختلفة. فالهدف هو حماية الذاكرة من التهميش والتشويه، وتسليط الضوء على المآسي التي عاشها المقهور في ظل سلطة الخلافة التي بنت مجدها وتراثها على أنقاض ودماء الفئات الاجتماعية المسحوقة من العمال والفلاحين والعبيد والنساء…

وتتجذر حرقة الأسئلة في حواريتها، من خلال  تقييمها لفشل الثورة، كما لو أن هذا النقاش له امتدادات، وارتباطات جد معقدة في الزمن السردي والتاريخي. خاصة بعد النكسة التي أصابت الثورات العربية اليوم. “من يتحمل إذن وزر الخطأ؟ هل هو الخليفة؟ أم الذين رفضوا التنازل عن حصة من ثرواتهم؟ نعم بكل تأكيد لذلك فكرت بأن العلة تكمن في الخونة، الذين كان يعوزهم الايمان وتنقصهم الثقة. هذا صحيح، لكن جزئيا فقط. فعالم من قبيل العالم الذي يبشر به علي لا يمكن أن يقام بين عشية وضحاها. علمني زيد الكهل بأن العديد من الرجال انتفضوا قبلنا في أطراف الإمبراطورية، وكنت أحلم بأننا نحن من يبني ذلك العالم. لكن يبدو أنني كنت مخطئا. صرت الآن أدرك أن ذلك سيأخذ وقتا طويلا… غير أن اليوم الذي سيصير فيه العالم واقعا معاشا سيأتي لا محالة، لأن الرغبة لن تموت”. (30)

هكذا هي الرواية على طول صفحاتها، ومن خلال تخيلها التاريخي تحقق راهنيتها الإبداعية. حيث تجمع كما قلت بين الصنعة الفنية والرؤية الفكرية. تكتب ما لم يكتب بشراكة مع القارئ، موحية على أن ما يحدث اليوم قد حدث بأشكال مختلفة عبر التاريخ البشري. وأنه من الوهم أن تتوقف جدليات التاريخ رغم مكرها العنيف والشرس أحيانا. لذلك كانت حريصة في سيرورة تفاعلها الجمالي مع القارئ، على الايمان بالحلم، بقدر ما هي مشبعة بالأمل. لكن بدون تقديس أعمى يؤدي الى كوارث وفظاعات لا تختلف كثيرا عما جاءت الثورة ضده.

“لمدة طويلة لم أطرح على نفسي أي سؤال. كان كل فصل جديد من فصول كفاحنا يقربنا أكثر من حلم علي، ومن ذلك الوعد بإمكانية تحقيق العدالة على الأرض. باسم ذلك الحلم أصبح كل شيء مشروعا. إحراق مدينة تأخرت في الاستسلام، تقتيل سكانها. كنا سكارى بنشوة انتصاراتنا وبكل هذا العنف. غير أن حلم علي كان يضيع وسط كل ذلك، لأنه، قل لي أنت، من يجني العنب من الشوك؟ لم نكن أفضل من أولئك الذين كنا نحاربهم، كنا نخرب قرى مخربة أصلا، ونسرق ما تبقى من غذاء لسكانها، كنا نحرر عبيدا لنستعبد آخرين. لم نكن نجلب سوى الموت والدمار بدلا من الوعد بالسعادة. وذات صباح استيقظت. كان الحلم قد تهشم خلال الليل، تهشم لدرجة صرت معها عاجزا عن لملمة شظاياه”. (36)

* جوسلين اللعبي (حكاية القرامطة)، ترجمة لحسن مقنع- منشورات الجمل، الطبعة الأولى 2022.

Visited 1 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي