حول صلات الحضارة والثقافة
د. أحمد بابانا العلوي
– 1 –
بين الثقافة والحضارة
إن معنى الحضارة والثقافة أصبح يشير إلى نفس المعنى بحكم السياق الذي يضم التعبير..، والواقع أن التطور الذي طرأ على لفظ الثقافة (Culture) خلال العصور الأوروبية، يدل على التغيير الكبير الذي تعرضت له الحياة الأوروبية، فاللفظ يدل على كل أنواع النشاط وكل أنواع العمل، ويتضمن معنى العبادة الدينية ونظام آداب ومعيشة وسلوك. إلى جانب معنى الزراعة والاستثمار..، ثم أصبح اللفظ في العصر المسيحي يشير إلى الاكتمال الشخصي والتهذيب الأخلاقي..
ففي العصور المسيحية ظهر تعبير “الثقافة المسيحية” الذي ينسحب على العوامل الأخلاقية التي تؤدب الجماهير العريضة، وتحريرها من الفكر الوثني.
وصارت الثقافة تتطور عبر العصور، بحيث أصبحت المحدد لنصيب الفكر في الواقع الاجتماعي..، والدليل على الدور المعرفي في مجال التطور الحضاري وذلك برفع مستوى الإدراك العام، بترشيد الرأسمال المعرفي.
وكل معرفة إنما هي نتيجة تطور فكري في الواقع الموضوعي..
فالثقافة من الوجهة الا نتربولوجية ، هي مجموعة من الرموز التي تعكس الحياة العضوية للجماعة..، وتمثل شكل الفكر الذي يسمح ببلوغ الحقيقة وتملك القدرة على المعرفة الحقيقية، أو الفكر الذي يحاول أن يحدد الشروط والحدود للانبعاث الحضاري، وكل انبعاث حضاري يتطلب إحياء التراث وجعل الوعي السياسي والثقافي يتجلى في المشروع الحضاري القومي…
إن جوهر الثقافة هو الوعي التاريخي للعصر والواقع معا.. وإدراك حقيقي للأخطار والتحديات، فمن خلالها نستطيع قراءة الأفكار واستشراف المستقبل..
فالثقافة عملية بحث دائم للإجابة على الأسئلة المتجددة في عالم متغير شديد السرعة، والاضطراب، يصعب فيه تحديد التأثير الثقافي، والدور الذي يقوم به المثقفون..، ومأساة الثقافة العربية كامنة في مأساة العقل والوجدان.. فإذا خمد الوجدان في الأمة تعطلت حيويتها الثقافية، ولم تعد قادرة على النهوض الفكري..
أما إذا بقيت محافظة على الحيوية الثقافية أثبت أنها أمة ذات وجدان حي قابلة للنهوض والتجدد والتوحد.
لقد اكتشف عقل النهضة الأوروبي أن تجديد التراث الأغريقي والأوروبي عامة هو الجذوة التي أشعلت التجديد الفلسفي والعلمي على يد قادة الفكر ووجهابذة العلماء، في الغرب الحديث.
وغني عن البيان أن سيطرة الروح التقليدية في أية حضارة يعوق مثل هذا التجديد.. لقد أدت الثورات الأوروبية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر إلى جعل المشروع الثقافي النهضوي الأوروبي مشروعا حضاريا إمبرياليا…
– 2 –
فلسفة الحضارة
إن تاريخ الحضارة هو تاريخ الإنسانية كلها، من حيث أنها معبرة عن أخص خصائص الإنسان: الدين واللغة، والقضاء، والمدن والملاحة، وأحوال المعيشة، والمواسم والأعياد…، فالحضارة هي مجموعة المعارف العلمية والنظم والعادات والآداب تمثل الحال الفكري والاقتصادي والسياسي، وسائر مظاهر الحياة المادية والمعنوية في مرحلة من مراحل التاريخ، وكل حضارة إنما هي نتيجة جهود بذلتها الأجيال السابقة خلال العصور المتطاولة..
وغاية الحضارة الارتفاع بالحياة الإنسانية في جوانبها المتعددة العقلية والمعيشية والنفسية والخلقية، والاجتماعية، إلى جانب الحياة الفردية..
الحضارة الصالحة تفسح المجال لنمو العقل، توسع آفاق العلم والمعرفة، وتزيد من قدرة الإنسان على السيطرة على الطبيعة ليستثمرها لتسهيل أمر معاشه كما تمكنه من السيطرة على غرائزه وأهوائه، وتفسح المجال أمام سموه الروحي والخلقي..[1].
من هنا جاء التأكيد على التداخل بين المفهومين الرئيسيين “الثقافة والحضارة”.
يرى “البر أشفيست” (ت 1965) في كتابه فلسفة الحضارة بأننا نستطيع أن نعرف الحضارة بصورة عامة بأنها هي التقدم الروحي والمادي للأفراد والجماعات على السواء.. فالحضارة مزدوجة الطبيعة، فهي تحقيق سيادة العقل أولا على قوى الطبيعة، وثانيا على نوازع الإنسان..
إن كلمة حضارة المقابل لكلمة civilisation بمعنى التقدم المادي (Progrès)، أما لفظ الحضارة الذي تعنيه كلمة (Kulture) فمعناه البعد الأخلاقي أو القيم الأخلاقية. فالتقدم الأخلاقي، حسب “أشفيستر”… هو جوهر الحضارة، أما التقدم المادي يمكن أن يكون له أثر طيب أو سيء في تطور الحضارة..[2].
إن حياة الكلمات ليست بمعزل عن حياة الأفكار وكلمة (civilisation) مشتقة من فعل (civiliser) بمعناه الذي كان متداولاً عند كتاب القرن الثامن عشر الفرنسي..، فمعناه ابن “الحاضرة” وما يترتب عن العيش في المدن من آداب وسلوك وصلاح السمت والمعشر وصقل في الفكر..
ويرجع لفظ المتحضر أو المؤدب (Polite) إلى المدينة اليونانية (Polis).. وعلى هذا نفهم العلاقة في اللغات الأوروبية بين التمدن والفنون المهذبة..
فالمقصود من التأديب في مصطلحات اللغات عامة هو صلاح الإنسان ورقيه الروحي والمادي..
فهو في عرف العصر الحديث قد تربى على العلم والأدب والتاريخ والحكمة، وجمع بين ثقافة الفكر والضمير..[3].
الثقافة تهتم بالإنسان كروح وعقل وفكر..، أما الحضارة فتهتم بالإنتاج المادي في جميع صوره..، والملاحظ أنه كلما آزداد الإنسان تقدماً مادياً، تراجع ثقافياً وأخلاقيا..
فالحضارة تعني فن العمل وصناعة الأشياء، والتغيير المستمر والسيطرة على العالم..[4].
إن عالم الصناعة المتقدم ينتج الثقافة ويملك مؤسسات الإنتاج الاقتصادية العابرة للقارات..
ونتيجة للتقدم الصناعي تحول المشروع الحضاري الغربي إلى قوة توسع إمبريالي واستعماري..
الأمبريالية تعني التوسع الثقافي والحضاري، والسيطرة السياسية والاقتصادية والاجتماعية..
المجتمع المعاصر بما حققه من تقدم في مجال التكنولوجيا والصناعات المتقدمة… التي جعلت من النموذج الحضاري الغربي، النموذج المثالي الذي يحتذى به على الصعيد العالمي..
– 3 –
ابن خلدون: المغلوب مولع بمحاكاة الغالب
يقول ابن خلدون في مقدمته أن المغلوب مولع بمحاكاة الغالب، لأن التعلق بعوائد الحضارة وتقليد أنماطها ناتج عن الإحساس بالغلبة والوهم بكمال الغالب..
فالمغلوب يتشبه أبدا بالغالب في سائر أحواله.. لأن الهزيمة توحي إليه أن مشابهة الغالب قوة يدافع بها مهانة الضعف الذي جنى عليه تلك الهزيمة..
ويوشك المغلوب أن يندمج في بنية القوي المتسلط عليه، ويفنى فيه، عادة، وعملا ولغة وأدبا..، إن لم تعصمه من هذا الفناء عصمة من بقايا الحيوية، كمنت فيه، وورثها من تاريخه القديم..[5].
إن أهم ما يلفت النظر في المتن الخلدوني هو رؤيته المتميزة للحضارة، من حيث هي قوة، من أبرز سماتها شمول التقنية وانتشار الصنائع، واتساع العمران..
فالحضارة ظاهرة من ظواهر الاجتماع الإنساني، تخضع لقوانين النشوء والارتقاء والاضمحلال..[6]، إن الحضارات تختلف فيما تضعه من أهداف وتومن به من مثل ومعتقدات..، فإذا فسدت مثلها وقيمها انحدرت الحضارة نحو الانحطاط والسقوط..
إن ربط نشوء الدول والامبراطوريات.. بالحضارة أدى إلى القطع بوجود حضارة عالمية يستولي عليها الغرب ويوجهها لخدمة أهدافه ويجعل منها قانونا تاريخيا لعصرنا..
إن الموقف الذي يفرض نفسه إزاء هذا الوضع يطرح كيفية الانخراط في الحضارة المعاصرة، وصور الاندماج فيها..
وليس أمامنا سوى أن نختار طريق القوة والاندماج بشراكة وبحس إبداعي، إذا أردنا أن نغير واقعنا ونحدث تغييراً بنيوياً داخل الحضارة، وليس خارجها..، ضمن ما يتيحه لنا عالم لم يعد يتسع إلا للأقوياء..[7].
هذا ما يمنح بوجه خاص العديد من الفرص التي تتيحها الحضارة داخل أشيائها وأفكارها للإنسان..
ولكن لابد من التمييز بهذا الصدد بين استهلاك منتجات الحضارة، والمشاركة في بناء الحضارة..
إن الحضارة لا تبيع جملة واحدة الأشياء التي تنتجها ومشتملات هذه الأشياء.. أي أنها لا يمكن أن تبيعنا روحها وأفكارها وثروتها الذاتية..، هذا الحشد من الأفكار والمعاني التي لا تلمسها الأنامل.
ولكن بدونها تصبح الأشياء فارغة، دون روح، وبغير هدف..[8].
إن مشكلة كل شعب هي مشكلة حضارية بالدرجة الأولى، ولا يمكن أن يفهم أو يحل مشكلته، ما لم يرتفع بفكرته إلى الأحداث الإنسانية..، ويتعمق في فهم العوامل التي تبنى الحضارات أو تهدمها.. ويعي ما تنطوي عليه من أسباب التقدم..، وما الحضارات إلا عناصر للملحمة الإنسانية، منذ فجر التاريخ..[9]
فإذا ما حددنا مكاننا من دورة التاريخ، سهل علينا معرفة عوامل النهوض أو سقوط..
إن استراد الحلول والمناهج الجاهزة التي لا تنسجم مع ما تقتضيه قوانين التاريخ..، تعتبر جهداً ضائعاً كما أن كل تقليد في هذا الميدان هو جهل وانتحار..[10].
– 4 –
التحدي الغربي الشامل
كان لسطوة الحضارة الأوروبية الحديثة أثر بالغ على العالم العربي ونخبه ومثقفيه..، فأخذوا أولا بالدعوة إلى محاكاة الغالب وهي العادة العامة..، ثم انتقلوا من التقليد الآلي الذي
لا تميز فيه، ولا اختيار إلى المحاكاة المميزة، المختارة تمهيدا للاستقلال المسدد إلى غاية..، فقد أوحت حيوية التاريخ واللغة إلى العقول المتيقظة، أن يشبهوا أنفسهم أيام مجدهم وازدهار لغتهم، ولا يشبهون الأوروبيين في حضارتهم الحديثة..[11].
في بداية عصر النهضة العربية الحديثة أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، كان العالم العربي والإسلامي فريسة الاستعمار والتجزئة والتخلف..، وكان قد مر بفترة جمود طويلة أصابته بصدمة التحدي الغربي..
ورغم ذلك، أظهر استجابة لافتة للنظر بهذا التحدي الجديد..، فكان فكر الشيخ محمد عبده (ت 1905) الإصلاحي في شؤون الدين واللغة والتربية لمواجهة التحدي الغربي الشامل..
الفكر الإصلاحي بحكم دوره يشرئب في وجه التحديات ويتصدى للبحث في أسبابها ووسائل علاجها ويقدم الحلول ويرسم طرق التجاوز ويضع برامج العمل وتجديد السير..
ولعل أهم وسيلة للخروج من حالة الإنسان المسلوب الحضارة أو الذي لم يعد قادراً على إنجاز عمل متحضر (Œuvre civilisatrice) هو إعادة النظر التي تبدأ بطرح الأسئلة لزحزحة عبئ الأجوبة الجاهزة الكثيرة المعروفة، والمتداولة.. التي تعطل الفكر وتكبل الإرادات..
إن أقسى فترات الانتظار في التاريخ هي فترات الخلاص والتطلع إلى فجر جديد..
وإن من مستلزمات التنوير الرجوع إلى “الأصول” أصول الثقافة الإنسانية والحضارات العالمية، التي لا تفقد قيمتها مع ذهاب هذه الموجة أو تلك، والتي لا يستغنى عنها في بلورة أية رؤية حضارية جديدة، جادة ورصينة، ثابتة وباقية، لا تتعرض للاهتزاز والسقوط مع النكسات والنكبات..، والأصول رغم تقادم الزمن وتجدد المراحل هي أبداً حية، متجددة..
الأصول تشمل الفلسفة الإغريقية والفلسفة الإسلامية، والفلسفة الحديثة والأدب العالمي..
هذه هي الأصول الجامعة للأدب والفلسفة والفكر..، والغاية من العودة إلى الأصول هضمها وغربلتها واستخراج شيء جديد منها..
إن العودة إلى الأصول ملحة، على ضوء الأزمة الحضارية التي تعانيها الأمة العربية والإسلامية، ولابد أن نخرج من متاهة المذهبيات الأدبية والفكرية إلى رحابة الأصول والثقافات الإنسانية التي أسست النهضات وأقامت الحضارات[12].
وكل عصر يطرح أسئلته الأساسية، ويربطها بالعودة إلى الأصول الثقافية والحضارية الكبرى..، ومنذ بداية عصر النهضة، برز صراع ممتد بين تيارات الفكر العربي الحديث، حول القديم والجديد أو فكرة الأصالة والحداثة..
وضمن هذا السياق يندرج السؤال حول التقدم الحضاري، ومعضلات التأخر التاريخي في باب البحث عن استجلاء ما قدمه خطاب الحداثة عند طه حسن وعبد الله العروي من أجوبة فكرية عن معضلات التقدم والمستقبل..
_______________
[1] – أعمال غير منشورة، محمد عبد الهادي ابوريدة، الجزء الثالث، الإسلام والحضارة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ط 1، 2011، ص 6. انظر كذلك محمد المبارك، الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية، دار الفكر، ط 2، 1970، ص 27 – 28.
[2] – فلسفة الحضارة، ألبير أشفستر، ترجمة عبد الرحمن بدوي، دار الأندلس، ط 1/ 1980، ص 34/35.
[3] – عباس محمود العقاد، عيد القلم، المكتبة العصرية، بيروت، ص 27.
[4] – الإسلام والحضارة، ص 8.
[5] – العقاد، دراسات المذاهب الأدبية والاجتماعية، ص 7.
[6] – ادريس هاني، حوار الحضارة، المركز الثقافي العربي، ط 2، 2002، ص 100.
[7] – المصدر السابق، ص 106.
[8] – مالك ابن نبي، شروط النهضة، ترجمة عمر مستاوي وعبد آل صبور شاهين، دار الفكر، دمشق، 1979، ص 43.
[9] – المصدر السابق، ص 19-20.
[10]– نفس المصدر، ص 48.
[11] – العقاد، دراسات المذاهب الأدبية، ص 8.
[12] – محمد جابر الأنصاري، تحديد النهضة باكتشاف الذات ونقدها المؤسسة العربية للدراسات والنشر، ط 1، 1992، ص 40-41.