عن أيّ قدسية يتحدّثون!!
عز الدين العلام
يبدو اليوم أكثر من أي وقت مضى، ضرورة نزع طابع القداسة عن الكثير من المفاهيم، وعلى رأسها مفهوم “الخلافة”، راشدة كانت أو قاصرة. فالكثير من الكتَبة والدّعويين ممّن يستحضرون الخرافات والأباطيل وأساطير الأولين، ويجهلون جهلا مطبقا قوانين التاريخ ومحددات الجغرافيا، يقدّمون لنا العقود الثلاثة الأولى التي عقبت وفاة النبي محمد باعتبارها عصرا “ذهبيا”، لا ككل العصور: خلفاء “راشدون” يحكمون بالعدل، وبما أنزل الله، ورعية راضية مرضية، كل فرد فيها يحبّ لأخيه المسلم ما يحب لنفسه…
ليس من مبادئ العقل، ولا هو من التّفكير التاريخي أن نعزل هذه “العقود الثلاثة” الأولى عن محيطها، ونقدّسها في حين أنّها لا تعدو أن تكون مرحلة تاريخية سمتها المغالبة العصبية، وعلاماتها الفتن والردّة والتوجّس، وأدواتها السيف والسهم والحرباء، ونتائجها الاقتتال والاغتيال…
من حقّنا أن نتساءل اليوم عن سرّ هذه الثنائية المدوّخة التي رسمت في المخيال الشعبي للمسلمين صورا انحفرت في قرارة لاشعورهم، تقدّم لهم هذه الفترة بملامح العدل المطلق وتعفّف الصحابة وتقوى الرعايا؟ بل ومن حقنا أن نتساءل أيضا كيف أصبحت هذه الفترة الدموية مرجعا “ذهبيا” عند كلّ من هبّ ودبّ من الكتَبة ودعاة آخر زمان الإسلام؟
لنقرأ وقائع اجتماع “سقيفة بن ساعدة” (راجع على سبيل التلخيص كتاب المرحوم عابد الجابري “العقل السياسي العربي”) لندرك كيف أنّ الاعتبارات الدينية كانت غلافا يلفّ فيه كل خطيب مواقفه، هذا إن لم يسلّ سيفه مهدّدا ومتوعّدا. ولنتأمّل في “الردّة” التي اشتعلت نارها في جلّ المناطق باستثناءات قليلة، وكانت بالتالي التّحدي الأوّل الذي واجهه أول خليفة في الإسلام. ولنفكّر في الخليفة الثاني الذي يقدّمونه لنا كحاكم عادل يترجّل في الأسواق، ويعاشر عامة الناس، ويتجوّل أمام الملأ دون حرس عمومي أو خصوصي. بل وحدث له أن استسلم للنوم في قارعة الطريق (إن كانت هناك طريق وقتها!) دونما خوف من مكروه، ومن هنا قيل عنه القول المأثور: “عدلت يا عمر فنمت”، غير أنّ ما يتغافل عنه الكثير هو أن صاحبنا لم يسلم من القتل، فاغتالوه لحسابات عصبية لا مجال لذكرها هنا، بل اغتالوه، وهو في كامل يقظته يصلي في أقدس مكان عند السلمين. ولننظر في النهاية المأساوية للخليفة الثالث الذي قتلوه أشرّ قتلة، كما يحكي المؤرّخ الطبري تفاصيلها. ولنبحث في الفتنة الكبرى الذي دشّنها الاقتتال الدموي بين أنصار الخليفة الرابع وأنصار معاوية بن أبي سفيان… هذه كلّها وقائع معروفة، فلمَ نغضّ الطرف عنها؟ كيف لنا أن نقدّس مرحلة قُتل فيها ثلاثة خلفاء من أصل أربعة، (وإن كان هناك من يدّعي أنّ الخليفة الأوّل مات بدوره مسموما) علما أنّ مدّتها لا تتجاوز ثلاثين سنة !!
قليل هم المفكرون والباحثون الذين أجهدوا أنفسهم بالعودة إلى أصول التجربة الإسلامية، باحثين في مصادرها، وشارحين ظروف وملابسات تقديسها. يكفي أن أشير إلى علي عبد الرازق في كتابه الشهير حول “الإسلام وأصول الحكم”، الذي نزع عن الخلافة كلّ قداسة، كما نزع عن هذه الفترة “رشدها” معتبرا إياها مثل ما سيليها من فترات، مسكونة بالصراعات الدنيوية والسياسية، بل ورافضا على الخصوص أن تكون بالضرورة النموذج السياسي الأمثل الذي يجب فرضه فرضا على مسلمي اليوم. ويكفي أيضا أن نذكّر بأعمال محمد أركون الذي تحدث مطولا عمّا أسماه “السيادة العليا” في مواجهة “السلطات السياسية”، موضحا غير ما مرة التناقض الأزلي بين الطبيعة البشرية العدوانية، وما تطمح له الديانات من سمو روحي، ومبرزا على الخصوص رسوخ ظاهرة “العنف” خلال هذه العقود الثلاثة، على الرغم من جدّة الدين وحداثة الدعوة وذاكرة صحابة الرسول. وحتى لا أطيل في هذا الباب، يمكن للقارئ أن يعود إلى أعمال بعض المفكرين والباحثين الذين استقرؤوا الموضوع عن قرب، بدءا من طه حسين إلى صادق جلال العظم، وصولا إلى ما تضمّنته بعض أعمال عزيز العظمة وعبد الله العروي وعابد الجابري من تحليلات تخص الموضوع، ناهيك عن إمكانية الرجوع لما دوّنه بعض فقهائنا ومؤرخينا القدامى أنفسهم، والذين استعرضوا عشرات الوقائع التي تبرز دموية هذه الفترة ودسائسها واقتتالاتها.