غسان كنفاني.. الرسالة التي وصلت بعد 32 سنة
أفق : يكتبه صدوق نورالدين
1/
أعيد قراءة “أم سعد”. لا أذكر عدد المرات التي قرأتها. إلا أني _ وفي هذه المرة بالتحديد_ أعيد القراءة لمناسبة الذكرى الخمسين لاغتيال الروائي غسان كنفاني.
كتبت رواية “أم سعد” في (1969). في السنة ذاتها التي ستظهر فيها “عائد إلى حيفا”. و من قبل “ما تبقى لكم” (1966). بمعنى أن “أم سعد” مثلت واسطة العقد، أو “نقطة التقاطع” بين روايات كنفاني جميعها.
وزع غسان جسم الرواية إلى تسعة فصول. يتفرد كل، بعنوان، مثلما يتفاوت في الطول. الناظم بين الفصول حكايات “أم سعد” الموازية لواقع الحياة الفلسطينية. إنها سيرة شخصية، و بالتالي قضية.
ما يلفت، بنية الرواية المغلقة. يجسد الانغلاق رمز الدالية. إذ يشار إليها في بداية الرواية كالتالي:
_”قد لا تعرف شيئا عن الدالية، و لكنها شجرة معطاء لا تحتاج إلى كثير من الماء. الماء الكثير يفسدها. تقول : كيف؟ أنا أقول لك. إنها تأخذ ماءها من رطوبة التراب و رطوبة الهواء، ثم تعطي دون حساب”.
و أيضا من خاتمتها:
_” برعمت الدالية يا ابن العم برعمت”.
” تنظر إلى رأس أخضر كان يشق التراب بعنفوان له صوت”.
يحيل رمز الدالية على العطاء، ويرتبط بالمقاومة واستمرارها. وليس سعد سوى النموذج، وأما سعيد فالاستمرار. قد تكون الدالية إشارة لشخصية أم سعد المقاومة والمناضلة، ويحتمل أن تمثل القضية الفلسطينية في فرضها قوة حضورها. القوة الخضراء الممتلكة للصوت. صوت الروائي الذي يعي تمام الوعي كيف يصوغ نصه، وبالتالي كيفية تلقيه. ولعل أبرز دليل استحضار شخصية أبو سعد في ختام الرواية بالضبط، حيث عبر مشيرا إلى زوجته أم سعد :
_”هذه المرأة تلد الأولاد فيصيروا فدائيين، هي تخلف وفلسطين تأخذ”.
2/
إن ما يستوقف، الفصل السادس من الرواية الموسوم بـ “الرسالة التي وصلت بعد 32 سنة”، الرسالة التي تحمل قوة دلالتها فيما انتهى إليه الراهن من تحولات سياسية غير متوقعة.
يحكي الفصل عن ثلاث شخصيات : فضل الفلاح المناضل المتمرد الذي صعد الجبل في : 1936. عبد المولى الخائن الذي يشتغل مع الإسرائيليين، وهو نائب في البرلمان.
” وعبد المولى، مثلما قلت، صار مهما هناك، خاين ولذلك مهم عندهم. في البرلمان كما قلت. يا حيف”.
ثم ليث. الصورة المضادة لعبد المولى. وإن كان يقاوم إلى جانب سعد، فإنه يرفض في حال مكروه أن تتوسل أسرته لدى عبد المولى. يكره التطبيع، مثلما كرهت/ تكره أم سعد نزول فضل من الجبل.
– “وبعدين جاء المكتوب من ملوك العرب، ونزل الرجال إلى بيوتهم “.
فالنزول تلميح لـ / عن الانهزام. إذ كان على فضل حينها _ وحسب أم سعد _ أن “يطخ” عبد المولى كي تتخذ القضية مسارا آخر. تلك هي الرسالة الحقيقية الـتي تفرض تبليغها. تقول أم سعد مخاطبة السارد:
_” لم يقل أحد ذلك كله لفضل المسكين. فلماذا لا تقوله أنت الآن، أنت الذي تعلمت من الكتب والمدارس، لماذا لا تقوله لأهل ليث.”
3/
يمكن القول في الختم بأن غسان كنفاني، وفي هذه الرواية على قصر حجمها امتلك رؤية تنبؤية استشرافية لما سوف يصير إليه/ له واقع القضية.
إن روايات غسان تحتاج لأكثر من قراءة، ومن دراسة على السواء. ألم يقل الروائي اللبناني إلياس خوري أن غسان هو معلم الجميع.