الصِّدِّيقْ الذي أبْهَجَنا
أحمد حبشي
كان بيننا يمشي مختالا تعمده صولة الشجعان، بسمته الباذخة تلف محياه تدنيك من صفاء مهجته وسعة مجاهل روحه، في رحاب حضرته تزهر اللحظة حين يستطيب الحديث عن القادم من الأيام، تفيض رقرقة ضحكته كلما ساقته الذكرى لشعاب قسوة الأشجان، وكيف استقام قوامه وهو ينازل صفاقة الجلاد، يرد الصاع لمن سعى إلى بث الريبة في عشقه لوطن يسكن تفاصيل دمه، للحد من حلم اجتباه في أن يعيد للإنسان زلالة عزه وصولة مجده. هكذا كان، لا يطأ موقعا إلا وترك دليلا يكشف دم سلالته، بصمة تحيل على جيل استباح دمه لتزهر ألف وردة وتسمو شقائق النعمان لتفوح نسائم البسمة.
في روندا كما في اليمن كانت تسعفه العبارة للحد من أوار مسافة الفرقة والانشطار، أحاديثه عن رحلة الأدغال تكشف عن أي معدن كان. ميزة عفرت مقامه أين ما حل وارتحل، يسيخ السمع في تباث، ويعيد صياغة السؤال حتى تتضح الرؤية ويفسح المجال للحد من هباء العناد.
ليس صدفة أن نهب لنداء القلب حين دعانا للم اواصر الرفقة، نستعيد معا ،بأطيافنا ومسارات تعددنا، بعضا من ماضينا الذي كان. هكذا أعد العدة ليجعل حفلنا الأخير بهجة وداع، أصر على أن نحتفي بكل الغائبين رفاقنا وما اسدوا لنا من جميل، أحاديثهم الصاخبة وعطاؤهم الوفير، أمهات خزان مودة والحدب الكبير، آباء منبع النبل والشهامة، وكل الطيبات والطيبين من رافقوا رحلة صولتنا وباركوا هباتنا ونحن ننازل صولة النافدين، نعلن رفضنا لكل قواعد الاستبداد ومذلة الاستكان.
من مكارمه أن كان يسمو على سفاسف الأهواء، يعشق النظارة ويقدس الرفقة، لا يتردد في الخطو عند الاستجابة لدعوة مستغيث، أو إدانة غاصب، لا تغويه مكاسب ولا ترهبه إشارات استهجان او تلويح بمشانق
رفيقنا الذي ودعنا على حين غرة، كان يعد لنا محرابا لنواصل مناسك الرفقة، لنستعيد مباهج أيامنا ونعيد سبك فرائص حلمنا وننتصر للحياة، كذلك كما انتصرنا في أقسى اللحظات عن عزلة مقرفة، في جحور لا صوت يعلو فيها على صوت المزلاج.
يتذكر الكثير من رفاق دربه حكاية المحطة الإذاعية التي كان ينسق فقراتها في سرداب، لحظات ابتهاج يسود فيها الطرب وما يطلق العنان للقهقهة وتعاليق الارتياح. الكل ينتظر الصديق ليفتتح الإرسال ويكسر صمت الممر، ساعتها يطفو صخب الحياة حيث لا حياة. كانت السهرة تمتد إلى ما بعد منتصف الليل، في أجوائها لمعت أصوات تميزت بشدوها وبرعت حناجر في تمثل أصوات ومحاكاة أشخاص. تنوع مبهر في الأداء، يجلي عشقا لاستعادة نبض الرغبة في مواصلة العطاء.
وأنا أستعيد بريق بسمته أقول أن لا احد يشبهه، أشياء تخصه نادرا ما تتجلي في غيره، واثق من سبيل سيرته، حيث ما كان يترك في الناس بعضا من وجده وسماحة خلقه. يسمي الأشياء بأسمائها ولا يهفو إلى من يطنب أو يمجد جليل أعماله. قبل أن يرحل أوصانا خيرا في أنفسنا وأن نحفظ الود عربون وفاء لروحه الطاهرة.
احتضنت سلا مسقط رأسه، تفاصيل أيامه المعفرة بجليل عطائه، حمل كل خصال رجالاتها في الوفاء وعزة النفس وكثير من نكران الذات. في فورة صباه اهتدى رفقة زمرة من أقرانه، إلى أن الفعل الجماعي سبيل للرفع من منسوب الحياة وفتح مدارج نحو أفق مختلف، فكان حضوره وازنا في الكثير من المحطات المجتمعية والسياسية، تلميذ نجيب وطالب مجد ترك بصماته في كل الملتقيات، لم يشغله عشقه لكرة القدم ونصرة فريق المدينة، عما اعتبره سبيلا لتغيير معالم البلاد. تعددت مبادراته ووسع دائرة علاقاته بين ثلة من الشباب المتقد الواثق، مؤمنا بأن شيئا لا يستقيم في تدبير الشأن العام، يعرقل كل مسارات الرفع من إيقاع الحياة، بما يتناسب وعزة الوطن وكرامة أبنائه. صار على خطى النافرين في الحث على اعداد مقومات النزال، حاضرا في كل الهبات، مزهوا يتقدم الصفوف ويرتل أناشيد النصر وعشق الحياة.
رفقته علمتني أن البسمة رسالة مودة وظل أمان، وأن صيانة الود شهامة وأن الثبات على المبدئ من شيم الصدق والدود عن الكرامة. كان كلما فاض غيضه أرسل زفرة وحثنا على أن لا نهتم بهوامش الكلام. تلك وصيته التي أحفظها، استعيد تفاصيلها فابتهل باسمه وأقرأ روحه الطاهرة أزكى السلام. ذكراه تطوقنا بما عاهدناه عليه، بأن نواصل تمتين روابطنا وأن يظل الوفاء سمة من شيمنا ودليل على أن ما نختلف فيه لا يفسد للود قضية.