المجتمع العميق وحزب العدالة والتنمية: لم قتل عمر بن جلون وهو مسلم؟ (2-2)
لحسن أوزين
ج- المثقفون: هل دكوا جدران خزان المجتمع العميق؟
” إن القوة الخارجية التي تحرم الانسان من حرية توصيل افكاره بشكل علني،
تحرمه في الوقت نفسه من حرية التفكير” (كانط)
يتبين لنا من خلال الاضاءات السابقة لأقلام التنوير على أن المثقفين الحاملين للفكر النقدي كانوا على وعي تام بخطورة ما هو سائد داخل المجتمع العميق من: اللاتسامح، وعداء العقل، مع النفور من حوار السؤال النقدي. وما يترتب على هذا من رفض للتنوع والاختلاف وقبول الرأي الآخر، والنقاش المنطقي العقلاني. لذلك سادت الطائفية السياسية المذهبية * للفرقة الناجية * كقناع تديني، هو إيديولوجي، للصراع السياسي الاجتماعي الذي كانت تخوضه قوى التدين السياسي، والاستبداد، من خلال السطو على المعتقد الديني للناس، واحتكاره في نوع من الحاكمية البشرية المسيجة إلهيا، باعتبارها ظل الله في الأرض، وأهل الحق في الوصاية على حكم الله. هكذا شرعوا لأنفسم حق الاقصاء والنبذ والتكفير والقتل وتصفية الخصوم عامة، ومن الدين نفسه خاصة. وهي كلها آليات وأساليب سياقات تاريخية اجتماعية، تميزت باختلالات اجتماعية سياسية اقتصادية، عاشتها السلطة التدينية والسياسية، كوضعية دفاعية بحثا عن البقاء والاستمرار، في محاولة لتجاوز مأزقها السياسي والاجتماعي والقيمي الثقافي الديني. وبسبب ردود فعلها- الفرقة الناجية – الانفعالية وأساليب قلقها وتوتراتها المرضية الدفاعية بذرت بذور الفتنة الطائفية الدينية، والاجتماعية السياسية، والانغلاق الفكري والمذهبي، والتخلف والانحطاط المجتمعي الشامل. هكذا وجدت المجتمعات العربية والاسلامية نفسها إزاء تلك الاختلالات السياسية الاجتماعية الاقتصادية في وضعية دفاعية، سيدتها الممارسة الايديولوجية للسلطة التدينية، والسلطة السياسية. فتم تصريف التناقضات الاجتماعية والتوترات والانفعالات النفسية والوجودية، من خلال الانشطار الوجداني الطائفي المذهبي، في تجريم المختلف والأخر، الى درجة اخراجه من الدائرة الدينية الايمانية، والحميمة الإنسانية. وأسطرته كشر من الواجب الديني القضاء عليه. لهذا جعلوا من الدين أداة للقضاء على مبادئ: التوحيد والعدل والعقل والنوع الانساني، خاصة، عندما نستحضر موقفهم وتصوراتهم ومعتقداتهم حول الوأد الحي (الحجاب والنقاب) للمرأة كنوع بشري إنساني. واعتبروا كل من اتبع هذه المبادئ التي كرم بها الله الانسان، الى جانب القيم الانسانية التي تنجم عنها، من أهل البدع والاهواء، فانتشرت ظاهرة التجزئء السياسي لإقطاع الفقهاء والعسكر، والظلم الاجتماعي والاقتصادي، والانغلاق الفكري الذي ولد الشعوذة والخرافة والاساطير بما يفيد سبات العقل.
هذا هو الخزان العفن والنتن للمجتمع العميق الذي تعلن قوى التدين السياسي صحوتها التدينية انطلاقا منه، وهي تحاول تكريسه وتسييد منطق استقراره، وأسر المجتمعات العربية الاسلامية في وضعيته الدفاعية، مانعة التفكير العقلي والنقدي في إمكانية التغيير لتجاوز الاختلالات و الأزمات. و الخروج من هذا المأزق وما نتج عنه من عقلية نكوصية، وتفكير مرضي دفاعي، طال مع الزمن وامتد قرونا كلها تفتيت سياسي اجتماعي، وتخلف اقتصادي وانغلاق فكري ثقافي، وانحطاط عام وشامل لنمط الحياة الوجودي.
هذا هو الخزان الآسن عبر التاريخ العربي الإسلامي الذي حاول المثقف التنويري النقدي العربي والاسلامي هدم ودك جدرانه، لتتحرك مياه بركته الآسنة، حتى يتجدد النبع العذب الصافي. وقد قدمت أقلام التنوير، التي أشرنا الى بعض أسمائهم ، الغالي والنفيس من أجل بذر بذور التغيير التي بإمكانها خلق آفاق جديدة للسيرورة التاريخية العربية والاسلامية، بما يؤهلها للانخراط في وحدة التاريخ العالمية من موقع الندية والكفاءة والتمكين العلمي والاقتدار المعرفي والتحول الديمقراطي للانتظام الاجتماعي الانساني. وفي سبيل هذا المشروع التغييري الذي يتجاوز الفتنة الطائفية الدينية والمذهبية والاثنية الى توحيد المجتمعات في إطار سياسي يضمن حق التنوع والتعدد والاختلاف، كما يتجاوز، ظلم وتسلط الفرقة الناجية في القهر والاقصاء والتكفير والقتل، الى العدل القائم على دولة الحق والقانون والمؤسسات الديمقراطية التي تضمن الحقوق، والحريات الاساسية انسجاما مع ثقافة حقوق الانسان، كما يتجاوز سبات العقل الى الابداع الفكري والعقلاني النقدي والعلمي والفني، وبكل ما يسمح بانطلاق وتحرر الطاقات الجسدية والنفسية من قيود التحريم الديني والتجريم السياسي.
هل أستطيع حقا ودون خجل أخلاقي انساني رفيع أن أقول بأن المثقف العربي التنويري النقدي لم يقدم شيئا، أو كان ساكنا على الهامش يتفرج. وأنا أعرف بحكم اطلاعي بأن الكثير منهم قدموا حياتهم في سبيل إخراج الامكانات التاريخية الكائنة في التاريخ العربي الإسلامي، والتي قمعت وحوصرت بالنبذ والاقصاء والتكفير والقتل، تلك الامكانات التي يمكن أن تسهم بشكل أو بآخر في مشروع التغيير المنشود. والتي جسدتها تيارات فكرية وسياسية واجتماعية ثقافية في التسامح والإخاء والتوحيد والعدل والعقل…، ورفضتها قوى التدين السياسي عصرئذ الى درجة قتل كل من يتداولها بين الناس. واليوم أيضا عملت القوى الطائفية نفسها على قتل الكثير من المفكرين: صبحي الصالح، حسين مروة، مهدي عامل، عمر بن جلون، فرج فودة، وشكري بلعيد…،
لقد قام الكثير من هؤلاء المفكرين والمثقفين بأدوار طلائعية في وضع الاسس الفكرية الثقافية والسياسية، لحركات واتجاهات نقدية تعيد النظر بشكل جذري في كل ما يحتويه خزان المجتمع العميق من نتاج رمزي فكري ثقافي، وإجتماعي سياسي يكرس واقع التخلف وسيرورة الهزائم المتوالية بشكل هندسي يقاوم حركة النهوض والتغيير. يمكن القول إنه منذ نهايات الخمسينات، وهي سياقات حرقة الاسئلة التي بلورتها مرحلة ما بعد الكولونيالية، خاصة في اطار الصراع العربي الصهيوني الامبريالي، وما نتج عنه من أزمات واضطرابات وهزائم أصابت الجميع بالرعب والذهول. إلا أن الحركات النقدية الجديدة، في شخص ثلة من المفكرين والمثقفين أشرنا الى بعضهم، كل من جانب اهتماماته وانشغالاته الفكرية والمعرفية العلمية، والايديولوجية السياسية. لم تستسلم هذه الأقلام لواقع الهزيمة، بل عمقت اسئلتها النقدية بجرأة علمية نقدية، وكان من ضمن ذلك على سبيل المثال لا الحصر ما كتبه صادق جلال العظم في النقد الذاتي للهزيمة او في نقد الفكر الديني، الى جانب المراجعات النقدية النظرية والايديولوجية التي قامت بها بعض الاحزاب اليسارية، دون ان ننسى بروز قوى فكرية وسياسية ايديولوجية، جعلت من سؤال النقد إزاء الذات والثقافة والمجتمع والدولة أحد مبادئها وهواجسها الاساسية، في سياق ما عرف وقتئذ باليسار الجديد. وباختصار كانت مرحلة خصبة وثرية ودينامية في أسئلتها الجدلية بين الفكر والواقع ، بحثا عن الاسئلة الحقيقية التي طالت المضامين الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والثقافية للاستقلالات الشكلية التي حصلت عليها البلدان العربية. لقد كانت منعطفا حيا وحيويا في سيرورة حركة التحرر في سياق صراع محلي وصهيوني وإمبريالي تفجرت فيه طاقات الشعوب للعطاء اللامحدود، مما شجع اقلام التنوير العربي على نقد كل ما هو نكوصي وتقليداني وانكفائي في المجتمع العميق لغة ومفاهيما وأفكارا. مع طرح خلفيات معرفية نقدية، وتصورات اجتماعية ثقافية تؤسسها القيم العلمية والفلسفية، بالإضافة الى بلورة رؤية جديدة للذات والعالم والآخرين من خلال نقد المعتقدات الخرافية الاسطورية التي سيدتها بشكل مقدس أنماط التدين الإطلاقي المتعصب و المنغلق على الفكر والحياة. وفي سياقات هذه التحولات والمخاضات، ومن واقع جدليات الصراع المحلي والصهيوني الامبريالي برزت قوى التدين الفهلوي التي سميت زورا بالإسلام السياسي في وقت كان من الممكن تسميتها بقوى التدين الفهلوي التسلطي. وهي قوى لم تبرز لتقديم إضافة نوعية لهذا التراكم الذي أسسته أقلام التنوير العربية، بل جاءت من خلفية العداء للسياسي والسياسة، والحقد التعصبي ضد كل ما هو عقلي وعقلاني. خاصة للفكر المنطقي النقدي الذي لا يأبه بالمقدسات البشرية التي أنتجتها العصور المظلمة للتدين التسلطي في توافق مع الاستبداد، الشيء الذي جعل المجتمع العميق يدور حول نفسه في الزمن البنيوي الأقرب الى قوة القانون الطبيعي، في القدر والاعتباط والمكتوب في اللوح المحفوظ،، حيث لا خيار أمام الانسان لصناعة مستقبله ومصيره.
فكيف يمكن لقوى التدين الفهلوي التسلطي أن تكون سياسية، وهي تستهدف ليس فقط نسف ذلك التراكم المعرفي النقدي، والاجتماعي السياسي الثقافي، بل أيضا نسف السياسة التي تؤسس الانتظام الإنساني؟ إذ تعلن صراحة عن حقيقتها بالاصطفاف بجانب الدولة التسلطية، ومحاربة الفكر العقلاني والمنطقي النقدي، باعتباره فكر الأهواء والكفر والزندقة، وتصفية القوى اليسارية. وهي بذلك تدمر أرضية الصراع السياسي الحضاري التي تحكم المجتمعات في إطار الدولة الوطنية الحديثة، فاتحة سيرورة التوحش: الدم والفتن والحروب الاهلية. فلسانها على مقدس التدين وقلبها على السلطة والتسلط. لهذا تقدم خدمة جليلة للاستبداد المحلي وللسيطرة والهيمنة الخارجية، من خلال انتصارها لحركة رد الفعل المرضي النكوصي، والماضوي السلفي داخل المجتمع العميق، إزاء التحديات المطروحة دولة ومجتمعا وثقافة. وهي تحديات واجهتها أقلام التنوير السالفة بشجاعة في الفعل والارادة والتفكير والنقد والتحليل بجرأة نقدية، تؤسسها العلوم الانسانية والاجتماعية والقيم الفلسفية. ولنسف كل هذه الجهود، وإسقاط هذا الأفق قامت قوى التدين التسلطي بتشجيع الانكفاء على الذات، والانغلاق المذهبي والفكري، والتعصب الطائفي، قصد لجم طاقات التغيير الفعالة بما يخدم تأبيد الاستبداد، وديمومة التخلف والانحطاط المجتمعي الشامل واستمرار السيطرة والهيمنة الخارجية.
فإذا كنت أشرت سابقا الى حركة الفعل الإرادي والنقدي المستلهم للتحول والتغيير الذي قامت به قوى التنوير العربية، إزاء الاختلالات والازمات والهزائم ، من خلال بلورة السؤال النقدي في الفكر والثقافة، وفي الصراع السياسي الاجتماعي، على كل المستويات: في مفهوم الدولة الحديثة، وداخل المجتمع بدك جدران البركة الآسنة للمجتمع العميق، والبحث عن التيارات الفكرية والسياسية المشرقة في هامش المجتمع العميق. فلا بد من الإشارة الى حركة رد الفعل، ضد مصلحة وطموحات وتطلعات المجتمعات العربية نحو التغيير، التي أنجزتها قوى التدين الفهلوي التسلطي بإتقان وتعاون وصل حد التحالف بينها وبين الاستبداد القهري وقوى السيطرة والهيمنة الاجنبية، ولنا في حزب العدالة والتنمية نموذجا.
ثانيا: العدالة والتنمية : من جريمة القتل…، الى ممارسة السلطة
أ – لم قُتل عمر بن جلون وهو مسلم؟
ضد تلك المخاضات والتحولات الحية والحيوية، وضد تلك السيرورات النوعية التاريخية النقدية في مقاربة جدل الفكر والواقع الاجتماعي التاريخي، وهي تؤسس وتبلور السؤال النقدي في الذات الفردية والجماعية، وفي الثقافة والمجتمع، وفي الصراع السياسي الاجتماعي في إطار النضال الديمقراطي لتقوية مؤسسات الدولة الوطنية الحديثة، وضد كل حرقة الاسئلة التي تكثفت في السؤال المفتوح النهاية: لماذا الاحتلال والاستعمار؟ لماذا التخلف والانحطاط؟ لماذا الاستبداد القهري والعبودية المختارة؟ لماذا صمت التحدي وقمع التقدم والتطور والازدهار؟ ولماذا تأخر العرب والمسلمون وتقدم الغرب؟…، وضد التراكم الذي حققته أقلام التنوير العربي في إعادة تأسيس، وصياغة التيارات الفكرية والسياسية التي همشت وأقصيت عبر السيرورات التاريخية للمجتمع العميق، ضد كل هذا تم اصطناع قوى التدين الفهلوي، التي رأت في هذا كله عدوا لها، وأعلنت بصراحة رغبتها في نسف السياسة، من خلال ضرب وتهديد أو تصفية أقلام التنوير. وهذا ما حدث بصفة عامة في العالم العربي، حيث تمت تصفية الكثير من المفكرين والمثقفين، ومن ضمنهم في المغرب عمر بن جلون، وحاضرنا الراهن يؤكد استمرار الاغتيالات في تونس والأردن…
وفي سياق هذه الهجمة الشرسة على التراكم المشرق لتطلع المجتمع الى التقدم والتطور وتجاوز القهر والتخلف ولد حزب العدالة والتنمية، من رحم الشبيبة الاسلامية برأسيها الجمعوي والحركي، أو بتعبير آخر الدعوي العلني والجهادي السري، وهو يتحمل جريمة قتل النفس التي حرمت الأديان قتلها، كما حرمت قتلها القوانين الحديثة والحداثية. وعلى رأسها شرعة حقوق الانسان.” تحددت مهمة الجناح الجهادي لحركة الشبيبة الاسلامية بداية في تأديب اليساريين وإن اقتضى الحال تصفية رموزهم، وقد ألقى البيان الذي أصدره المعتقلون الاسلاميون المورطون في قضية اغتيال عمر بن جلون بعض الضوء على علاقة عبد الكريم مطيع بعبد العزيز النعماني. جاء في البيان” إن المسؤول الاول والأخير في عملية اغتيال عمر بن جلون والاعتداء على الاستاذ المنياوي عبد الرحيم هو عبد الكريم مطيع رئيس جمعية الشبيبة الاسلامية…”(محمد ضريف الاسلام السياسي في المغرب. (ص239و240).
وجريمة قتل النفس ظلت مرافقة للإسلام السياسي في العالم عامة، وفي العالم العربي والاسلامي خاصة، وهو سؤال لا يمكن لقوى التدين بحيلها وخدعها النفاقية، بين ادعاء الحكمة والموعظة الحسنة، وبين التحريض على العنصرية والكراهية، ونشر ثقافة الفتنة والتكفير بما يشجع قتل الناس، من أن تتنصل من مسؤولية اقترافه عن سبق الاصرار والترصد. ولنتأمل ما تقوله العدالة والتنمية في جذورها التأسيسية باسم ” الجماعة الاسلامية” بعد انشقاقها عن حركة الشبيبة الاسلامية ” عملا بأمر الله ” ادع الى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن” واستشعارا منا لمسؤولياتنا أمام الله عز وجل تجاه أمتنا، وما يفرضه علينا ديننا من واجب النصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.” (المرجع نفسه.255)
وفي مكان آخر يثمن خيار النظام الليبرالي” خصوصا في نظام ليبيرالي مافتئ الناس يعلنون فيه عن آرائهم وأفكارهم يوما بعد يوم.” وفي المقالة نفسها يشن هجوما عنيفا، أقرب الى العنف الرمزي الذي لا يخلو من معاني التسلط والارهاب، مع التحريض على الكراهية ضد الآراء والتوجهات المختلفة ” وإنني أعتقد أنه آن الأوان لنظهر للناس على حقيقتنا ونمر لمرحلة الهجوم بعد مرحلة الدفاع، فنكشف الشيوعيين الملاحدة المتسترين بالدفاع عن مصالح الجماهير الكادحة، والليبراليين الفجار المتسترين بحقوق الانسان ومعاني الحرية ونطرح ما نريد أن نطرحه على بساط الحوار الوطني، ونحن متيقنون أن الله سيظهر الحق الذي نؤمن به لأن أصله من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، ونحن لا نخشى الحوار بل أشد ما نخشاه هو الديكتاتورية والارهاب” (المرجع نفسه 260)
إن من يقرأ أغلب كتابات العدالة والتنمية انطلاقا من جذورها الاولى في الشبيبة الإسلامية، مرورا بالجماعة الإسلامية، وحركة الاصلاح والتجديد، ثم حركة التوحيد والاصلاح، سيجد أنها كتابات مزدوجة الخطاب بين ما تحاول التعبير عنه، وما تحاول التستر عليه. لكن التوتر الدلالي لبنية الخطاب تفضح الحقيقة الاطلاقية والانغلاقية والعقلية التكفيرية التي تحاول اخفاءها. ولعل النص الأخير لخير دليل على التعبير التحليلي العلمي لما يسمى في علم النفس الاسقاط بحيث يسقط كل الخصائص المعنوية السلبية التي يضمرها في داخله التدين السياسي على الخصوم. والاكثر من هذا يمكن القول في التحليل النفسي، إن الحقيقة في هذا النص وغيره تفلت من صاحبها فتنكشف حقيقته من نص كلامه كمتستر وراء أقنعة المقدس الديني. وهو خائف من انكشاف حقيقته كمتسلط ديكتاتوري لا يخشى ممارسة الارهاب ضد التنوع والتعدد والاختلاف…
وليس غريبا أن تتم ممارسة العنف و قتل النفس، من طرفهم، لأن الذين يعتبرون أنفسهم أهل نصح ودعوة، يعانون من فقر الدم العلمي والديني والواصل الإنساني، حيث لا وجود في صفوفهم لعالم واحد. وهذا ما لاحظه وزير الاوقاف في لقائه مع مكتب جمعية الجماعة الاسلامية التي هي أحدى جذور العدالة والتنمية “لا نجد في صفوفكم عالما أو مجموعة من العلماء،والحالة أن الجمعية تقوم بنشاط الدعوة وهذا الدين علم والعلماء هم المرجع في كل شيء فهم ورثة الانبياء ولا عمل إسلامي لا يؤطره العلماء”271 ( المرجع نفسه)
لكن كيف يستثمر التدين السياسي أقنعته التدينية، وهو يتلبس المقدس الديني لإخفاء شهوة السلطة والتسلط التي هي إحدى إستراتيجيته الأساسية داخل المجتمع العميق؟
ب – السطو على المقدس من خلال آلية الاقتران الشرطي
«تنازلنا عن حقوقنا طواعية وكانوا أذكياء في أن يضعوا أيديهم على أي شيء ليس له مالك، وهكذا أصبحنا في وضع غير متكافئ، ليس من حيث الملكية، وإنما من حيث معرفة ما لنا وما لهم، والجهل هو دائما الوجه الأخر للعبودية، ولذلك انتهينا إلى الوضع الذي وصلنا إليه!». عبد الرحمن منيف
إزاء التحديات الصعبة التي طرحتها مرحلة ما بعد الكولونيالية، خاصة على مستوى الآفاق الحقيقية لحركة التحرر من السيطرة والهيمنة الخارجية، إذ سرعان ما تتابعت الازمات والاختلالات العميقة التي فضحتها الهزائم المرعبة امام المشروع الصهيوني والغربي الاستعماري، لم تكن الانظمة الرسمية العربية قادرة على مواجهة هذه التحديات، الى جانب القوى الحية الوطنية والديمقراطية. ولذلك قامت بتشجيع قوى التدين التسلطي للتأثير على العمق المجتمعي، بإحياء ثقافة الطاعة والاستسلام للقدر المكتوب، والرضوخ والخنوع والامتثال والاذعان، ومواجهة الأسس الفكرية والثقافية النهضوية التنويرية، والفعل الاجتماعي السياسي الحداثي الذي تمت تبيئته في المجتمع العميق من خلال الفعل الابداعي والفكري والسياسي لقوى التنوير. وكان أخطر ما أقدمت عليه قوى التدين التسلطي هو العودة الى الموروث الثقافي الديني، من خلال معاودة إنتاج المنطق نفسه في الموروث التديني الاجتماعي السياسي الذي أنتجته المذهبية والطائفية الدينية في الماضي. فعلت هذا باعتماد آلية تسييج الممارسات البشرية بالمقدس الالهي. وكتابات اقلام التنوير الذين اشرنا الى بعض اسمائهم سابقا تبين وتوضح هذه الممارسات البغيضة. ويمكن أن نضيف في هذا الشأن المتعلق بأسئلة المقدس وعلاقتها بالتاريخ الكتاب الرائع لجورج طرابيشي “من إسلام القران الى إسلام الحديث”. حيث يبين بمنهجية نقدية تحليلية وتفكيكية تاريخية كيف تم السطو على المعتقد الايماني للناس، والاستبداد ” بالدين الحق” الصحيح”، الانغلاقي، ليس فقط في إنتاج الدلالات والخصائص المعنوية للدين الصحيح، بل في التكلم باسم السماء. حيث نلاحظ نوعا من الاقتران الشرطي، بين كلامهم وكلام الله، باعتماد القراءة المغرضة لبناء استراتيجية في الكلام والكتابة، بطريقة انتقائية الى أبعد الحدود في المزج بين الخطاب الالهي أو النبوي، وبين خطابهم التديني. ويمكن العودة الى كل نصوص قوى التدين السياسي للتأكد من ذلك. ولنا في النصوص السابقة التي استشهدت بها خير مثال : ” ونحن متيقنون أن الله سيظهر الحق الذي نؤمن به لأن أصله من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم”. أو في تسمية الخصوم السياسيين بالملاحدة والفجار، وتسمية أنفسهم بالجماعات الاسلامية، بما يفيد الاستئثار بالمقدس الديني، ودون حياء أو خجل أخلاقي يقومون بوصف الجماعات الاخرى بالمنحرفين والكفار، بل غالبا في خطابهم العلني والمستتر ينعتون المجتمع والدولة بالجاهلية. ومن خلال هذا الاقتران الشرطي يسهل لهم السطو على المعتقد الايماني للناس، واحتكار الرأسمال الثقافي الاجتماعي لإعادة السيطرة على المجتمع العميق، كحيز اجتماعي يسمح بتمددهم وانتشارهم، كتنظيمات جمعوية دينية، بأسماء رمزية كالرسالة والدعوة والتبليغ والفتح واقرأ… وجمعيات ثقافية اجتماعية تحشر نفسها في الحياة اليومية للناس من غسل الميت الى الاشراف على وجبات الافطار في رمضان، وفي الاعمال الخيرية الشكلية في مساعدة الايتام والارامل والمرضى…، وهي أعمال محمودة لكن هدفها هو تحقيق ما تسميه الجماعة بالتمكين للوصول الى السلطة لتحقيق مآرب ومصالح دنيوية تتنافى إطلاقا مع جبة الغلابة التي يخادعون بها الناس.
ويقومون أيضا بتنظيم المسابقات الثقافية في تجويد وتلاوة القرآن، وفي الولائم التدينية احتفالا بالاعياد الدينية، وفي الانشطة الثقافية الاجتماعية لتقوية الشكليات التدينية في الخطاب واللباس والتداول اللفظي النفاقي لمعاني السلم والمحبة والتضامن والتكافل… من خلال قوالب تمييزية طائفية تستثني الفئات العريضة من المجتمع، بنوع من الاستعلاء الديني على أنهم خير فئة في الامة، بما يفيد بذر بذور التعصب والفتنة بين الناس. وخلق تمثلات وهمية على أنهم الفرقة الناجية، الشيء الذي يسهم في تمزيق وحدة المجتمع، من خلال إوالية الانشطار الانفعالي التي تعمل على تقوية مفهوم العصبيات والجماعات، فتغيب مفاهيم الوطن والمواطنية، كما يصعب الحديث عن الوجود الحر والمستقل للفرد. إنها تمثل أرقى أشكال ردود الفعل الانكفائي الماضوي، بعقليات الخرافة والشعوذة والاساطير، كثقافية تحتية تكفر المنطق والفكر النقدي. كما تحارب القيم العلمية التي تشجع الفكر الفلسفي، لذلك تفضل قوى التدين تسطيح الوعي لأنها تؤسس للقبول بالامر الواقع والرضا بالاذعان والقهر، كقدر مكتوب يشهد على ابتلاء المؤمن. إنها تعمل على تطبيع الواقع الاجتماعي التاريخي، مستبعدة مبدأ التناقض المجتمعي، كما لو أننا إزاء سيرورة حركة الاسطورة بتعبير رولان بارت” إنها تلغي تعقد الافعال الانسانية ، وتعطيها بساطة الجواهر، تحذف كل جدل، وكل صعود جديد الى ما وراء المنظور المباشر، تنظم عالما دون تناقضات لأنه عالم دون عمق، عالم مفروش بالبداهة.” متسترة في هذا على خلفياتها المغرضة في الاستفادة من غنيمة السلطة في نوع من الثراء اللامشروع، ولو على حساب تقدم البلد والتنمية الاجتماعية الشاملة. حيث هي مصرة في خلفياتها السياسية الاجتماعية على إعادة إنتاج مجتمع الغلابة والدروشة و القهر الى درجة سحق وطحن إنسانية الانسان بالخضوع لتوصيات المؤسسات النقدية والمالية الدولية، في الوقت الذي تنمو فيه ثرواتها وتفقر الشعب. وأكبر دليل بحبوحة المعاش التي يعيش فيها كبيرهم الذي علمهم السحر.
ج نسف الفعل السياسي والانتظام الاجتماعي الانساني
إن أخطر شيء تقوم به قوى التدين السياسي، هو سعيها الى الانتشار داخل المجتمع العميق والسيطرة على وعيه والتحكم في إدراكه، من خلال الاستحواذ على قلوب الناس بالسطو على المقدس واحتكاره. في نوع من التملك الاستبدادي باعتماد آلية الاقتران الشرطي التي تخولهم التكلم باسم السماء. الشيء الذي يجعل من المستحيل الحديث عن المجال العام والفضاء المجتمعي، كأرضية للصراع السياسي الديمقراطي. لأن الفرز الاجتماعي السياسي مختزل في المنطق الثنائي: إما معنا أو ضدنا، نحن الخير وغيرنا الشر، نحن الايمان وغيرنا الكفر…، هكذا يتم نسف الفضاء الاجتماعي السياسي . وهي في ذلك تبين بوضوح نشوء الدولة داخل الدولة، خاصة وأن حزب هدم العدالة والتنمية، لا يكف عن الحديث سياسيا وإعلاميا عن مفهوم التحكم، أو بتعبير أكثر دقة تؤسس لطوبة الخلافة ضد الدولة القائمة، معلنة تفكك النسيج الوطني للانتظام الاجتماعي الانساني، وتفكيك المكونات السوسيولوجية واللسانية الثقافية، ببروز المناطقية والعصبيات ومختلف الاشكال الطائفية من المذهبية الى القبيلة. هنا تكمن الخطورة في الترخيص لأحزاب دينية او اثنية لانها تستهدف عمق المجتمع ومحيطه الحضاري.
قد يتضح لنا شيئا ما المهام والمسؤوليات الملقاة على عاتق القوى الحية، بمختلف مشاربها الفكرية والايديولوجية، في إبداع أشكال مختلفة من الاتصال والتواصل الفعال مع المجتمع العميق، من خلال توسيع الفعل الاجتماعي السياسي والثقافي، بتنوع وتنويع الاساليب والاشكال التي تجعل، هذا الفعل، حاضرا في المعيش اليومي للناس. كما يتضح لنا خطورة التدين السياسي على الدولة ومؤسساتها وعلى المجتمع والثقافة.