شاعرية الانتظار: معارضة شعرية مع محمود درويش
د. محمد الشرقاوي
في هذا اليوم من عام 2008، توفي شاعر النبض الفلسطيني والرؤية الإنسانية عقب تعثر عملية جراحية أراد خوض غمارها في أحد المستشفيات في ولاية تكساس الأمريكية. وقبلها بعدة سنوات، حضرتُ أمسيته الشعرية وقد أحرق المنبر نارا في إحدى قاعات الجامعة الأمريكية في واشنطن. فكان هو وقصائده ونفسُه الشعري موضوع حلقة من حلقات برنامج تلفزيوني لي “عكاظ في أمريكا” في واشنطن في أواخر التسعينات.
اليوم، أتذكر محمود درويش بطريقة أخرى، بمعارضة شعرية لإحدى قصائده بعنوان “انتظرها”. ويقول بعض الروّاة إنّه كتبها بعد أن قرّر أن يستضيف صديقه وكل ما صادفه في حفل سابق. وأكّد على صديقه أن يستدعي كلّ من قابله هناك. ولكن، حضر جميع المدعوين ما عدا المرأة التي نظم الحفلة من أجلها. واستمرّ هذا الوضع مدّة عام. فأنشد درويش قائلا:
بكوب الشّراب المرصّع باللازورد انتظرها
على بركة الماء.. حول السماء وعطر الكولونيا انتظرها
بصبر الحصان المعدّ لمنحدرات الجبال انتظرها
بذوق الأمير الرّفيع البديع انتظرها
بسبع وسائد محشوّة بالسحاب انتظرها
بنار البخور النسائي ملء المكان انتظرها
برائحة الصّندل الذكرية حول الخيول انتظرها
ولا تتعجّل فإن أقبلت بعد موعدها فانتظرها
وإن أقبلت قبل موعدها فانتظرها
ولا تجفل الطير فوق جدائلها وانتظرها
لتجلس مرتاحة كالحديقة في أوج زينتها وانتظرها
لترفع عن ساقها ثوبَها غيمةً غيمةً وانتظرها
وخذها إلى شرفةِ لترى قمراً غارقاً في الحليب
وانتظرها وقدّم لها الماء قبل النبيذ
ولا تتطلّع إلى ثوأمي حجل نائمين على صدرها
وانتظرها ومسَّ على مهل يدَها عندما تضعُ الكأس فوق الرّخام
كأنَك تحمل عنها الندى وانتظرها
تحدّثْ إليها كما يتحدث نايٌ إلى وترٍ خائفٍ في الكمان
كأنّكما شاهدان على ما يعد غدٌ لكما وانتظرها
إلى أن يقول لك الليلُ لم يبقَ غيركُما في الوجود
فخذها إلى موتك المشتهى وانتظرها
في الانتظار يصيبني هوسٌ برصد الاحتمالات الكثيرة
ربما نسيتْ حقيبتَها الصغيرةَ في القطار
فضاع عنواني وضاع الهاتفُ المحمولُ
فانقطعتْ شهيتُها، وقالت لا نصيب له من المطر الخفيف
وربما انشغلت بأمرٍ طارئٍ أو رحلةٍ نحو الجنوب
لكي تزور الشمس واتصلت، ولكن لم تجدني في الصباح
فقد خرجتُ لأشتري جاردينيا لمسائنا وزجاجتيْن من النبيذ
وربّما اختلفت مع الزوج القديم على شؤون الذكريات
فأقسمتْ أن لا ترى رجلاً يهدّدها بصنع الذكريات
وربما اصدمت بتاكسي في الطريق إلي
فانطفأت كواكب في مجرتها وما زالت تعالج بالمهدئ والنعاس
وربما نظرت إلى المرآة قبل خروجها من نفسها
وتحسّست الجاصتين كبيرتين تموجان حريرها
فتنهّدتْ وتردّدتْ: “هل يستحق أنُوثَتِي أحدٌ سوايَ؟!”
وربّما عبرت مصادفةً بحبٍ سابقٍ لم تشفَ منه، فرافقته إلى العشاء
وربما ماتت! فالموت يعشق فجأةً مثلي.. إنّ الموت مثلي لا يحب الانتظار!
***
ليست هذه الأبيات لدرويش حوارًا مع الذّات فحسب، بل هي وجدانٌ جسورٌ يأمل في توحيد مسافات الابتعاد والاقتراب بين همس أنَا الأنَا وأنَا الأخرى في المقابل، وينسلُّ بينهما ما هو أبعد من النّظرات وأعمق من العبارات. ومن تحت أقدامهما تنكمشُ الأرض وتغيبُ المسافات نحو لحظة الرّجّة الكبرى: ضياعُ “أنا” الأولى و”أنا” الثانية، وقابليةُ الانصهار في كيان جديد أسميه “الأنَّا المنشودة”.
وفيما يلي تفاصيل #شاعرية_الانتظار:
بين حرقة الشّوقِ ونشوةِ الانتظار،
تمهّل في الحديث إليها
وافتح نوافذ الإصغاءِ مُشْرَعَةً،
وانتظرها…
دع نسائمَ المساء تُزيل عنها
متاعبَ العمر وحمولةَ القلق العابر للأيام،
لتنتعش أحلامُ اللّيالي الضّائعات،
وانتظرها…
دعها تخبر صديقتها أنها
ستطفئ هاتفها إلى حينٍ
وتُعيدَه إلى محفظتها اليدويةِ السوداء،
وانتظرها…
صُبّ ثانية في كأسها
ما تعتّق من شاي فوّاح
بنعناعه الأخضر، وافتح لها
علبة الشكولاتة السويسرية،
وانتظرها…
لا تنسَ أنّ لها ذوقا عفيفا
في أناقتها وتناسق ألوانها
وعذوبة بسماتها الوديعة على مراياك،
وانتظرها…
دع عتمة اللّيل تتداخل
في ظلالِ الشموع
فالبوحُ لا يأتي في
زحمة الأضواءِ العاتياتِ،
وانتظرها…
تأمّل البحرَ المتلاطمَ في عينيها
ولا تعلّق على احمرار الوجنتين
أو تردّد الشفتين وارتباك اليدين،
وانتظرها…
اقرأ في بسمتها أحلام طفلة
لم تكبر عن أحلامها
وعن مداعبة الطفل المشاغب،
وانتظرها…
لا تجاهد نفسك بسرد قصص الأنا
أو ادّعاء ملاحم “دون خوان”
أو بطولات “زورو”،
بل كن فقط “أنتَ”… كما تراك أنتَ،
وانتظرها…
ضع باقة الورد وتريّث قليلا
حتى تفوح عبقا تفتر له
الأجواءُ والأنفاسُ والوجدانُ معا،
وانتظرها…
هي الورودُ لا تنفتحُ
إلّا منْ وداعةِ الهمسِ
وحنانِ الندى، فمن قال كاذبا
انتظرها؟!