السوسيولوجيا وتحولات المجتمع المغربي
قراءة في”رهانات المعرفة والثقافة” للأستاذة رحمة بورقية
د. ناصر السوسي
قد يسجل المتتبع للمنجز الفكري للأستاذة رحمة بورقية الملاحظات التالية:
1-تنوع وغنى أعمال الباحثة حول بنيات وثقافة المجتمع المغربي،
2-عمق طروحاتها التي تمتح في جزء كبير منها من إسهام الإبستيمولوجيا المعاصرة؛ إلى جانب استلهام التراثين السوسيولوجي والأنثروبولوجي استلهاما نقديا، أسعفها على تقليب الظواهرالاجتماعية من كل وجوهها، بحثا عن القواعد الخفية المتحكمة في البنيات والمؤسسات؛ وسعيا للإمساك، قدرالإمكان، بالمعاني المحتملة التي تتضمنها تلك القواعد، دون أن تبديها أوتفصح عنها،
3-عدم اطمئنانها “للظاهر من الأشياء الاجتماعية”(1)، ونزوعها”إلى البحث عن آليات إنتاج الثقافة والمعنى.. بتأويل الواقع الاجتماعي وفك رموزه” (2) بما هو نص (=الواقع) دينامي يستعصي على التحليل التبسيطي؛ والتعليل الميكانيكي المكتفي باختزال عوامل التطورفي عنصروحيد.
فالتأويل منظور استراتيجية عند ذ.رحمة بورقية إلى جانب التاريخ، والتحليل النفسي، وسوسيولوجيا المعرفة..غرضه استثارة الواقع لحمله على الإفصاح عن انتظاماته ومنطق اشتغاله… ولربما هذا ما تسنى لنا استشفافه بين ثنايا الأعمال التي اقترحتها منذ إنجازها لأطروحتيها الجامعيتين (3)؛ مرورا بـ”مواقف” (4) و”النساء والخصوبة” (5)، ووصولا إلى عملها الموسوم بـ”رهانات المعرفة والثقافة“.
يطرق مؤلف “رهانات المعرفة والثقافة”، الذي جاء في 328 صفحة، إشكالات راهنية قوية؛ وقضايا متعددة لها وصل بما يَمُورُ به عالم اليوم بدء من لحظة سقوط جدار برلين وانهيار المنظومة الشمولية السوفياتية (=الدول الممزقة)، فبروز الأحادية القطبية كحالة كونية جديدة تدعمها قوة الرأسمال المالي الهيمني العابرللقارات الذي أقحم كوكبنا في خضم حضارة جديدة تتمثل أبرزمتغيراتها في:
–انكفاء الإيديولوجيات، وبروز أزمة النظريات الكبرى. وطبقا لهذا ارتأى منظرو الكوكبية أن التاريخ الراهن بلغ أوجه ومنتهاه بانتصار الليبرالية على ما سواها من التيارات الفكرية؛ والأنماط الاقتصادية كما على باقي المذاهب والعقائد (6) التي عرفتها البشرية خلال تطورها التاريخي؛ وبالأخص النهج الاشتراكي.
–إعادة تشكيل العالم من خلال إلغاء حدود الزمان والمكان بفضل تكنولوجيا المعلومات فائقة السرعة التي أقحمت البشرية في مغامرة معرفية لاسابق لها في التاريخ؛ ولا محدودة في الأفق مما يستلزم مراجعة مسترسلة ودَؤُوبَة لكل منظوراتنا؛ وأنماط حَيَوَاتِنا اليومية التي درجناعليها وألفناها؛ وتجديد أساليبنا في تنشئة وتأهيل أجيالنا الطالعة..
–إعادة النظرفي النظام الدولي السابق الذي تشكل عقب مؤتمر”يالطا” في فبراير 1945. فمن المحقق أن هاته الصياغة الجديدة للعالم تمخضت عن تحولات كونية هائلة على كل المستويات؛ من مستتبعاتها الجلية تأزيم الدولة-الوطنية؛ وتفكيك أوصالها بإشعال فتيل الحروب بين مختلف مكوناتها العرقية؛ وتأليب أطيافها الدينية بعضهاعلى البعض بسبب ضعف اندماجها ضمن نسيج ثقافي وطني موحد. (7)
زمن العولمة هو زمن الصراع والتنافس المترتب على تحكم”سادة العالم الجدد”في مفاصل كل الاقتصادات وتشجيعهم لمقولات الحرية المناهضة للإرهاب الجهادي. إن احتكار أوليغارشية عالمية لاقتصاد السوق؛ وتسليعها للعلاقات الإنسانية أربك المعايير الأخلاقية للأمم وخلخل منظوماتها القيمية. (8) هكذا، وأمام هذه الحركة الكاسحة لم يكن للمغرب مُنْصَرفٌ عن التفاعل مع متطلبات العصر؛ والانسجام وإِشْرَاطات محيطه الدولي إلا بإيثاره سلسلة من الاختيارات السياسية والاجتماعية يجدر بنا ذكربعض منها:
–العمل على إقامة”المجتمع الحداثي الديموقراطي”كمشروع يعبر عن إرادة القطع مع نموذج مجتمعي لم يعد يستجيب لمَسَاق حضاري جديد أمسى يرسم حدودا فاصلة بين “الغرب والبَقِيَّة”. (9)
–تفعيل”المفهوم الجديد للسلطة”كإطار لخلق ثقافة تواصلية وعقلانية بين المواطن والمرافق العمومية في أفق إقامة دولة الحق والقانون،
–تعزيز”المجتمع المدني” باعتباره قوة محركة للتغير الاجتماعي؛ ورافدا مهما لمشاريع التنمية المحلية، وفاعلا أساسيا للترويج للثقافة الحقوقية؛ والقيم المدنية وبالتالي لتخليق الحياة العامة. (10)
– تعديل”مدونة الأسرة” فالتعديلات التي طرأت على المدونة كانت في العمق استجابة للأبعاد التالية:
–أ- لتحولات المجتمع ولتطور مستوى الوعي الذي جعل المدونة قانونا لحماية كل مكونات الأسرة والأطفال على الخصوص،
–ب- واستجابة للإطارالعالمي/القيم الكونية التي تلزم المغرب بالاتفاقيات التي صادق عليها. (11)
–ج- ثم للحفاظ على مقاصد الشريعة الإسلامية؛ وهو الأمر الذي ترتب عليه فتح باب الاجتهاد بشكل جذري لتجاوز المنظورات التي وضعها الأوائل للاجتهاد. وآية ذلك أن القوانين مثلها مثل الكائن الحي تخضع لمنطق التطور. وهذا يعني ضمن مايعنيه أن النصوص نتاج للبنى الاجتماعية التي تتخلق منها وتتشكل بين أحضانها.
– عقلنة الحقل الديني في المغرب لِئَلاَّ يظلَّ مقصورا على الفقيه خريج المعاهد؛ ومؤسسات التكوين الديني التي لا يبدو أنها”تمنح للمتعلم ما يكفي من الأدوات الفكرية والعلمية، لمعالجة رهانات العالم الحديث ومواجهتها” (12) وهذا ما “جعل العلماء والفقهاء، فئة لاتقوى على أن يعلو صوتها أمام تعدد أصوات المتعالمين”. (13)
والحال أن النظرفي الشأن الديني حق لكل إنسان راشد يحظى بتكوين علمي يسعفه على الحوار ويمكنه من الانفتاح على العالم. فعلى اعتبار الدين ملكا مشتركا فمن حق كل باحث تأويله شريطة الالتزام بالضوابط المطلوبة في الاجتهاد درء لفوضى العالم الافتراضي الذي ما ٱنفك يُطِلُّ منه المتفقهون وأشباه العلماء، ليشيعوا في الناس خطابا دعويا خلوا من كل “معاناة فكرية مع النص”. (14)؛ مُغْرقا في إثارة الأحقاد، ومُعْرضا عن تشخيص عِلَل ومعضلات المجتمع الإسلامي (15) من هنا لاتاريخية خطاب المُتَفَقِه وقُصُوده المغرضة النَّزَّاعَة إلى تغييرِ المنظومة السياسية كما المنتظم المجتمعي برمته.
رَامَتْ مساهمتنا هاته؛ كما مَرَّ مَعَنَا، الخوض في أبرز الإشكاليات الكبرى التي تَصدَّت لها الأستاذة رحمة بورقية في إصدارها المشار إليه. ولَئِن كنا لاندعي فضيلة الإحاطة بكل تفاصيل ودقائق عملها؛ فَلأَنَّنَا نُعَوِّل كثيراعلى فُضُول الباحث المنشغل بطبيعة التحولات التي يشهدها المجتمع المغربي غاية في تسليط المزيد من الأضواء؛
وبناء السؤالات الممكنة ليس حول هذا المُؤَلَّف وحده؛ وإنما حول المُنْجز الفكري للأستاذة رحمة بورقية في كُلِّيتِه، وهو المنجز الذي نُقَدِّرُ فيه، إلى جانب رصانته العلمية، وصرامته المنهجية انتصاره للإنسانيات عموما؛ ولعلم الاجتماع تخصيصا بما هو علم نقدي بامتياز؛ ورافدٌ أسَاسٌ لكل مخطط تنموي. أدعو القارئ للتمعن جيدا في إثباتات هذه الفقرة من”خطاب العضوية في أكاديمية المملكة المغربية”، الذي تقدمت به د.رحمة بورقية أمام تلك المؤسسة العلمية دفاعا عن العقل ثم دفاعا عن مشروعية السوسيولوجيا في مجتمعنا المغربي: “لقد أدركت في بداية ممارستي المهنية أن كون علم الاجتماع يبحث في مكامن السلوك، والعلاقات والممارسات والمعتقدات الاجتماعية وراء تجليات الاجتماعي جعله علما نقديا وعرضه لتشكيك، بل ولمِحْنة الإقصاء. لقد مرَّ زمن كان ينظر فيه لعلم الاجتماع بالحيطة والحذر، ويعتبر علما مستفزا بالنسبة لكل من لايرغب في مساءلة آليات اشتغال الواقع ومكامنه ووظائفه ومعناه. فعلم الاجتماع هوعلم نقدي، والعلم النقدي، من حيث المبدأ، لا يستفز ولا يجامل، وإن كانت نتائج العلم قد يتم توظيفها في العمل الإيديولوجي للمصلحة. إن أساس الحذر اتجاه علم الاجتماع والخوف منه لحد إقصائه، جاء من طبيعة هذا العلم الذي اتخذ كموضوع له البحث في باطن الظواهر الاجتماعية والثقافية والسياسية، لكي تطفو وقائع الباطن على السطح كتشكيك في حقيقة الظاهر الذي يطمئن إليها، تلك الوقائع التي يتم بناؤها بتراكمات نظرية ومناهج وفرضيات ومفاهيم ووسائل الاستدلال، وبيقظة معرفية تجعل من التفكير في الممارسة العلمية جزءا من تلك الممارس”. (16)
*بورقية(رحمة): 2020، رهانات المعرفة والثقافة، الطبعة الأولى، مطبوعات أكاديمية المملكة المغربية، الرباط، المغرب.
– إحالات مرجعية:
1- بورقية (رحمة): 2020، رهانات المعرفة والثقافة، الطبعة الأولى…
1- نفسه. ص: 22.
2- نفسه. ص:22.
3- بورقية (رحمة) : 1991، الدولة والسلطة والمجتمع، دراسة في الثابت والمتحول في علاقة الدولة بالقبائل في المغرب، الطبعة الأولى، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، لبنان.207 صفحة.
– See, Bourqia (Rahma)1987 :State and Rural Society in Morocco: the Zemmour and Zayan confederations in the 19th and 20th centurie.The University of Manchester.(United Kingdom).
4- بورقية (رحمة): 2004، مواقف، قضايا المجتمع المغربي في محك التحول، الطبعة الأولى، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالمحمدية، مطبعة النجاح الجديدة، الدار البيضاء، المغرب.159صفحة.
5-Bourqia(Rahma) :1996, Femmes et fécondité, Afrique Orient, Casablanca, Maroc.136 pages.
6-Fukuyama(Francis):1993, La fin de l’histoire et le dernier homme, Champs-Flammarion.France.
إن أطروحة”نهاية التاريخ”التي اقترحها”فرانسيس فوكوياما” تَصْدُرُ عن نفحة تاريخانية غائية تتدثر بـ”روح”الفلسفة المثالية الهيجلية.
7- بورقية (رحمة): 2004 ،مواقف…، مرجع مذكور.. ص:101.
8- بورقية (رحمة):2020 ، رهانات…ص:270
9-Mahbubani(kishore):1992, The West and the Rest, The National Interest, Summer,pp: 2-12.
10-بورقية (رحمة): 2004، مواقف…ص: 86 ومابعدها.
وأيضا بورقية (رحمة): 2020،رهانات…ص.ص: 19-243-245-256-257.
11-نفسه: ص: 68-69.
12-نفسه: ص.ص: 141-142.
13-المعطيات نفسها.
14- المرجع نفسه: ص:92.
15-المعطيات نفسها
<
p style=”text-align: justify;”>16-بورقية(رحمة): 2020، رهانات…ص.ص:19-20. وينظر كذلك: بورقية (رحمة): 2004، مواقف…ص.ص: 141-159.