قل لي ماهو وشمك أقول لك من أنت
باريس- المعطي قبال
يحكى، ولربما نصيب النكتة في الحكاية أكبر من الحقيقة، أنه لما كان وزيرا للشبيبة والرياضة، ضبط أرسلان الجديدي رحمه الله في الدوش وذراعه مرصع بوشم يمثل قلبا تخترقه نبلة وكتب تحت رأس الرمح «ميلودة كواتني»! .
كانت والدتي رحمها الله تحمل وشما واضحا على الجبهة وعلى الذقن. خطوط وعلامات رصعت بشكل أنيق ومتجانس. إلى اليوم، لا أراها وأتصورها إلا عبر علامات ورموز الوشم. يلاحظ أن الوشم يخلق ما يشبه العدوى، إذ ما أن توشم الأولى حتى تتبعها الثانية، وغالبا ما تلجأ النساء إلى نفس «الوشامة» (هذه الحرفة ليست من اختصاص الرجال).
ويضرب الوشم جذوره في أعماق التاريخ، حيث مورس في كل الأصقاع والحقب وذلك منذ 1300 سنة قبل الميلاد. ويعود أصل الكلمة، تاتو، إلى البولينيزيا وهي جزيرة تقع ما وراء البحار تابعة اليوم لفرنسا. وقد اكتشف بعض العلماء بأن أول إنسان وشم جسده يدعى أوتزي، ويعود ميلاده إلى 5300 سنة، وأن الوشم الذي مارسه كانت له فضائل طبية وعلاجية، بحيث وضعت الرسومات على المفاصل لشفائها.
حرم الإسلام الوشم وأفتى الرسول في شأنه أحاديث نقلها ابن مسعود والقرطبي عن البخاري ومسلم. جاء هذا التحريم نظرا لتغيير الوشم لما خلق الله من آدمية الإنسان. وتركز حديثه على النساء من دون الرجال.
في دراسته للوشم أشار عبد الكبير الخطيبي أن هذه الممارسة وافدة من العمق الوثني، نقلت رموزه وكسرت بالتالي المحرمات التي كانت تطبق عليه. وقد وقف الخطيبي في دراسته عند جينيالوجية الوشم وهجرته إلى مجالات التحريم، وبالأخص إلى الجسد الذي تحول إلى لوحة فنية تخط عليها الرموز والعلامات.
في الثقافة الأمازيغية كان الوشم هو التوقيع بامتياز للتعريف بهوية المرأة، بقبيلتها، عشيرتها وعادات وتقاليد الجماعة التي تنتمي لها. كما أن الوشم شمل نسبيا الرجال وبالأخص المواليد الجدد الذين تضع عليهم عائلاتهم علامات الوشم منذ ولادتهم لحمايتهم من الشرور واللعنات. ويطلق على العلامات المثبتة فوق الجبهة اسم «العياشة»، وهي العلامة التي تحيي وترد العين وتحمي حاملتها من كل أذى.
في الحقبة الاستعمارية وما بعد الاستعمارية تحول الوشم إلى مادة للدراسات السوسيولوجية والأنثروبولوجية حيث أظهر العديد من الباحثين اهتمامهم بدراسة وتفكيك أسباب اللجوء إلى الوشم، أغراضه ودلالاته الخفية. ولم تسلم تقييماتهم من الأحكام المسبقة والآراء الاختزالية لما اعتبروا الوشم أحد علامات التوحش، العيش على هامش التاريخ، والبقاء في أحضان الثقافة الغيبية. وقد شنت حروب على أقوام كان الوشم بالنسبة لها علامة من علامات الهوية. ولنا في تصفية الهنود الحمر الذين كان ينظر لهم الأمريكان كأبقار موشومة ومطبوعة خير مثال.
إن كان الوشم في بعض المجتمعات ممارسة تلجأ إليها النساء باسم أعراف قديمة حفاظا على التلاحم والتراص الإثني، فإن الحداثة غيرت جذريا في التصور والتعامل مع الوشم. من الجماعة أصبح الوشم ممارسة فردية دخلت بموجبه الذات إلى المشهد. وهذا الانتقال يقابله امتلاك الفرد لجسده بعدما كان ملكا إلهيا، أو ملكا للجماعة. طرح الجسد ضمن استيتيقا زخرفية تارة واستعراضية تارة أخرى. لا تتوافق بالضرورة هذه الاستيتيقا مع المقاييس الجمالية المعروفة بالغرب. وهو ما دفع بالبعض إلى التنديد بالوشم لأنه يخل بهذه المقاييس. فيما مضى كان الوشم حصرا على البحارة والمساجين والجنود. وكان ينظر له نظرة دونية.
اليوم نلاحظ عولمة للوشم، عودته أو التعاطي له بقوة تأكيدا للذات وتملكا أو استملاكا للجسد الذي أصبح ميدانا للمطالبة، الاحتجاج، للرغبة الجنسية، للرفض السياسي. إلى وقت قريب كان الوشم وقفا على نجوم الموسيقى والسينما ولاعبي كرة القدم الخ…، وحسب استفتاء أجراه معهد إيفوب، بلغ عدد الموشومين بفرنسا 7 ملايين شخص. ويسافر الفرنسيون إلى مراكز الوشم الشهيرة في كل من إرلندا أو التايلاند. كما انتظمت مؤسسة الوشم لتصبح صناعة قائمة بذاتها تذر أرباحا خيالية. ثمة أشخاص يأدون ما بين 1000 و 1500 أورو من أجل طلي أجسادهم بالصباغة الزرقاء!
في المنام خاطبني صوت واطيء وقال لي: «حتى أنت سير توشم». وفي الصباح قلت في خاطري: لربما أبعد الوشم عني سوء العثرات من نحس وتابعة وحزقة وغيرهم. لذا دفعت في الغد باب صالون للوشم في اسم “التوقيع”. استقبلني شخص مفتول العضلات وقد طلي جسمه بأكمله برسوم ملونة وبعلامات لم أدرك البتة معانيها وألغازها. تبينت لي فقط رسوم لحيوانات سامة من ثعابين وحيات وذباب تسي تسي…من نظرته تبين لي أنه غير راضٍ على بدني النحيف، الذي سيجد صعوبات في تمرير الإبرة الكهربائية على لحمه المرتخي. ومع ذلك ابتسم ورحب مقدما تفاسير تقنية استعصى علي إدراك معانيها. قلت له إنني راغب في وضع رسم لطائر موكة على الكتف الأيمن وقلب تخترقه نبلة يسيل دما ومن تحته عبارة كتبتها له بالعربية «الضاوية شواتني» على الكتف الأيسر!
لما انتهى من العملية، وكانت النتيجة مقبولة طالب، بل حيا بلا حشمة، بمبلغ 100 أورو!