حوار مع الذات في شعر المغربية آسيا الرياحي
خالد بريش
في ديوان جديد، هو الرابع للشاعرة المغربية آسيا الرياحي، تقوم الشاعرة عبر قصائده بإطلاق العنان لعفريت شعرها وإعطائه الحرية لكي يمضي على رسله، بينما تستوقف الشيطان الرجيم «الخناس»، الذي يشكل رمزا لكل الشرور وعوائق الخير في المجتمعات والحياة عموما، وسببا للمصائب الإنسانية، وتستمهله آمرة إياه «على رسلك يا خناس»، جاعلة من هذا الأمر عنوانا لديوانها، الصادر مؤخرا في الرباط عن دار السلام. ممعنة النظر عبر قصائده بكل ما يدور من حولها على صعيد الأحداث الاجتماعية والتجارب الإنسانية المختلفة، وتصرفات بني البشر التي تتغير وتتبدل مع مرور الزمن، محاولة أن تسجل كل ذلك ونقله للقارئ كرؤوس أقلام، وذلك بتعابير شعرية بعيدة عن الانفعال، وبعين ثاقبة تلقي بنظراتها في كل اتجاه على كل ما يحيط بها، فأتت قصائد هذا الديوان متماسكة ومتناسقة من حيث السبك الموضوعي يعضض بعضها البعض الآخر…
هذا وقد آثرت الشاعرة الرياحي في قصائدها الاختصار، ضاغطة الأفكار قدر الإمكان، فجاءت قصائدها قصيرة على شكل برقيات، وذلك على عكس ما تعودنا عليه في معظم دواوين قصيدة النثر، كما في هذ الأبيات الوجدانية من قصيدة «غفوة الصبوات» التي تقول فيها:
اكْتُبْني في صَحيفَةِ بَوْحِك
قِصَّة بِلا أفْكار
ضَعْ حَرْفًا في أوَّلِ السَّطر
وَدَعْ يَراعَكَ في مَدارِ البَوْح
يُتْقِنُ فَنَّ الإبْحار
ينتمي هذا الديوان إلى عالم قصيدة النثر المغربية بخصائصها الإنسانية، وأسلوبها المتميز المفعم بدفق المشاعر، والصور المنبثقة عن تجارب إنسانية عميقة، ومتخيل خصب، مبتعدة فيه عن الترميز والسوريالية، التي تغرق فيها مدرسة الشعر والنثر في بلاد المشرق العربي في كثير من ألأحيان، وحتى بعض شعراء مغربنا الحبيب. وهو ديوان يكثر فيه الحوار مع الذات وخطابها، وقيام الشاعرة بعملية استبطان في دواخلها، لتوجه من خلال ذلك بالإضافة إلى تجاربها الشخصية والإنسانية بنصائحها كما في (ص 67) حيث تقول:
نامي قالتْ لي الوِسادَةُ
سَأشارِكُكِ أحْلامَ الانْتِظارِ
فَالحِينُ آتٍ
وَكُفوفُ العَدالَةِ
لا يَعْلوها غُبار…
ترد في قصائد الديوان أحيانا، وبشكل غير مضطرد، بعض العبارات المغربية الأصيلة كمفردة «رَكْح»، التي تعني خشبة المسرح، في الوقت الذي تستعير فيه من قاموس التاريخ العربي أسماء بعض شخصياته، وتدعوها إلى صفحات ديوانها كضيوف شرف، وذلك مثل: ابن زيدون، وليلى الإخليلية، وولادة ابنة المستكفي، وليلى العامرية الخ… كذلك تسكن في صفحاتها مدن العروبة أو رموزها، والتي كان لها يوما تأثيرها في تاريخ أمتنا وشعوبنا، مثل: بغداد، وبردى، ودجلة، والفرات… وذلك لتمارس من خلالها إسقاطاتها، فيتحول التاريخ بالنسبة لها بكل ما حواه، إلى معين أساسي لصياغة أفكارها ولنحت عباراتها، وأحد عوامل الجذب اللغوي لما تحويه تلك المفردات من مخزون تاريخي، وأبعاد اجتماعية وإنسانية، وزخم مشاعر، وبما لها من تأثير مباشر… حاثة القارئ بشكل غير مباشر على السفر في عباب المقارنة بين اليوم، والأمس القريب، أو البعيد على السواء، ومن ذلك (ص 19) حيث تقول:
ودِجْلة حَيْرَى تُسائِلُ الفُراتَ
عَنْ مَجْدٍ تائِهٍ في دُروبِ بَغْداد
يَسْتَجْدِي مِنْ عَبَقِ التاريخ
جَذَوات عزٍّ ينْشدها نِبْراس…
تستخدم الشاعرة آسيا الرياحي كعادتها في كل دواوينها لغة سهلة، لا يتضجر القارئ منها. ولكونها عملت سابقا مدرسة للغة العربية وآدابها، فإنها أدركت عمق حركة التغير والتبدل في استخدامات اللغة العربية لدى طلابها بصورة خاصة، وأفراد المجتمع من حولها بصورة عامة، وهو الأمر الذي يخفي وراءه تفكيرا ونهجا يبتعد بالجيل الجديد عن طريق الأجداد والتراث، ويقذف بهم في عوالم التغريب، مما استفزها ككثيرين ممن يحبون اللغة العربية لغة الضاد، ولاحظوا أيضا كيف تدهور حالها في هذه المرحلة من كل النواحي، حتى إنها أخذت تتراجع، وتترك مكانها لغيرها من اللغات في بيئتها وعقر دارها، فتقول في (ص 98):
وما عادَتِ الضَّادُ يا خَنَّاسُ
رَحِمَنا الأوْفَى
ولا عَادَتْ خَوابي المَعَاني
مَوْرِدَنا الأصْفَى
ولا انْبَلجَتْ مِنْ وراءِ الغَيْم
صَفَحاتٌ مِنْ أديم الجَلاءِ
بِمَجْدِ التاريخ تَنْطِقُ…
عملت الشاعرة آسيا الرياحي في ديوانها هذا بشكل خاص على الصور الشعرية والإنسانية، والمتخيل الذي تترك له العنان على رسله كعفريتها، في نفس الوقت الذي عملت فيه على قوالب اللغة، فخرج الديوان متناسقا يؤدي الدور الذي طمحت إليه الشاعرة الرياحي، مما يحمل بالتالي القارئ إلى عوالم الشاعرة الخاصة، وعمق تجربتها الشعرية. وكل ذلك بتلقائية تبتعد فيها عن التصنع والتكلف في النظم، مما يعطي القصائد بعدا حميميا، وبالتالي تكون أكثر قربا من القارئ، لتكون في لحظة من اللحظات أقرب إلى الهمس، والشكوى، والبوح، وخطاب الذات، والتعبير عن الدواخل. وذلك عبر قصائد سكنها ومض قوي بعبارات واضحة المعالم، وبكثير من الشفافية، كما قصيدتها في (ص 56):
خُذْها عَنّي
حِكايَة خَريفيَّة الفُصول
لا رَبيعَ يُزْهِرُ في ثَنايا الوَجْدِ
ولا صَيْفَ يَحْصُدُ بَقايا العَهْدِ
ولا حتّى شِتاءً
يَغْسِلُ بَراثِنَ الخِيانَة
وكَدَرَ الأفول
خُذْها عَنّي حَقِيقة
شَدِيدَة الذهول…
وتحضر المرأة بكل حالاتها وأحوالها وخيباتها وتجاربها الإنسانية في قصائد هذا الديوان، حيث أكدت الشاعرة الرياحي من خلال بعض قصائدها على نوع من الرفض لواقع المرأة في بلادنا، وكذلك تناولت غربة الإنسان في بلادنا ومن كل النواحي النفسية والاجتماعية، حتى في وطنه وبين أهله… موضحة أن هذه الغربة أصبحت سمة من سمات يومياتنا. قارعة طبول التحذير للخناس ومن ورائه لكل أفراد المجتمع، لتدارك هذا الأمر الخطير، وذلك في قصيدة تحمل اسم الديوان «على رسلك يا خناس»، (ص 18) فتقول:
على رُسْلِكَ يا خَنّاس
هذهِ لوْعَتي
تَجْتَرُّهَا رِياحُ الأوْهام
وقدْ أدَرْتُ وَجْهِي بَيْنَ الخِيام
فلا الأهْلُ أهْلِي
ولا الخَيْلُ خَيْلي
ولا النُّوقُ ولا العِيرُ ولا الأفْراسُ
لا مَأرِب وِرْدُها صافٍ
ولا فَيْضُ « بَرَدَى » كافٍ…
تنهج الشاعرة الرياحي في بعض قصائدها نهج المتصوفة الذي اقتنعوا بثوب من الصوف يقيهم من البرد، وإبريق يقضون به بعض مآربهم وحاجاتهم الخاصة، وحذروا في قصائدهم وأقوالهم الكثيرة من الغرور والاغترار بالحياة الدنيا، والغرق في ملذاتها وبهارجها، التي في واقعها لن تدوم وستنقضي لا محالة كظل أو غمامة تعبر السماء. فتقول (ص 24):
لِيُرْخِيَ على أطيافِ الوُجودِ
ما وقَّعَهُ الصَّدَى
مِنْ طَنينِ إسْدال
هَذهِ الحياةِ
عروسٌ دَلّولٌ
تلوحُ بِمِنْديلِ الخِواء
مِنْ على شُرُفاتِ الزَّوَال…
هذا ولا يخلو الديوان من بعض الحكم التي تمررها الشاعرة خلال قصائدها، والتي تنم عن تجربة عميقة في الحياة وتقلبات أحوالها، والمحملة في نفس الوقت بأفكارها الخاصة حول القضايا التي تتناولها وتطرحها، وهي في ذلك أيضا متصوفة زاهدة إلى أبعد الحدود. ومن ذلك ما ذكرته في قصيدتها «طلائع الأحلام»، (ص 41) حيث تقول:
سَأتَدَثّرُ بِأجْنِحَةِ الرِّيح المُهْمَلة
لأعانِقَ سَحابَ الذّكْرى
وأزُفّ أشْواقِي
حَبْلا مُريدًا
يَلتَفّ على عُنُقِ الصَّبْر
يُناجِي شَطحات المِقْصَلة…