الشعر العامي في ذاكرة الناس.. رياحين بقرب رابية من حطب (2-2)
فاطمة حوحو
تعتبر “الميجانا” توأم “العتابا” وهما صنوان يكادان لا يفترقان، لا تذكر هذه الا وتذكر تلك فتذكر العتابا في كسرة الميجانا أي اللازمة، كأن نقول: “حلوة العتابا بوجود حبابنا”، و”حلوة العتابا مع بيوت الميجانا”، و”غنوا عتابا واكسرولها ميجانا” وهكذا. تغنّى في اجتماع أو في سهرة كتمهيد يهدف إلى تشجيع مغنّ خجول ومساعدته في التغلّب على خجله ليندفع بعد ذلك يغنّي العتابا.
يروح الجمهور يردّد:
“يا ميجانا يا ميجانا يا ميجانا
ضحكت حجار الدار لفيوا حبابنا“
مرتين أو أكثر حتى يتغلّب المغنّي على وهلة الشروع في الغناء، فيروح رافعاً عقيرته بالغناء. وقد يتنافس اثنان أو أكثر في المحاورة، ويكون دور الجمهور في التصفيق وإظهار الاستحسان للأحسن منهما.
تحتل الميجانا مكانة مرموقة في الغناء الشعبي الشامي واللبناني على وجه الخصوص فيصدح بها الشعراء ويرددها العامة في كل مناسبة وفرح وسمر وأنس ولا يخلو منها مجلس غناء أو فنّ إلا وكانت كتوأمها نجمة الليلة.
في أصل اللفظة
كثرت التأويلات التي تناولت لفظة “ميجانا” حتى كادت الأمور تختلط علينا وقد رصدنا التفسيرات التالية: يا ما جانا ـ ما أكثر ما أصابنا، يا ماجنة ـ من المجون بمعنى أيتها العابثة المستهترة، يا ما جنى ـ ما أكثر ما ظلم، ميجانة ـ متحوّلة من مرجانة، ميجانا وعتابا ـ بنتان لأمير كانتا تتغّنيان بمواضيع عاطفية، ميجنا ـ من الأصل السامي “نجن” ويفيد معنى العزف على آلة طرب ويقابله في العربية ثلاثي “نغم” القريب منه لفظاً ومعنىً مع استبدال طفيف حصل بين النون والميم، أما “منجنة” فتفيد معنى نغمة،
الميجنة ـ وهي في اللغة مدقّـة القصّار هو مبيّض الثياب. وقد كان القصّارون يتغنّون بهذا النـّوع من الغناء عند دقّهم الثياب في الغسيل على توقيع مدقتهم التي هي الميجنة.
وزن الميجانا وبنيتها
لا تأتي الميجانا إلا على “البحر اليعقوبي” المؤلّف كما تقدّم من اثني عشر مقطعاً صوتياً، وهو المقابل لبحر “الرجز” (في أبحر الأرجاز بحرٌ يسهلُ ، مستفعلن مستفعلن مستفعلن) ذلك أن لفظة ميجانا مكرّرة ثلاث مرات تحتوي على اثني عشر مقطعاً صوتياً. في الميجانا أربع شطرات، الثلاث الأولى مجنّسة بجناس تام كالعتابا كما تقدّم، أمّا الرابعة فتنتهي بنون وألف (نـْشالله يكونوا سامعين حبابنا ) إن شاء الله ليس هنالك ما يلزم تجنيس القوافي في الميجانا على الصعيد البديعي، رغم أن الشائع اليوم هو نظمها مجنّسة بجناس تام، أما إذا لم تكن مجنّسة فتسمّى عندنا “حرّاثية” لأنها درجت على لسان الحرّاثين بلا محسّن لفظي من أي نوع.
يا رعى الله الزمان اللي مضى
كنا فيه نعيش بسرور ورضى
يا دهر ليش كويتنا بجمر الغضى
وأبعدت أخوان الصفا من بيننا
الميجانا مؤنث أما العتابا فمذكّر ففي العتابا غزل رجولي وحماسة وعتب وفراقيّات أما الميجانا فليس فيها العنترية لا بالقول ولا باللهجة وهي لذلك فتاة رقيقة وغادة حسناء في لحنها وفي موضوعها كفتاة رائعة الجمال كان يحبّها شاب ويتغزل بها.
وهذه أمثلة من الميجانا:
الأسمر إجا قلو لقلبي مشِ مشي
ولحقو مثل شي طير طاير مش مشي
من كرم خدّو قطفت حبة مشمشة
قال لي ألف صحتين مأكول الهنا
الزجل
الزجل اليوم يتناول جميع أغراض الشعر الفصيح من غزل ومدح، ورثاء، وحكمة، وحماسة، وهجاء، وفكاهة، ومسرحيات، وملاحم. كما أنّه يطال جوانب الحياة جميعها ويعكس الأحوال الاجتماعية والسياسية والاقتصادية. ومع تطورّه صار فنّاً قائماً بذاته له ما يميّزه عن الفصيح. إذ له تعابيره وصوره واستعاراته ورجاله، وخياله وتشبيهاته وكناياته، وبديعه، وأوزانه، وعروضه، وأساليبه.
ومن خصائصه:
الأوزان: من المعروف أن الشعر الرسمي ـ الفصيح التزم الوزن الواحد والقافية الواحدة إلى أن جاء الموشَّح فكسر رتابة هذا الوزن وانطلق ينوِّع في الأوزان والقوافي. وما الزجل سوى موشّح ولكنّه نُظِمَ بالعاميّة، وكما نظم الموشّح أصلا للغناء هكذا نُظِمَتْ الزجليّة أيضاً. لقد تتبّع الباحثون قصائد الزجل قديمها وحديثها، أعني تتبّعوا أوزانها وأنظمة تقفيتها فوجدوا أنّها تشترك مع القصائد الفصيحة في بحور معيّنة وتختلف عنها في أخرى.
ومعظم شعرنا العامّي نُظِمَ حسب البحور التالية: الأسواني، المتساوي، المتوسط، المتقارب، المزدوج، المتفاوت، المتناهي، السريع، البسيط، اليعقوبي، الوفائي، المتوازي.
القرادي: وهي لفظة من القَرَد أي لجلجة اللّسان، ووزنها خفيف سريع وهي كثيرة الأنواع: العاديّ، المخمس المردود، المحبوك، المطبق، المغصوب، المرصود، كرج الحجل، طرق النمل، المرصع، المهمل، المنقّط، القلاب، المجزّم. ونحن نمثّل القرّادي بما يلي:
جسمك شاعل مثل النار
وخَلْقَانِه تِحْفِة عَصْرِك
وكيف بْيِقْدَر هالزّنار
يْطَوّل بالو عَ خَصْرِك
(مخمس مردود)
أو:
لمّا النّهر زْرَعتوا دْياب
شَعرو شَاب وخافِ الدهر
خاف الدهر وشعرو شاب
لمَا دْياب زرعتِ النّهر
بْلَوْحِ وْمِسْمارَيْن وْباب
سَبعِ الغابْ حْبَستو شَهْر
حْبستو شَهْر لَسَبْع الغاب
بْمِسْمار وْبابيْن وْلَوْح
وْباب وْلَوْحَيْن وْمِسمار
يقول ميخائيل نعيمة: “.. فمن الطبيعي أن يكون الشعر المنظوم بلغة المخاطبة أحبّ إلى قلبه (أي قلب الشاعر)، وأفعل في روحه من ذلك المنظوم بلغة سيبوية، وطبقا لعروض الخليل“.
كما ويقول حنا الفاخوري: “الشعر هو النغمة السحرية التي تتصاعد من القلوب والنفوس، وتعبر عنها الشفاه، وأحسن ما يكون التعبير الشعري بلغة الحياة التي هي مراة صادقة للحياة في جميع دقائقها ومنعرجاتها. ولغة الحياة في البلاد العربية اليوم هي اللغة العامية، التي اعتمدها الزجل، فكان، والحق يقال، من أصدق الشعر وألصقه بالعواطف الانسانية الخالدة“.
وميزة أخرى يتحلى بها هذا الشعر هي التكثيف، فنحن قلّما نجد قصيدة عاميّة يعتورها الترهّل، سواء أكان ذلك في مضمونها أو في صورها، فهي تحاول ان تختزل تجربة كاملة بعدد من الصور المكثّفة الموحية. وهذا الأمر جعلها في الكثير تتكىء على المثل الشعبي الرّامز الدّال. ومثالنا على ذلك هاتان القصيدتان:
” يا شعر: لا تحزن معي وانسى الاسى
وْرُش الفَرَح عَ الناس في صُبحِ ومسا!!
ان طال عمري، وجابها الله معي
لاعَلّقَك يا شعر بصدور النّسا”
يضاف إلى ذلك العظة التي تحملها الزجلية، والنهايات المتفجِّرة التي تفتح هذا الشعر على مصراعيه ليعانق الحياة والخلود من أوسع باب.
وأحسن مثال على هذه النهايات قصيدة يونس الإبن التي يقول فيها:
” شو بْيِكِذْبوا! مين قال حبَّيتو؟
عُمرو لا حاكاني وْلا حاكَيْتو!
صدفة تْلاقينا، ومن غير ما حْكَيْنا
كُل مين مِشي بْدربو. بس عيْنِيْنا
اتْلفتوا على بَيْتو.
مْشيت ومشي حدّي بدّي… وما بدي
الاّ مِسِك ايدي…
أَي ما قْدِرِت هدِّي، ولا قْدِرِت هدَّيتو
ومن غير ما نحكي، غِصَّيت بالضحكة،
مِرِقنا عَ بِركِةْ مَيِ تْفَرْكَشْت بِالبِركة
تْزَحلَقْت.. ضَمَّيتو
وْعِند هَ الضّمي، صرَّخت: يا امي“.
أَزعر! وما بعرف كيف، تِمو لِحِق تِمّي،
ولا كيف عضيتو!
وْمِن يومها ما بنام، وبعيش بالاحلام
وْصِرلي عَ هالحالي شي خمس ست أيام
شو بكون حبّيْتو؟
بيكذبوا!!.. مين قال حبيتو؟!”.
ولعلّ روح النكتة الساخرة التي تلف معظم هذا الشِّعر، طبعاً عدا الحزين منه (الندب والنوح)- ميزة حبّبته إلى النفوس فاستساغته وطلبت منه المزيد والمزيد. هذه النكتة أو ما يمكن تسميتها بالقفشة ملفتة للنظر لما فيها من ذكاء وسرعة خاطر ولمعة.
والشّعر العامّي لا يقتصر على ما تقدّم، إنّما هو يمتدّ ليطال جوانب عديدة إجتماعية واقتصادية وسياسية، ونظرة لدواوين الشعراء أمثال الشاعر اللبناني ميشال طراد وطليع حمدان وسعود الأسدي وغيرهم تشي بذلك، كما وتشي بأنّ هذا الشعر صار جزءاً من حياتنا لا نستطيع الاستغناء عنه، نستخدمه ونستسيغه في مجالسنا وفي حفلاتنا وفي مواسمنا، في أفراحنا وفي أتراحنا. كما تجدر الاشارة إلى أن هذا الشّعر يحتوي في فنونه على فنّ الندب وفن هدهدة الأطفال والمهاهاة وغيرها، مع جمالها وإيحائها وروعتها.