أين اليسار المغربي بعد عام على انتخابات المهانة؟
أسأل مكرها، من باب الغيرة والأنين، لا من باب التشفي والطنين: ما سر غياب السياسة بكل أصيافها اليمينية واليسارية والدينية والعلمانية والاشتراكية والليبرالية بعد مرور عام على انتخابات المهانة. وبصورة أخص أين اليساريون واليساريات؟
ما سر غياب وسكوت اليسار المغربي في وضع يعج بكل ما يدعو للنضال والتواجد الميداني، بعد كل المظالم الاقتصادية والاجتماعية والحقوقية؟
إذا كان اليمين ساكتا بحكم انهماكه في جني المنتوج، فما سر صمت اليسار وإصابته بالخرس؟؟؟
التاريخ يتجه دائما إلى الأمام، ولا يعرف الرجوع إلى الوراء، ويحمل معه في حقائبه كل الماضي الذي لا يتخلص منه رغم ثقله.
التاريخ الإنساني قطار يسير دائما في اتجاه المستقبل، قد يتعطل، وقد يتأخر في مواعيده، ولكنه لا يعود أبدا إلى محطة الانطلاق..
لا يعني هذا أن التوجه نحو المستقبل يستدعي التنكر للماضي، بل يعني الوعي به، لمعرفة ما هو قابل للاستمرار في الزمان ويساعد على التقدم، وما هو قابل للدخول الى الأرشيف لأنه يعيق التطور.
كثير من دعاة الحداثة، تجدهم بحكم “حداثتهم”، يرفضون الماضي بإطلاق مصطلح “الماضوية” بشكل قدحي على كل من يدعو إلى مراجعة الماضي وتفكيكه ونقده. وكثير من “الحداثيين” ينتقدون الأصولية والسلفية والماضوية، ويسفهون كل تقديس وتبجيل للأصول والسلف والماضي. لكنهم غارقون في أصولية جديدة، وسلفية حداثية، وهم يقدسون نصوصا وأفكارا، تتطلب التحيين وإعادة القراءة باستمرار. ويبجلون أشخاصا أو زعامات أو قيادات، وكأنهم كائنات ملائكية بلا أخطاء. ويقتطفون لحظات خاصة من الماضي، أو مواقف تاريخية معينة، ويسقطون عليها أنوارا كاشفة لإخفاء عناصر الظلام والبغي فيها، فتصبح بذلك عائقا في التفكير وتكبيلا للمبادرة والممارسة.
نقد الأصولية والسلفية والماضوية، باسم اليسار والحداثة، يستدعي الحرص الكبير على عدم السقوط في ما يجعل اليساري/ الحداثي أكثر أصولية وسلفية وماضوية من الذين ينتقدهم، وهو حال عدد من “مناضلينا اليساريين/ الحداثيين”.
من هذا المنظور، اقترحنا، ولا زلنا نقترح ضرورة إعادة قراءة ماضينا، الوطني واليساري، المحلي والاقليمي والقومي والكوني، داخل التاريخ الانساني، بعيدا عن التشنج الحداثي الرافض له، أو التعصب السلفي الأصولي، دينيا كان أو اثنيا، الرامي إلى تقديسه وتبجيله. وفي صلب هذا الاقتراح، ينخرط موقفنا من قراءة ماضي اليسار المغربي، ودوره في ما يعرفه وطننا ومجتمعنا اليوم، باعتبار حاضرنا بكل خيباته وانكساراته الكثيرة، والقليل من انتصاراته وانجازاته الهزيلة، هو بالضرورة، منتوج حتمي لهذا التاريخ، وباعتبار مستقبلنا يتوقف على هذه القراءة من أجل الاستكشاف والاستشراف. فقطار المستقبل لا ولن يعود أبدا إلى محطة الانطلاق، وإن لم نركبه في حاضرنا من خلال القراءة النقدية بالتحيين والتجديد والابتكار، فلن نركبه أبدا.
الآن وبعد مرور سنة على انتخابات 8 شتنبر 2021، وما انتهت إليه، وقد انخرطت الاحزاب المشاركة فيها، في اقتسام نتائجها، من الانتصار إلى الخيبة والانكسار. وانخرط الشعب المشارك والشعب المقاطع في بناء أوهام الانتظارات، وسيناريوهات الخيبات. ودخلت الانتخابات ببهلوانياتها إلى فعل ماضي في انتظار ميلودراما أخرى بعد 4 سنوات.
وإذا كانت البهلوانية هي ما يطبع جل الأحزاب، فمكونات اليسار على الأقل هي وحدها بحكم انتمائها لثقافة العقل والتنوير والتحليل والنقد واستخلاص الدروس، القادرة والمؤهلة موضوعيا وتاريخيا، للوقوف عند هذه المحطة من أجل مساءلة الواقع والذات الحزبية فكريا وتنظيميا وممارساتيا، والقيام بما يفترضه العقل اليساري من قراءة نقدية وبناء الرؤى التي تمكن من تجاوز السقطة القاسية التي مني بها اليسار، والتي لا ينكرها أحد، سواء تعلق الأمر باليسار المقاطع، أو اليسار المشارك، أو اليسار المنخرط في الجري وراء اقتسام الريع الانتخابي.
وإذا كان بعض المحسوبين على اليسار، أو من صرح “زعيمهم في فورة بهلوانية “نحن اليسار”، قد أحيلوا قسرا على المعارضة، وانهزموا في جريهم نحو المشاركة في حكومة الغول الليبرالي المتوحش، فإنهم بذلك قد فقدوا لغتهم، بعد أن فقدوا مرجعيتهم، مما جعلهم يقدمون خطابا تبريريا يقول “نعم” في صورة “لا” ويقول “لا” بطعم “نعم”.
أما ما يسمى باليسار الآخر، وقد شارك في الاستحقاقات، والمتمثل في فيدرالية اليسار المعطوبة بسبب ما عرفته من شروخ ليلة الاستحقاقات، وما كانت تعرفه مكوناتها من أعطاب تنظيمية وفكرية، منذ تأسيسها، وما كان يعتمل من حساسيات وأنانيات، في كل مكون من مكوناتها، فقد كان هذا اليسار هو الأولى والأجدر بأن يكون سباقا للشروع في القراءة النقدية للذات اليسارية النائمة في قلعة الأصولية والسلفية، والغارقة في أوهام التغيير القادم من السماء، تحت شعار الحتمية التاريخية. لقد كان هذا اليسار قبيل الانتخابات، – مع الأسف – يملأ الشاشات، والمواقع، ووسائل التواصل الاجتماعي، بالتصريحات والتحليلات التي لم يكن همها سوى طعن اليسار في اليسار، واتهام هذا الطرف للطرف الآخر، لتأتي نتائج الانتخابات، بطعن الجميع طعنة قاتلة، واتهام الجميع بالقصور العقلي، والمرض النفسي، والخواء التنظيمي، والنرجسية البلهاء، والانحسار الجماهيري، والغياب الميداني، وكلها عوامل تفرض التوقف لإعادة النظر والتقييم الشامل. لكن هذا اليسار مع كامل الأسف، هو أكبر الساكتين، وأكبر المنسحبين من ساحة الفعل الفكري والسياسي والاجتماعي، وهو الذي من المفروض بحكم مرجعيته العقلية التنويرية والحداثية، من كان المعول عليه لتقييم حقيقي وتاريخي للمرحلة، واستخلاص ما ينبغي من الدروس للاتجاه نحو المستقبل عبر بديل قادر على تغيير ميزان القوى من اجل التغيير الممكن.
إن هذا السكوت المريع لأطياف اليسار، لا معنى له سوى أن اليسار يعلن نهايته. وأن المغرب فقد قوته التاريخية التي هو في أمس الحاجة إليها، وأنه يتعين انتظار فترة اختمار أخرى، مثل تلك التي أعقبت استعمار المغرب في 1912، كي يأتي جيل جديد، يفكر بحس وطني واجتماعي وطبقي، لبناء مغرب آخر لا يبدو أن ملامحه اليوم قد بدأت في التشكل في عصر التكنولوجيا والعولمة ووسائل التواصل وثقافة التهجين والنمدجة وبناء الانماط .
إن أكبر الأعطاب هي غياب الوعي التاريخي، وإن أكبر معيقات اليسار فكريا ونظريا، أنه فاقد لهذا الوعي التاريخي، وفاقد لآليات وأدوات التعامل معه، وعلى رأسها النقد الذاتي، ومستمر في التمسح بأعتاب زاوية اليسار يستلهم منها “البركة” في الكلمات والمصطلحات، والمطرقة والمنجل، واليد المعقودة، والشعلة المتوهجة، والسفينة العائمة، وصور غيفارا على القمصان. وفي الواجهات..إنها الاصولية الحداثية، والسلفية الثورية….
Visited 10 times, 1 visit(s) today