أحاديث عن شعراء مغاربة معاصرين
الشعراء محمد الشيخي وأحمد صبري وعبد الرفيع الجواهري
عن ثلاثة شعراء مغاربة معاصرين: عبدالرفيع الجواهري، صبري أحمد، محمد الشيخي
عبد الجبار العلمي
1ـ الشاعر عبدالرفيع الجواهري
عرفنا الشاعر عبد الرفيع الجواهري مذيعا لامعاً في التلفزةِ المغربية في زمنِها الزاهر في أواخرَ سنوات الستين، وكان ينال إعجابنا بفصاحته وصوته الإذاعي الجميل، قبل أن يبهر الجميعَ بقصيدته الشهيرة “القمر الأحمر” التي غناها المطرب عبد الهادي بلخياط ولحنها الفنان الكبير عبد السلام عامر. ومازلتُ أذكر أن القصيدةَ نُشرت مع صورة المطرب في مجلة محلية كانت تصدر بتطوان. ومازلتُ أذكر كذلك أنني وبعض الأصدقاء، ونحن تلاميذ، كنا نحفظ مقاطع من أغنيةِ “القمر الأحمر”، ونتغنى بها في الطريق، دون مراعاةٍ للعابرين الراشدين:
(خجولا أطل وراء الجبال/ وجفن الدجى حوله يسهر/ ورقراق ذاك العظيم/ على شاطئيه ارتمى اللحن والمزهرُ).
كانت تُبهرنا هذه الصورُ الشعرية الجميلة، ويُطربُنا الصوتُ العذب للخياط واللحنُ المعبِّر عن معاني الكلام لعامر. هذه التحفةُ الغنائيةُ التي تُضاهي- في رأيي المتواضع باعتباري مجرد مستمع – العديدَ من أغاني كبار مطربي وملحني الشرق الذين كانت أغانيهم مثارَ إعجابِنا هنا في المغرب. لقد كنتُ أطربُ لأغنية “القمر الأحمر” أكثر مما كنتُ أطرب لبعض الأغاني المَشرقية، كما كنتُ أُصْخي السَّمع بإعجاب وانتشاء لأغنية “ميعاد” من شعر الجواهري ولحن عبدالسلام عامر وأداء عبدالهادي بلخياط في مذياع البيت في سنوات الصبا ، فتسمو بي إلى مواعيد الحب الرومانسي الحالم. أما أغنية “راحلة” التي يشدو بها المطرب محمد الحياني من كلمات شاعرنا وتلحين الملحن العبقري عبدالسلام عامر، فترحلُ بنا إلى عالم الحبِّ العارم والأشواقِ الحارقة، وتحكي لنا عن الجارة الحبيبة التي سترحلُ عن الحي، بينما تتركُ الحبيب في حيه يقاسي عذابَ الوحدة و الفراق:
وهذا المساءُ ….
وحُمرتُهُ مِنْ لَظى وَجْنَتَيْكْ
يُحادِثُني الصَّمْتُ في مُقلتيكْ
وَنظْرتُكِ الْحُلوةُ الذَّابلَهْ
لأنك، عَنْ حيِّنا راحِلَهْ
فَهَلْ يَرْحَلُ الطِّيبُ مِنْ وَرْدِهِ؟
وَهَلْ يَهْرُبُ الْغُصْنُ مِنْ ظِلِّهِ؟
أَحَقاً كَمَا تَرْحَلُ الشَّمْسُ هَذا الْمَسَاءْ؟
تُرَى تَرْحَلِينْ؟
وَفي لَهَفَاتِي وَلَحْنِي الْحَزِينْ
يَمُوتُ انْشِراحِي
تنوحُ جِراحِي
وَفي الحَيِّ، في كُلِّ دَرْبِ
سَأَرْشِفُ دَمْعِي
سَأَعْصِرُ قَلْبِي
وَأَنْتِ بَعِيدَهْ …
لِمَنْ يا إلهةَ فنِّي
لِمَنْ سَأُغَنِّي؟
هذه مجردُ ذكريات وانطباعات مستمع إلى الطربِ العربي الأصيل مغرباً ومشرقاً، مؤكداً أنَّ هوانا كان منذ أن وعينا مِصرياً مشرقيا، سواء في مجال الغناء والموسيقى أو في مضمار الأدب بمختلف أجناسه. لكننا لا ينبغي أن ننسى أن لكلٍّ خصوصيتَه وعبقريتَه.
عبدالرفيع الجواهري شاعر كبير في مجال القصيدة المغناة، ليس أقل من كامل الشناوي صاحب أغنية “لا تكذبي”، حسب رأيي، وإن كنتُ لا أنكر أنني من المعجبين بشعر هذا الأخير الذي شدتْ به أصواتُ مشاهير المطربين والمطربات. وأرى أنه – أعني عبدالرفيع الجواهري ـ لو أخلص للشعر وحدَه، ولم تدفعه مواهبُه الأخرى إلى مجال خوض غمار الحياة السياسية والحزبية والصحافية، فضلا عن ظروف عمله في مهنة المحاماة التي ينكر الإنسان فيها ذاته من أجل هموم ومشاكل الآخرين، لكان أكبر شعراء العرب اليوم، ولكان صانعَ الجواهر الشعرية. إن الشاعر المغربي عبدالرفيع الجواهري جديرٌ بدراسات أكاديمية عميقة، سواء لديوانه الغنائي أو لديوانيه ” وشم في الكف” ( 1970) و”شيء كالظل ” (1994). وينبغي أن يوجه أساتذة الجامعة في كل كليات الآداب في المغرب طلبتَهم إلى دراسة شعره في كل المستويات الجامعية.
2- الشاعر صبري أحمد:
الشاعر المغربي صبري أحمد صاحب ديوان “أهداني خوخة ومات“.
قال الشاعر عبدالكريم الطبال: “ننسى نوابغَنا وهم أحياء فكيف بعد الحياة؟ “
يُعاني هذا الشاعرُ المتعدد المواهب حالة صحية ألزمتهُ بيته، وأبعدته عن الحياة الثقافية التي كان من الفاعلينَ النَّشطين فيها في مختلف المجالات. سألتُ عن حالته ووضعه الصحي أحدَ معارفي وأحد أبناء حيه (درب غلف) بالدار البيضاء، فأخبرني عن حالته الصحية التي منعتْه من الخروج من بيته. وقد علمتُ منه أن شاعرنا صبري أحمد يشكو من تهاون الخلان في تفقده وعيادته. لقد أهدانا أحمد صبري أجملَ وأطيبَ الفواكه الشِّعرية. أما الكتابةُ في الرياضة بمختلف أنواعها، فالعارفون بشؤونها يعتبرونه أحسنَ محرر ومعلِّق ومحلل رياضي من الدرجة الرفيعة، هذا فضلا عن اللغة العربية المتينة التي كان يحرر بها مقالاته الرياضية. والمعروف أنه عمل في مرحلة من مراحل حياته مدرباً لفريق كرة القدم السعودي الذي حظي فيها بنجاح وتقدير. الشاعر المغربي الستيني صبري أحمد أصدر ديوانه “أهداني خوخة ومات ” سنة 1967. ويضم ديوانه قصائدَ قسمها إلى مجموعات وضعَ كلَّ مجموعة منها تحتَ عناوين دالة على ما تعالجه من قضايا، وهي كما يلي:
1 ـ “مجموعة جدار الإلحاد في وجه الأبطال”. / 2 ـ “مجموعة حرية الأحرار”، / 3 ـ “مجموعة ست قصائد لجزائر الثورة” / 4 ـ قصيدتان لفلسطين”
/ 5 “مجموعة عين الشمس في إفريقيا” / 6 ـ “مجموعة لازلنا لم نمت “/ 7 ـ “مجموعة ثلاثة شعراء ماتوا” / 8 ـ مجموعة : القلب، القلب، القلب، ولنمت بعد ذلك أجمعين” / 9 ـ ” مجموعة عمود الصلب مصلوب من زمن”.
وكما يتبدى من خلال هذه العناوين أن قصائد هذه المجموعات من القصائد، تنتمي إلى الشعر الوطني والشعر السياسي والشعر القومي (ثورة الجزائر ـ القضية الفلسطينية ـ إفريقيا) والشعر الذاتي، و سنختار قصيدة من مجموعة: “القلب . القلب . القلب ، ولنمتْ بعد ذلكَ أجمعين”، وهي بعنوان “هدايا ” مؤرخة بتاريخ : 23 / 10 / 1961 م .
هدايا
فيما بَيْنَ قميصك وصدرك
رَمَيْتُ حَفنةً مِنَ النُّجُومْ
لَمْ تَلُفَّها الغُيُومْ
أَبَداً أَبَداً
…
رَمَيْتُ القَمَرَ
قُبْلَةً وَاضِحَة
طافِحَةً بِكُلِّ شَيء
أَضاءَتِ الاتِّساعاتِ
المُتَرامِية المُتَرامِية
مابَيْنَ قَمِيصِك وَصَدْرِك
وَكانَ لِي طائِرٌ
كَثِيرُ الأَلْوَانْ
غِذاؤُهُ الأَلْحانْ
أَعْتَقْتُهُ
وَرَمَيْتُهُ …
مابَيْنَ قَميصِكَ وصَدْرِك.
الحقيقة أن هذا الديوانَ الغني بالقضايا التي كانت وما تزال تشغلُ بالَ المفكرين والكتابِ والشعراء، يحتاجُ إلى دراسة عميقة تتناول هذه القضايا، كما تتناول النواحي الفنية التي يزخر بها حتى لا تطوي صفحاتِه يدُ النسيان.
3 ـ الشاعر محمد الشيخي وصناعة السبائك الشعرية
بعد المنجز الشعري الباذخ الذي يتمثل في دواوينه: “حينما يتحول الحزن جمراً”( 1983)، / ” الأشجار ” (1988) / “وردة المستحيل” (2002) / ” ذاكرة الجرح الجميل “ ( 2005 )/ زهرة الموج” (2009 ) ، يُصدر الشاعر محمد الشيخي ديوانه السادس “فاتحة الشمس” 2015 ) لمتابعة مسيرِه الشعري على نفس النهج من الإجادة والحضور المتفرد في المشهد الشعري العربي في المغرب. ويتضمنُ هذا الديوان عشرَ قصائد اختار لها الشاعر العناوين التالية : “فاتحة الشمس ” ـ ” أوتار ” ـ “دهشة الريح ” ـ ” وما ذا بعد ؟ ” ـ ” قفا نضحك ” ـ ” إيقاعات مبتهجة ” ـ ” وجه الماء ” ـ ” جمرة الريح ” ـ ذاك الربيع ” ـ “لحظات هاربة “.
والمعروف أن الشاعر محمداً الشيخي من الشعراء المقلين الذين يشعرون بالمسؤولية إزاء ما ينشرونه على الملأ، بين ديوانه الجديد هذا وديوانه ” زهرة الموج ” أكثر من خمسِ سنوات. وهو بذلك من زمرة الشعراء الذين يُحَكِّكُونَ شعرَهم ويُجَوِّدونَه، ولا يخرجُ من بين أناملهم إلا سبائك متقنة، تنطق بالجمال وجودة الصنع. إنه ينسج على منواله الخاص المتميز في أسلوبه ولغته وتصويره وتراكيبه. ويمكن لقارئه اللبيب ، أن يتعرف على شعره دون أن يكون ممهوراً باسمه. لقد تمكن الشاعر خلال تجربته الشعرية الغنية من صياغة أسلوبه الخاص المتميز. وقد أبدع الأستاذان المبدعان محمد البكري وأحمد بوزفور في تقديم ديوان “فاتحة الشمس” ومن خلاله تجربة الشاعر المعتقة بأسلوبهما الشعري، وبلغتهما الأنيقة، فكان أول تلق جميل، واحتفال بهيج بميلاد شمس متوهجة بالشعر الجيد.
<
p style=”text-align: justify;”>هذه مجرد إشارة إلى بعض ملامح التجربة الشعرية الغنية للشاعر محمد الشيخي، فشعره المتميز، قمينٌ بالدراسة الأكاديمية الجادة الرصينة، تتناول كل مكوناتِ الخطاب الشعري في جميع دواوينه. (جريدة “الشمال”، 3 شتنبر 2020)