من عذاب “إدريس الثاني” إلى مجاورة معتقل درب مولاي الشريف
من مذكرات الفنان التشكيلي والكاريكاتوريست لحسن بختي
لحسن بختي
1965
من مدرسة الجاحظ بالحي المحمدي إلى مدرسة إدريس الثاني (بزار) عين السبع. الدار البيضاء، المغرب .
بعد شهر فقط من التسجيل بمدرسة الجاحظ بالحي المحمدي في قسم التحضيري لبلوغي سبع سنوات، أي السن القانونية للانتقال من الكتاب (الفقيه السي السباعي رحمه الله)، تم تسجيل أخي التوأم حسين وأنا للموسم الدراسي 1964- 1965، وبعدها انتقلت أسرتنا من “بلوك الكدية” للسكن بعين السبع.
لم نستوعب الأمر في البداية. ظننا أننا في مخيم لمدة محدودة وستنتهي كي نعود إلى الحي المحمدي، وبالأخص للفارق بين الحالتين:
منزل في زقاق بالكاد يتسع لمرور سيارة صغيرة، وبيوت ضيقة بدون نوافذ للتهوية والإضاءة، مقابل فيلاَّ مساحتها 400 م²، تحيط بها نوافذ تطل كلها على حدائق مبهجة وبذوق فرنسي.
كان جيراننا مزيجا من قدامى عين السبع وفرنسيين يتعايشون معنا باحترام وحسن جوار.
المدرسة كانت تجمع بين جميع الفئات والشرائح المجتمعية، حيث تجد ألقاب عائلات بنجلون وولد العيدي وابن فلان وابن كرَّيْط.
كان من العار أن تدرس بالمدارس الخصوصية، والتي كانت لا تستقبل إلا من لا رجاء ينتظر منهم.
مرت دراستنا، أخي حسين وأنا روتينية، كباقي زملائنا بالقسم بمجهود متوسط، لكن بنجاح متواصل حتى وصلنا لقمة العقبة، وهي قسم المتوسط الثاني، حيث اصطدمنا بمعلمين اثنين من دون ضمير، آخر همهما هو التلقين والتعليم، أو ربما لم يكونا في المستوى الذي تتطلبه مهمة معلم كفء.
لم نكن في سن أو وعي تقييم مستواهما، لكن نتيجة الرسوب سنتين متتاليتين بالنسبة لكل التلاميذ إلا اثنين أو ثلاثة تشي بكل هذا.
كان من بين المعلمين الذين لم أنسَهُم منذ أكثر من خمسين سنة: مصلوح والبيدق.
كانا يطلبان منا أن نعطي 50 فرنكا مقابل الإعفاء من حفظ نص طويل من المطالعة العربية، ومثلها مقابل الإعفاء من حفظ نص طويل من “الليفر” بالفرنسية وإلا الفلقة. وقتها كان كيلو اللحم يقارب الدرهمين.
كنا لمدة السنتين التي أمضيناهما في تحمل الفلقة لتعذر الحفظ بل لاستحالته.
وكان للرتبة والمعدل بالنتيجة علاقة بما تجود به على المعلم وعدد المرات التي قدمت فيها “القرابين“.
كانت دائما رتبتي أخي وأنا ضمن الأواخر، لأننا لم نكن متعاونين، وفي كل نتيجة نعنف من الوالد رحمه الله، والذي لم يكن ليستوعب وجود معلم بمثل هذه الأخلاق.
وفي حالة غضب شديد قبل رسوبنا الثاني عند تسلم النتيجة الكارثية فضل الوالد رحمه الله أن يكلمنا بهدوء، وسألنا عن سبب هذه النتائج وما سبب إهمالنا لدروسنا.
اغتنمنا فرصة استماعه لنا وشرحنا له قصة الـ 50 فرنكاً اليومية لكل معلم.
رافقنا صباح الغد إلى المدرسة حيث تحدث مع المدير الفاسي الفهري عن المعلّمَيْن، وأخدنا المدير وأبي إلى المعلم مصلوح الذي سأل التلامذة: (واش عمرني طلبت منكم تجيبو ليا شي فلوس؟).
أجابوا بالنفي طبعاً.
أنبنا الوالد الحاج أحمد رحمه الله، واعتذر للمعلم والمدير وأوصاه بأن “يتهلاّ فينا”، وما أن غادرنا الوالد حتى بدأ مصلوح في تنفيد نصيحته بطريقته المعهودة وزيادة.
وفي صباح اليوم الموالي والمعلم يترقب أدنى سبب للانتقام منا، لحرمانه المؤقت من الإتاوات، طلب منا أن نَخرج مثنى مثنى اليد باليد.
ومن خوفي من صفعة طائشة تأخرت حتى مغادرته باب القسم للخروج، لكن لسوء حظي كان العدد الإجمالي للتلاميذ فرديا أي لم يبق لي ثان أضع يدي في يده.
اغتنمها مصلوح حجة لصفعي وأمرني أن أعاقَب بالبقاء بالقسم وحرماني من حصة الرياضة.
وهنا راودتني فكرة الانتقام منه بطريقة ما!
فتحت باب خزانته الخاصة، وأول ما جلب نظري هو المطالعة العربية، كانت جميلة ومرسومة بطريقة أروع من تلاوة “اقرأ” لأحمد بوكماخ، التي كنا ندرس فيها. كانت من لبنان حيث أن صفحة نص “علم بلادي”، طبع عليها علم لبنان، وصفحة النص الذي يتحدث عن زي بلادي فبها رسم رجل لبناني بلباسه التقليدي، وقد درس فيها من سبقونا قبل استقلال المغرب.
دسست المطالعة في محفظتي، وأنا أرتعد من الخوف، لكني كنت جد سعيد، من جهة بهذا الصيد الجميل، ومن جهة أخرى بانتقامي الذي أبرر به جريمتي هذه.
ما أن عاد التلاميذ للقسم حتى صاح شكيب بلكعاب:
– “أستاذ تسرقت ليا كومة..”
ابتسم المعلم بخبث والتفت إلي:
– فين الممحاة؟
– واستاد والله ما شفت شي كومة.
– علقوه.
كانت التحميلة عبارة عن حزامين جلديين يدخلهما تلميذان من ثقبي محبرتين على الطاولة، ويشدانها بقوة كي لا يتركا لجسدك المعلق تحت الطاولة الحرية لإفلات قدميك.
بدأ بالضرب بعنف شديد والضربات تتوالى وأنا أنتظر الضربة الأخيرة والتي لا تأتي…
وحين واصل الضرب وأنا بين آلامها والخوف من أن يبحث في محفظتي، فكرت في حل أرتاح ولو مؤقتا من استمرار التعذيب، وكذلك لكي لا يبحث في محفظتي.
– واستاد صافي غادي نشوف.
فُكَّ وثاقي وسرت متوجها لمحفظتي وأنا أعرج ورجلاي لا تتحملان وزني والبرودة تحتهما تزيد آلامي.
تظاهرت بالبحث وأمَلْتُ محفظتي رأسا على عقب لكي يتساقط كل ما يزيد عن الدفاتر أو الكتاب من أقلام وريشة وملونات.
– فين الكومة؟
– والله يا واستاد ما شفت شي كومة.
– أرا لمُّك ديك الشكارة لهنا.
فبدأ بوضع الدفتر بعد الدفتر والبحث بداخله، ثم المطالعة التي كادت تشل نصفي، وبالأخص لما بدأ يبحث وسط أوراقها ثم أكمل بما تبقى ولم ينتبه لمطالعته.
أعادني إلى التعذيب، وواصلت صراخي واستغاثتي، لكن بأقل حدة وأنا بين الآلام وفرحة النجاة مما كنت أخشاه لو انتبه لـ”مطالعته“…
هكذا كان “روتيننا اليومي” مع مصلوح والبيدق حتى نهاية السنة.
بعد شهر تقريبا تفاجأت بطارق بالباب، وهو أب ولد دربنا ( ك) رحمه الله، بادرني بالسؤال التالي:
– نتوما التوام اللي كتقراو مع (ك) ولدي؟
– واش بصح المعلمين فمدرسة “بازار” كيطلبو منكم لفلوس.
– كيطلبو لينا 50 فرنك من كل تلميذ ولكل أستاذ.
– سير كلّم ليا الواليد.
– يلا عاودنا ليه هاد الموضوع هاد المرة يقتلنا
– ماتخافوش غادي نفسر ليه الموضوع.
فخرج الوالد ليتعرف على هذا الرجل ولكي يحكي له قصته مع ابنه، الذي وبعد مدة من التحري عن الدرهم والدرهمين الذين كانا يختفيان من جيبه ليعترف له (ك) ويبرر سبب سرقاته المتتالية.
كان الحل الوحيد هو الاختيار المؤلم لمدرسة اتحاد درب مولاي الشريف السيئة السمعة والمخيفة، كجارتها كوميسارية درب مولاي الشريف المختصة في التحقيقات مع معتقلي الرأي.