هل يصبح المتوسط بحرا ميتا؟ 

هل يصبح المتوسط بحرا ميتا؟ 

باريس- المعطي قبال

شهد البحر الأبيض المتوسط على مدى تاريخه الضارب في الأعماق تناوبا  لهبات وهجمات  عواصف الرمال، الرعد والبرق والرياح الهوجاء. كما كان مسرحا لرحلات غيرت ملامح العالم من رحلة عوليس إلى ابن بطوطة مرورا بماجيلان  وغيرهم. كما كان المتوسط مرتعا لقصص وأساطير لا زالت تنعش المخيال البشري إلى اليوم. بانبثاق الحداثة الأوروبية، تحول إلى ميدان للمنافسة الاستراتيجية، العسكرية والبحرية بين القوى العظمى. 

اليوم «تتعايش» على شطانه البارجات الحربية والبارجات السياحية التي تتقدم على هيئة مصانع متنقلة سواء في ميناء البندقية أو ميناء مارسيليا، على سبيل المثال، لنقل ملايين السياح البلداء للقيام بلفة مكلفة حول العالم. ويفضل السياح الاستحمام والاستجمام في بحر المتوسط الهاديء، الدافيء النقي والرومانسي بدل المحيط الأطلسي المعروف بطيش مياهه. وتشكلت من حوله أداب راقية نقلتها للقراء نصوص كل ألبير كامي، أندريه شديد، أورهان باموك، لورانس ديريل، كفافي، نجيب محفوظ، بول بولز، بول فاليري وغيرهم… حولت هذه النصوص المتوسط إلى بطل لا يضاهى ولا يقهر…

لكن هذا الصورة بدأت في التأكل لتعرض علينا بحرا متسخا، تحول إلى مقبرة للمهاجرين، ومكب لنفايات المحروقات المستعملة. وأخيرا وليس أخرا عرفت أعماقه تغيرات حرارية أثرت على الحياة الحيوانية والنباتية البحرية. وقد ارتفعت حرارة المياه ب5 درجات فوق الحرارة المعتادة لتصل إلى 30 درجة. ومع غياب للرياح والسحاب، فإن البحر يلتقط ويكدس الحرارة. وسيستمر هذا الوضع خلال السنوات القادمة. كما أن موجات الحر البحرية ستتمكن من أعماق البحر للتأثير على الحياة بداخله. لم يرصد علماء الأرصاد الجوية سوى فترتين من موجة الحر خلال عقد الثمانينات و7 موجات في التسعينات وواحدة كل سنة في عقد 2000. أما الإحصائيات المفصلة لعقد 2010-2020 فهي غير متوفرة إلى الآن. وستكون لا محالة أكثر حرارة بحسب عالم الأرصاد الجوية صموئيل سومو. الأنواع المهددة هي الأنواع الراسية أو التي لا تقدر على الحركة للغوص في الأعماق الباردة مثل الشعاب المرجانية، كما أن الاستحرار البحري يساعد على تكاثر الطحالب الخضراء المسممة في أعماق وعلى جنبات البحر، الشيء الذي يؤثر على التنوع البيئي ، الارتفاع الحراري، ويساعد على نشأة ظواهر مناخية عنيفة. 

 في الظرفية الراهنة التي تتميز باختلال الفصول مع كثرة الحرائق وتصاعد وتيرة العواصف وشح المياه…أعلن بعض علماء البيئة عن بداية نهاية المتوسط. إذ انعكست هذه الاثار على البحر الذي تبين أنه من بحر متوسط قد يتحول إلى بحر ميت.

ما المتوسط تساءل فيرديناند بروديل أحد المؤرخين المرجعيين في تاريخ البحر الأبيض المتوسط، ليجيب مركزا على تعدديته وتنوعه «ألف شيء في نفس الوقت. ليس بمشهد بل سلسلة مشاهد. ليس ببحر بل سلسلة بحار، ليس بحضارة بل حضارات متراكمة فوق بعضها البعض. السفر على متن المتوسط معناه أن تصادف العالم الروماني بلبنان، ما قبل التاريخ بساردينيا، المدن الإغريقية بصقلية، الحضور العربي بإسبانيا، الإسلام التركي بيوغوسلافيا، معناه الغوص في أعمق أعماق القرون…».

لكن السؤال اليوم هو: هل سيفقد المتوسط بفعل التقلبات المناخية هذا الثراء الذي صنع هويته ومجده؟ 

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

المعطي قبّال

كاتب ومترجم مغربي - رئيس تحرير مساعد لموقع "السؤال الآن".