المرأة مدخل إلى الحرية والتحرر من خلال أعمال مصطفى حجازي (3/2)

المرأة مدخل إلى الحرية والتحرر من خلال أعمال مصطفى حجازي (3/2)

لحسن أوزين

ثانيا: ما قبل الحرية والديمقراطية = الاعتراف بإنسانية المرأة

تركز كتابات مصطفى حجازي على الإنسان في قيمته واعتباره وتقديره، أي على ضرورة الاعتراف بإنسانية الإنسان. فكل كتبه  تشير صراحة في مضمونها ومن خلال عناوينها إلى هذا الهم والانشغال المعرفي والنقدي والاجتماعي الإنساني بالقيمة الوجودية والاجتماعية لإنسانية الإنسان، حيث نجد أنفسنا أمام كتابين يعبران صراحة وبوضوح لا يقبل الحذلقة الشكلية ولا الترف الفكري المفرغ من أية قيمة علمية ومعرفية “الإنسان المقهور” و”الإنسان المهدور” ومن خلال قراءتنا للكتابين تبين لنا حجم المعركة التي يخوضها الإنسان المقهور والإنسان المهدور، ليس فقط إزاء مثلث الموت الاستبدادي العصبي والأصولي، بل أيضا إزاء مربع الموت إذا أضفنا عولمة الغرب وما تحمله من سيف تهمة الإرهاب في وجه الإنسان المقهور والمهدور. لكن ما يشغلنا الآن وبشكل أساسي هو مسلمة المتكلم المثالي عند تشومسكي الذي بإمكانه التصرف في اللغة على نحو توليدي لإنتاج جمل بشكل غير محدود ولا نهائي، ونحن نريد أن نستثمر هذه المسلمة للحديث عن المقهور والمهدور المثالي، ونعني بذلك المرأة كذات إنسانية تعيش قهرها وهدرها، كتمزقات وانشطارات وصراعات وتناقضات، من هنا مثاليتها كتعبير أفصح في فضح وتعرية حقيقة التلازم البنيوي بين بنية علاقات القهر والهدر والبنية البطركية. هذا التلازم البنيوي الذي يعيق التحرر الحقيقي للمجتمعات المتخلفة، حيث لا تستطيع شعارات الحرية والديمقراطية أن تؤثر وتفعل بشكل فعال وجذري لتحقيق التغيير بدون المرأة وارتقائها، أي الاعتراف بإنسانيتها قبل أي حديث شكلي إيديولوجي سياسي عن الحرية والديمقراطية، هذا الحديث المغلوط الذي يمتطي صهوته حتى المستمد العربي الاستبدادي العصبي الأصولي، كواجهة تجميلية وبمعان ومقاصد مفخخة، تهدف إلى التحكم الناعم والعنف والقمع الرمزي المرن لإعادة إنتاج نفسه كقهر وهدر بشكل سياسي جديد/ قديم أو مستحدث بلغة هشام شرابي. مما يؤدي إلى تكريس التخلف وهدر قيمة الإنسان، هذا القهر والهدر اللذان يجدان تعبيرهما الصارخ في المرأة كمقهور مثالي، ليس في قمة المكانة، بل في القعر والقاع، “حيث تموت نفسيا كي يستمد هو –مثلث الموت الأبوي في شخص الرجل – من هذا الموت وهم الحياة، تسحق كي يستمد هو من هذا الانسحاق وهم تحقيق الذات”. (12) فالرجل هنا يمارس تسلطه وقهره كتعبير بالنيابة عن النظام الأبوي السائد الذي يدمر أية  علاقة صحية وإنسانية بين الرجل والمرأة، على المستوى العاطفي والجنسي والاجتماعي، كهدر للعلاقات الزوجية وما يمكن أن ينجم عنها من تصدعات ومآسي تصيب قذائف نيرانها الجنونية والقاتلة حياتهما الوجودية والإنسانية، وتمتد حرائقها إلى الأبناء بشكل بشع إلى حد الجرائم الصامتة ضد الإنسانية، وهي اقرب ما يكون لمرض الايدز في تخريبه الصامت. “ولا يندر أن يحول الزوج إحباطا ته الحياتية في العمل والكسب والمكانة الاجتماعية إلى حياته الزوجية التي تتحول إلى ميدان للتشفي. وقد يذهب ابعد من ذلك فيسقط فشله الخارجي على الرباط الزوجي الذي يتخذ عندها طابع الغبن الوجودي مما يجعل عنفه مبررا. أما الزوجة فقد تكون الضحية المستسلمة لقدرها في حالة من العجز عن المجابهة”. (13)، ومن ثمة نرى أن ذلك النظام الأبوي كلا وعي ثقافي اجتماعي يتجاوز معنى الرجل كذكورة بيولوجية، بما يعني أن واقع القهر والهدر المتلازم مع البنية البطريركية لا يخدم الاعتراف بالإنسان رجلا كان أم امرأة في قيمتهما وكرامتهما واعتبارهما، وقد رأينا سابقا كيف أن مثلث الموت يستهدف الإنسان في وجوده وكيانه إلى درجة هدر دمه واستباحة قيمته واعتباره وكرامته، وهذا ما يتجلى بشكل واضح في وضعية المرأة، لأنها الأكثر غبنا وإجحافا وقهرا، كدليل على التخلف المغيب في الدراسات والأبحاث التي تناولت التخلف من زوايا اقتصادية، اجتماعية، سياسية وثقافية دون أن تستطيع توسيع منظورها لإدراك ما يعتمل في القاع المجتمعي والنفسي، كبنية تحتية تعيد إنتاج التخلف كنمط وجودي حياتي له دينامياته النفسية والعقلية والعلائقية التي تشتغل كقوة مادية فاعلة في تاريخ هذه المجتمعات بشكل نكوصي سلبي يعيق تحولها وتطورها وتغييرها. “إن البنية الفوقية النفسية التي تتلخص في خلق أنماط البشر، وأنماط من الوجود متميزة بطابع التسلط والرضوخ تشكل مصدرا هاما لمقاومة التغيير”. (14)، لذلك نرى ضرورة الانطلاق من الصامت والمقهور المثالي لفهم القانون التركيبي للمجتمعات المتخلفة، حيث يعيش الإنسان كارثة حقيقية ومأساة تلغي حقه الوجودي في العيش كانسان وليس كأداة أو عبء أو عقبة، إذ يتعرض من قبل مثلث الموت لمختلف الاختزالات الأسطورية المتنوعة التي تبرر الاعتداء عليه وسحقه. هكذا نفهم التخلف كهدر لقيمة الإنسان، “إنه الإنسان الذي فقدت إنسانيته قيمتها قدسيتها والاحترام الجديرة به. العالم المتخلف هو عالم فقدان الكرامة الإنسانية بمختلف صورها. العالم المتخلف هو الذي يتحول فيه الإنسان إلى شيء إلى أداة أو وسيلة إلى قيمة مبخسة”. (15) وهذا ما تجسده وضعية المرأة بصورة واضحة وصريحة، إلا أن ما يشوه الرؤية ويجعل الأمر يبدو على قدر كبير من الغموض والالتباس هو البنية البطريركية التي تجعل من قهر وهدر كيان المرأة كإنسانة أمرا طبيعيا، وكأنه قدرها الطبيعي المنسجم مع قوانين الحياة، هذا ما يجعل من التخلف القهري التسلطي الاستبدادي العصبي الأصولي بتضافر بنيوي مع البنية البطريركية عقبة في وجه التأسيس الفكري النقدي لواقع التخلف، كرغبة ووعي يسعى إلى تكوين معرفة ذاتية تسمح بتجاوز المسلمات والبديهيات التي قولبت ذهنية الإنسان، بشكل تحد من رؤيته وتحدد منظوره في تعامله مع الفكر والواقع السائدين، وهذا ما يعقد من مهام التغيير الحقيقية. “التخلف نفسيا هو فوق هذا وذاك من المحكات المادية… نمط من الوجود له خرافاته وأساطيره ومعاييره التي تحدد للإنسان موقعه، نظرته إلى نفسه، نظرته إلى الهدف من حياته، أسلوب انتمائه ونشاطه ضمن مختلف الجماعات، أسلوب علاقاته على تنوعها”. (16)  هكذا يتعرض الإنسان المقهور لنوع من الحصار والقمقمة تستهدف إنسانيته، من خلال تبخيسه وحشره في الزاوية الضيقة للمعيش اليومي وتصريف شؤون الحياة النباتية، حيث الشعور بالعجز والنقص والدونية. كما أن انحسار مجاله الحيوي يعوق انفتاحه العقلي وسلامة صحته النفسية ومرونته الذهنية المنطقية والنقدية، وهذا هو حال المرأة باعتبارها التعبير المثالي عن القهر والهدر البطريركي، فهي في اللاوعي الثقافي الجمعي وفي المخيال الاجتماعي كتمثلات وتصورات، كائنا منبوذا أو رجسا شيطاني يتطلب الحذر منه ومحاصرته كجسد وكيان إنساني، أي أنها تتعرض لعملية منظمة وممنهجة من التشريط الاجتماعي لاجتياف الدونية والنقص والعار والتبخيس الذاتي والقصور العقلي وانعدام التفكير المنهجي النقدي، في اغلب المواقف الحياتية الفكرية والعملية. فهي مدعوة دوما إلى تزوير تجربتها في الحياة والابتعاد عن الوجود الأصيل المنطلق من الذات كإرادة حرة واعية مستقلة، بناء على ما يمليه مركز الضبط الداخلي، حيث لا وصاية لأية مرجعية خارجية قهرية أبوية متلبسة قناع القداسة الدينية للتسلط البشري إبعادا لحق النقد والسؤال والشك والمحاسبة والمسؤولية. “إنسان العالم المتخلف منذ أن يولد يخرج إلى الحياة بشكل اعتباطي انه يولد كمصادفة أو عبء أو أداة لخدمة أغراض ورغبات أهله أو الآخرين. انه لا يولد  لذاته ولا يعيش حياته لذاته”. (17). هذا هو واقع المرأة في مجتمعاتنا، منذ ولادتها تعيش حياتها وفق مجموعة من الأدوار والوظائف التي يحددها التسلط البطريركي بنوع من الانشطار الانفعالي والتجاذب الوجداني بين كونها مقدسة ومدنسة، مع إحاطتها بالكثير من الأساطير الاختزالية التي تسهل وتبرر الاعتداء عليها، ليس كانسان وإنما كشر ينبغي القضاء عليه بالإخضاع والإهمال والتبخيس وبمختلف أشكال القمع. ونجدها أيضا تحمل الصورة المناقضة لكل ما سبق من نعوت وأوصاف وتصورات سيئة وتمييزية، فهي الدفء والحنان والرحمة والعاطفة والثدي المعطاء والحضن المنقذ من ثقل واكراهات المآزم النفسية والاجتماعية التي تنتجها بنية علاقات القهر والهدر الأبوية. “فالمرأة هي محط كل تناقضات وتجاذبات الإنسان المقهور في العالم المتخلف، وتحليل وضعيتها ومكانتها يكشف أكثر من أي شيء أخر خصائص الوجود المتخلف ومأزقيته، فعليها تصب كل التبخيسات وكل المبالغات في القيمة، وتجاهها تبرر كل التجاذبات بأفصح صورها. وضعية المرأة في مجتمع ما تلخص الصراعات الأساسية والمآزق الأساسية لهذا المجتمع”. (18) اعتقد بأنني لم أخطئ وأنا أفكر وضعية المرأة انطلاقا من مسلمة المتكلم المثالي/ الصامت والمقهور المثالي، فهي تمثل المدخل الرئيسي للحرية والتحرر المجتمعي والرؤية الشاملة للتغيير المجتمعي لبنية علاقات القهر والهدر، كبنية لعلاقات إنتاج تسلطية تعيد إنتاج نفسها من خلال البنية البطريركية المختبئة وراء التنزيل الديني للاستبداد البشري، بمعنى أن “التبخيس الذي يلحق بالمرأة في نظام التسلط والقهر الذي يحكم المجتمع المتخلف يتلاقى ويتكامل مع التبخيس اللاواعي الموجه إلى الأنوثة عند من يعاني من عقدة الخصاء ويتنكر لها”. (19) أو من زاوية أخرى يمكن القول بان القهر والهدر البطريركي يفرض على المقهورين حالات من الأنوثة، عن طريق الخنوع والخضوع اللذين يؤديان الى هلوسة وتضخم هوامي في الوصول الى تحقيق الرجولة والذكورة، من خلال التماهي بالمتسلط الأشبه بالعلاقة القهرية واللدنية بين الشيخ والمريد. “وهذا التطابق يتجلى خاصة في ما سميته التأرجح بين النوعين الأنثى والذكر بوصفهما تصورا اجتماعيا وثقافيا لخصائص بيولوجية. وقد بدا لي أن المرور الرمزي والحتمي من وضع مؤنث في مرحلة التكوين… بنية أساسية للتوفيق والفتح سواء في مجالات التحصيل الروحي أو في مجالات الكسب الدنيوي، بما في ذلك السياسة”. (20). هكذا تنتج المجتمعات المتخلفة رجالها من خلال استبطان عقدة الأنوثة كتهديد و امتحان عسير لإثبات الرجولة بخصاء ذهني نفسي معرفي اجتماعي، إنها عذابات مرهقة ومكلفة نفسيا واجتماعيا وثقافيا وإنسانيا. مثلث الموت يحكم قبضته على طقوس العبور الوهمية، وتكون النتيجة خراب الإنسان من الداخل وفقدان لإنسانيته ولمتعة الحياة. “فمن خلال إظهار المواقف التي تماثله بالمرأة في مرحلة أولى يولد الشيخ الجديد الذي يتحول فيما بعد إلى زعيم رجولي مطلق بعد أن يتحرر مما يربطه بملقنيه”. (21) من هذا التكامل بين التلازم البنيوي بين بنية علاقات القهر والهدر والبنية البطريركية ذات الجبة الدينية تتم عملية التبخيس والتحقير للمرأة، فتقوم هي الأخرى تحت ضغط التسلط الأبوي باستبطان الدونية والقصور إلى درجة ازدراء الذات بفعل ضغط مشاعر الذنب والإثم الدينية، فتنكفئ على نفسها في نوع من الحرب الداخلية في حق الذات بجلدها ووصفها بأبشع النعوت السيئة. “يصيب المرأة والأتباع في عملية التحقير هذه النصيب الأوفر، تصب عليها كل مشاعر العار والضعف والعجز والرضوخ. العار غير المحتمل نظرا لما يولد من ألام وما يفجره من قلق حول انهيار قيمة الذات لابد له من أن يفرغ بصبه على الخارج على العناصر الأضعف والأقل حظا. وهكذا تسفل المرأة من خلال ادوار الرضوخ التي تفرض عليها، تحول إلى أداة للمصاهرة والإنجاب، إلى خادمة، إلى المعبرة عن المأساة، إلى الإنسان العاجز، القاصر، الجاهل الغبي الذي يحتاج إلى وصي”. (22). غالبا ما لا ينتبه إنسان المجتمعات المتخلفة إلى وضعية المرأة باعتبارها التعبير الأفصح والأمثل عن المأساة الإنسانية التي يعيشها ويعاني ويلاتها، بفعل الهيمنة القهرية للبنية البطريركية على وعيه كلاوعي ثقافي اجتماعي تطاول مع الزمن، وهو يشكل أسسه من الرصيد الديني والموروث الثقافي المؤسس على التنزيل الديني للوضع البشري، بمعنى التسييج الإلهي للممارسات السياسية والاجتماعية، لقهر الخصوم وتبرير الإخضاع والتسلط كمظاهر طبيعية معطاة. وهذا الجهل لمعرفة الذات يعقد ويصعب مهام التغيير، بل يشوه الرؤية والأبعاد والآفاق، مما يحول دون إنتاج معرفة نقدية بالواقع.  وواقع المرأة في مجتمعات القهر هو المدخل الأساسي لتقويض الترابط والتلازم البنيوي بين بنية علاقات القهر والهدر والبنية البطريركية، أي أننا نفكر في التغيير من خلال الحلقة الأضعف في منطق تطور مجتمعاتنا، باعتبار تلك الحلقة هي التعبير الأفصح عن الإنسان المقهور المثالي، حيث تتكثف التناقضات والصراعات الأساسية والمآزق الرئيسية. “معايير التخلف ومستواه يبرزان من خلال بحث حالة وحجم اقل فئات الناس حظا في المجتمع الواحد، واقل المجتمعات حظا على المستوى الكوني”. (23)، فالمرأة هي اقل فئات الناس حظا في مجتمعات القهر، حيث لا مكانة لها في عالم التسلط والقمع المادي والرمزي، لذلك ترزح تحت عبء وضعية الرضوخ والتبعية وما يولدانه من دونية وتبخيس لذاتها كأمر تراه طبيعي بحكم استلابها، أو كقدر مفروض يحولها إلى مجرد شيء يمكن استغلالها أو الاستغناء عنها في أية لحظة، إنها مهددة في إنسانيتها ووجودها وقيمتها وكرامتها. “إن عالم التخلف هو عالم التسلط و اللاديمقراطية يختل فيه التوازن بين السيد والإنسان المقهور. ويصل هذا الاختلال حدا تتحول معه العلاقة إلى فقدان الإنسان لإنسانيته وانعدام الاعتراف بها وبقيمتها. تنعدم علاقة التكافؤ لتقوم مكانها علاقة التشيؤ… لا اعتراف إلا ب أنا – السيد، لا حياة إلا له، لا حق إلا حقه. مما يجعل كل تصرف، كل نزوة، كل استغلال وتسلط مبررا كجزء من قانون الطبيعة”. (24) هذا الفقدان للاعتراف والقيمة والحياة هو ما تعيشه المرأة بشكل مزدوج مركب، من خلال تسلط العلاقات القهرية والهدرية الاستبدادية العصبية والأصولية، ومن خلال المرجعية الخارجية للبنية البطريركية، الشيء الذي يحولها الى مجرد كائن لا بشري تعيش انحطاطها وشقاءها وتبعيتها التي تفرض عليها السلوك الاتكالي والخنوع والمسكنة والصد المعرفي في فهم الواقع نتيجة الخصاء الذهني والعقلي، إلى حد الاضمحلال إزاء قوى القهر والهدر الأبوية. “هذا بدوره يؤكد في ذهن المتسلط أسطورة تفوقه وخرافة غباء وعدم آدمية الإنسان المستضعف”. (25)، إننا في واقع حيث العلاقات الاجتماعية تتميز بأنها عمودية، حيث الفوقية/ التبعية تؤسس لها لغة إيمانية بيانية، بفكر يقيني مشبع بالحقائق النهائية لمطلق يتلبسه الفعل البشري كأقنعة دينية لتبرير السطوة والهيمنة والأمر الواقع. فلا نجد إلا الأحادية في الفعل والتفكير، وفي العلاقات الاجتماعية، وفي الرؤية للذات والعالم والآخرين، انه استغلال سياسي وثقافي  لخلفية التوحيد الديني، المناقض للتعدد والاختلاف كشرك وكفر، فالجواب الواحد الصحيح جاهز ولا متسع للتفاعل والحوار والتواصل العقلاني والأخذ والرد والرأي والرأي الآخر، انه الحضور الكامل لثقافة السمع والطاعة بالياتها العمودية التي تعتمد التلقين والحفظ والسماع، كأسلوب وحيد وواحد لممارسة ليس فقط التعلم بل غرس و ترسيخ “العجز المتعلم”، إنه عالم يختزل في عمامة الفقيه، حيث ندرة المخطوط وسيطرة السماع والرواية والاستظهار. “تتسم علاقة الرئيس بالمرؤوس بهذا النمط التسلطي الرضوخي كما تتسم به علاقة الرجل بالمرأة والكبير بالصغير والقوي بالضعيف والمعلم بالتلميذ والموظف ورجل الشرطة بالمواطن”. (26)، والأخطر في كل هذا الظلم والغبن هو ما يصيب المرأة، لأنها كما قلنا سابقا الحلقة الأضعف في علاقات القهر والهدر البطريركية، لكنها أيضا المدخل الأساسي لتحرير المجتمع ككل من التضليل والمسخ والتشويه الذي طال معرفة الذات وحال دون إنتاج معرفة نقدية بالواقع قصد التغيير. فالرجل كضحية للنظام الأبوي يسقط من حيث لا يدري في فخ خوض معركة فاشلة، وهي ليست أصلا بمعركته لأنها مدبرة بشكل مدروس وممنهج من طرف بنيات هي اقرب إلى البنيات التحتية المادية، نقصد بنيات القهر والهدر البطريركي، وتحت سطوة هذا الوعي التسلطي البطريركي يعيش فقدان حريته وكرامته وقيمته أمام عاره بإسقاطه بوعي زائف على المرأة ” العورة أي موطن الضعف والعيب، بسبب هذا الإسقاط يربط شرفه كله وكرامته كلها بأمر جنسي ليس له أي مبرر من الناحية البيولوجية المحض”. (27) وبهذا الوعي الخاطئ والسلوك والمواقف والأفكار والتصورات الناتجة عنه يقع الرجل ضحية البنيات السابقة التي تختزل كرامته وشرفه واعتباره في وهم تفوقه الذكوري، قوة وعقلا وقدرة على الانفراد بالوظائف الاجتماعية التي تمنحه تفوقه السياسي، كأساس لبناء السلطة السياسية الاستبدادية والعصبية والأصولية البطركية. “و في أساس هذا الحصار والقمقمة هناك قضية تتجاوز الحرية والديمقراطية في طروحاتها المعهودة. إننا بصد شرط سابق عليهما يتمثل في الاعتراف بإنسانية الإنسان وكيانه وحرمته وحصانته وقيمته الأولية غير المشروطة. قبل البحث في الحرية والديمقراطية لا بد إذا من طرح قضية الاعتراف بالإنسان وكيانه وإلا تحول الأمر إلى شعارات وسجالات لا طائل من ورائها”. (28)

الهوامش

  • المرجع نفسه ص 204
  • مصطفى حجازي، الصحة النفسية ص 158
  • مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي ص 32
  • المرجع نفسه- ص 33
  • المرجع نفسه- ص 32و33
  • المرجع نفسه- ص 33
  • المرجع نفسه- ص 99
  • المرجع نفسه- ص86
  • عبد الله حمودي، الشيخ والمريد، ترجمة عبد المجيد جحفة- دار توبقال، ط2س2000- ص12
  • المرجع نفسه ص28
  • مصطفى حجازي، التخلف الاجتماعي. ص 42
  • المرجع نفسه- ص 35
  • المرجع نفسه- ص 39
  • المرجع نفسه- ص 40
  • المرجع نفسه- ص 40
  • المرجع نفسه- ص 47
  • مصطفى حجازي، الإنسان المهدور- ص 26
Visited 7 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

لحسن أوزين

كاتب مغربي