كيف تتفنن أمريكا في استحلاب الدول المغاربية؟؟

كيف تتفنن أمريكا في استحلاب الدول المغاربية؟؟

عبد السلام بنعيسي

تأزمت العلاقات المغربية الفرنسية إلى مستوى عالٍ جدا، تقاريرُ إعلامية مغربية كشفت عن إعلان انسحاب عدد مهم من الشركات الفرنسية الكبرى من السوق المغربية منذ بداية العام، وتوقفت الزيارات الرسمية بين البلدين، وتصاعَدَ التأزُّمُ، مع الاستمرار في رفض تقديم التأشيرات الفرنسية لطالبيها من المغاربة، وكبُرَ التأزم بعد ضبط شحنة كتب مدرسية أدخلتها البعثة الثقافية الفرنسية الى المغرب، في الدخول المدرسي، وهي تحتوي خرائط تفصل الصحراء عن باقي المغرب، وبلغ التأزم في العلاقات ذروته، عقب استقبال قيادات من جبهة البوليساريو في البرلمان الفرنسي. وتتويجا لما سبق، تَمَّ سحبُ السفيرين، الفرنسية والمغربي، من مقري عملهما، الأولى من الرباط، والثاني من باريس…

الاقتحام الأمريكي للأقاليم الصحراوية المغربية، بعد اعتراف واشنطن بمغربية الصحراء، أمرٌ لم تحتمله باريس، فبالنسبة للفرنسيين كانت منطقة المغرب العربي بمثابة حديقتهم الخلفية، ويتعين أن تظل حكرا عليهم، في إطار سياسة توزيع مناطق النفوذ بين القوى الكبرى في العالم. باقتحام الولايات المتحدة الأمريكية الأقاليم الصحراوية دون التشاور، أو ربما حتى دون علم، فرنسا، فإن أمريكا، في نظر فرنسا، اقتحمت المغرب لتزيح الفرنسيين عنه، وتجعله تحت نفوذها. وبدل أن ينصبَّ الاعتراضُ والاحتجاج على الإدارة الأمريكية، فإن باريس اختارت التصويب على المغرب، وممارسة كل أشكال الضغوط عليه، لثنيه على المضي قدما في هذا الخيار الذي سلكه في علاقاته بأمريكا…

وكما اكتشف المغرب أنه أخطأ في تعويله على فرنسا لمساعدته على طيِّ ملف أقاليمه الصحراوية، فإنه يخطئ خطأَ مضاعفا إذا كان يراهن على الولايات المتحدة الأمريكية لمساعدته على حسم ملف الأقاليم المذكورة، والبث النهائي في كونها مغربية. واشنطن تريد أن تمسك العصا من الوسط بين الجزائر والرباط، إنها تُلوِّحُ للمغرب بأنها تعترف بسيادته على صحرائه الغربية، ولكنها لا تتخذ في الواقع الإجراءات والتدابير التي تُكرّسُ بها، أمريكيا، مغربية الصحراء، وتدفع المنتظم الدولي في تجاه الإقرار بذلك وطي هذا الملف بشكلٍ نهائي في مجلس الأمن وفي هيئة الأمم المتحدة لكي تصبح الصحراء مغربية، وفقا للقانون الدولي المعمول به حاليا.

 فحتى بنود الاتفاق الثلاثي بين أمريكا والكيان الصهيوني من جهة، والمغرب من جهة أخرى، والتي قبلت بموجبها الرباط تطبيع علاقاتها بتل أبيب، لم تتقيد بها واشنطن، ولا تزال تتعامل معها بانتقائية. فالمغرب لا يزال ينتظر فتح قنصلية أمريكية له في الداخلة منذ دجنبر 2020 تاريخ التوقيع على الاتفاقية الثلاثية إلى يومنا هذا، من غير أن ترى القنصلية الموعودة النور في الداخلة، والمحير هو أن الكونغريس الأمريكي رفض لوزارة الخارجية الأمريكية، في مناقشة قانون التصديق على ميزانيتها، تمويل فتح قنصلية أمريكية، سواء في الداخلة، أو العيون، أو أي منطقة من الأقاليم الصحراوية، كما أن الكونغريس يربط بيع أسلحة للمغرب بإحراز تقدُّم في المفاوضات لإحلال السلام في المنطقة، الأمر الذي يُجبر المغرب على اعتماد الكيان الصهيوني مصدرا رئيسيا لاقتناء الأسلحة، ويتعمق بذلك مسار التطبيع ويتجذر…

بسياستها هذه، واضح أن الإدارة الأمريكية لا تريد أن تخسر الجزائر لأنها شريكُها الاقتصادي الأول في منطقة المغرب العربي، المغرب صار الآن تحت إبطها، فمن الأفضل لها العمل من أجل كسب الجزائر أيضا إلى صفها، وأن تعمل من أجل أن تصبح موالية لها، خصوصا بسبب الحاجة إلى ثروتها النفطية والغازية، وموقعها الجغرافي، وخيرُ وسيلة لإدراك هذا المبتغى، هي في عدم مساعدة المغرب للحسم في مغربية الصحراء. إذا انحازت أمريكا كليا إلى المغرب، وساعدته على طي ملف أقاليمه الصحراوية، فإنها قد تقطع صلة الوصل مع الجزائر، وقد تخسرها، وواشنطن في حاجة للدولتين معا، إنها تفضل أن تكون الجزائر والمغرب إلى جانبها، لكي تجعل منهما معبرا لبسط نفوذها على أجزاء واسعة من القارة الإفريقية، وذلك في سياق التنافس المحتدم حاليا بينها، وبين روسيا والصين حول القارة السمراء بثرواتها الغنية.

تمتلك واشنطن الوسائل لتتكيَّفَ في سياستها في المنطقة المغاربية مع كل الخيارات المطروحة، فإذا تعذر عليها ضمُّ المغرب والجزائر إلى جانبها دفعة واحدة، فإنها لن تمانع في أن يستمر الصراع، على ما هو عليه، قائما بينهما، وأن تديره على راحتها، فبقدر ما يظل مشكل الصحراء موجودا، تظل الحاجة المغربية والجزائرية إلى أمريكا كبيرة وقوية، وتظل القدرة على ممارسة الضغط والإكراه على الدولتين معا في متناول واشنطن، وتتمكن من تعطيل طاقات منطقة المغرب العربي، وإشغالها بنفسها، ومنعها من تحقيق تكاملها، وتقاربها مع محيطها العربي، وإسهامها في حل مشاكله وأزماته، ومن ضمنها قضية العرب الأولى التي هي القضية الفلسطينية، وسيدفع هذا الانسداد في العلاقات بين الدولتين المغاربيتين إلى هدر طاقتهما وأموالهما في شراء الأسلحة من الشرق ومن الغرب، وفي مقدمته أمريكا.

لقد حكمت واشنطن العالم بنظام القطبية الأحادية لمدة تفوق العشرين عاما، أي منذ 1990 عقب سقوط جدار برلين إلى سنة 2011، حيث استعملت موسكو وبكين حق النقض لقرارٍ في مجلس الأمن للتدخل في سوريا، ففي هذه العشرين سنة المديدة كلها، كانت الإدارة الأمريكية تصول وتجول، وتفعل في العالم ما تشاءُ لها أهواؤها، ولم تكن أي جهة قادرة على صدِّها أو رفض أي أمرٍ من أوامرها، فلماذا لم تبادر الإدارات المتعاقبة في البيت الأبيض إلى اتخاذ قرارات تفصِلُ في قضية الأقاليم الصحراوية، وتؤكد على أنها مغربية، وتنهي المشكل وقتها؟ ما الذي منعها في فترة القطبية الأحادية من مساعدة المغرب على طي هذا الملف وإنهائه، في مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة، ليتفرغ لبناء اقتصاده، وتحقيق تنميته؟ أكيد أن لا أحد كان بوسعه منع أمريكا من ذلك، فلقد كانت تُطبقُ خيارَها الذي هو ترك مشكل الصحراء دون حلٍّ يُرضي المغرب، ويشفيه من صداعه، لأن مصلحتها في المنطقة تكمن في هذا الخيار.

 ومع ذلك فإن الخطاب الرسمي المغربي لا يزال يفاخر بكون المغرب يحظى بمكانة خاصة لدى صانع القرار السياسي الأمريكي، ويتباهى هذا الخطاب بأن الدولة المغربية كانت هي السباقة والأولى في العالم التي اعترفت سنة 1777م بسيادة واستقلال أمريكا، لكن أمريكا القوة العظمى التي تمتلك طاقات هائلة لحلِّ مشكل الصحراء حلا جذريا، تتحاشى استعمال أي من طاقتها لفرض الحل المنشود من جانب الرباط. فهل فعلا تخصُّ أمريكا المغرب بتقدير استثنائي ومتميز عن غيرها من باقي الدول، كما يقول الرسميون المغاربة؟

 إذا كان الجواب نعم، فلماذا لا تضغط واشنطن على الدول الإفريقية والأمريكية اللاتينية التي تعترف بالبوليساريو لسحب اعترافها بها؟ ولماذا لا تُصنّف الإدارة الأمريكية البوليساريو منظمة إرهابية، وتفرض عقوبات على قيادتها، وعلى كل الذين يأوونها ويستقبلونها؟ أمريكا التي تجعل من الكيان الصهيوني قوة عسكرية متفوقة على العالم العربي مجتمعا، لماذا لا تمدُّ المغرب بما يكفي من الأسلحة الحديثة والمتطورة والتي تضمن له تفوقه العسكري على خصوم وحدته الترابية، بما يجعلهم يقبلون التفاوض معه لطي هذا المشكل؟

لا يعود عدم لجوء أمريكا لخيارات من هذا الصنف إلى افتقارها إلى المسوغات القانونية التي تعتمدها في هذا الشأن، أسهل شيء بالنسبة لواشنطن هو اختلاق المسوغات لفرض العقوبات، بل إن عقوباتها باتت حاليا تتناسل بالجملة ضد الأفراد، والجماعات، والدول، حتى أن مسوغات تلك العقوبات صارت مضحكة. موقف أمريكا الحالي في قضية الصحراء، خيارٌ تَستَقِرُّ فيه لأنه يُناسبها، فبسببه ابتزت المغرب، وأخذت منه قسرا التطبيع مع الكيان الصهيوني، ولم تقدم له، عمليا، أي مقابل مجزٍ، وها هي تناور، بحثا عن مزيد من الاستحلاب والابتزاز لدول المنطقة المغاربية، بمشكل الأقاليم الصحراوية.

 والغريب هو أن الإعلام المغاربي، كل واحدٍ من جهة الدولة التي تصدره، يحاول التسويق لرأيه العام الوطني أن أمريكا صديقة وحليفة لدولته، وأنها تفضلها عن باقي الدول، وتحبذ التقرب منها دون غيرها، في حين أن الحقيقة المرة هي أن الإدارة الأمريكية تتلاعب بكل الدول المغاربية، وتتركها تنهش بعضها البعض في مشاكلها البينية، بهدف استمرار تأمين مصالح أمريكا الخاصة بها، على حساب شعوب هذه المنطقة، المنكوبة بطبقتها الحاكمة، الفاسدة والمستبدة…

Visited 27 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة