لماذا انتصر جورج طرابيشي للاستبداد؟ (2/2)
لحسن أوزين
بعد أن ينتهي القارئ من قراءة الصفحات التي يخصصها الناقد طرابيشي لمقالة الجابري، “ابن خلدون في الدولة العربية”، يعي بأن الغائب الأكبر في الالية المنهجية لجدول الحضور والغياب التي اتكأ عليه الأستاذ طرابيشي كبعد إجرائي في مناقشته لمقالة الجابري هو السؤال النقدي القادر على النقد والتفكيك والتفنيد والتكذيب العلمي بعيدا عن التكذيب الأخلاقي باعتبار الجابري لا يقول شيئا أو انه صاحب “إشكاليات زائفة او مبنية على مادة معرفية كاذبة”.1 لكن حرقة التلقي التي يبلورها تفاعل قراءتي المتمايزة، لنص طرابيشي، عن مقاربة جمالية التلقي في بعدها النقدي، هي هنا في اطار قراءة مشروع نقد النقد يمكنني وصفها بأنها حرقة أسئلة التلقي التي لا تقبل، خاصة من ممارس نقد النقد، بهذا التحليل النقدي المبتسر لمقالة الجابري، دون أن يأخذ طرابيشي بجدية كل الأسئلة التي تثيرها مقالة الجابري التي تتطلب من الممارس لنقد النقد الجمع بين رؤية الناقد المفكر وعقلية المؤرخ، حتى يتمكن بالفعل من أخذ جميع المعطيات بعين الاعتبار: المعرفية، الفكرية والتاريخية بكل مستوياتها المتعددة، السياسية والاجتماعية والثقافية والأنتربولوجية…
لأن مناقشة إشكالية الجابري “العقل والعقلية” انطلاقا من مقالة “نظرية ابن خلدون في الدولة العربية” ليست بالأمر الهين، ففي المقالة اختلافا لغويا ودلاليا، و نصوصا وخطابات متشابكة، وليست شفافة ولا بريئة، فهي مثقلة بأعباء تطور سيرورة الفكر السياسي في جدله مع الواقع التاريخي المجتمعي، في تعقد صراعاته السياسية والاجتماعية والثقافية، سواء في الواقع التاريخي الاجتماعي اليوناني أو العربي، وهذا ما يتطلب نوعا من الالمام الواسع الذي يمكن ان يتحقق في الجمع بين رؤية المفكر وعقلية المؤرخ. لذلك فإن قارئا بسيطا مثلي لكتب قليلة حول تاريخ الفكر السياسي العربي والإسلامي، خاصة لما يسمى الآداب السلطانية، إلى جانب الاطلاع على دراسات حول الواقع التاريخي للعصور الوسطى، خاصة عصر ابن خلدون بمعناه المتضمن في المدة الطويلة للتاريخ عند بروديل، وبالإضافة الى هذا كله ان يكون القارئ قد قرأ الكتاب المتميز “حفريات في الخطاب الخلدوني” لناجية الوريمي بوعجيلة. في هذه الحالة لا يمكن للقارئ أن يقبل بهذا الانتصار لابن خلدون من طرف طرابيشي في لغته وخطابه وفي المعاني المعرفية والاجتماعية التي ينتجها فكره، فهو نموذج للعنف والقهر والتسلط والاستبداد والسلفية الماضوية المتخلفة المنتجة لمقاربة بشاعة الموت، وسفك الدم في معاودة انتاج العمران البدوي، إلى درجة يمكنني القول إن شيئا ما من عمق سخرية ما اعتبر “روعة” الفكر الخلدوني متورط اليوم في دماء الأبرياء، انطلاقا من ضرورة شرعية القدرة على التسلط والقهر في إطار ما يسميه الحق الديني في القهر والتغلب على الرعية حيث “جاء خطابه مبنيا على جملة من الارتباطات الشرطية بين السلطة والاستبداد. نورد منها النماذج التالية “إن الرياسة لا تكون إلا بالغلب والغلب انما يكون بالعصبية، المالك غالب لمن تحت يده ذلك أن الملك إنما يحصل بالتغلب والتغلب إنما يكون بالعصبية واتفاق الاهواء على المطالبة، والسبب في ذلك أن الملك إنما يكون بالعصبية، ان الغلب الذي يكون به الملك انما هو العصبية وبما يتبعها من شدة البأس وتعود الافتراس”، “واحتاج البشر من أجل ذلك إلى الوازع وهو الحاكم عليهم وهو بمقتضى الطبيعة البشرية الملك القاهر المتحكم “.2 كما ينسب للملة الإسلامية التكليف الإلهي بالحق في القهر والتغلب تجاه الأمم الأخرى التي “لم تكن دعوتهم عامة ولا الجهاد عندهم مشروعا الا في المدافعة فقط فصار القائم بأمر الدين فيها لا يعنيه شيء من سياسة الملك وانما وقع الملك لمن وقع منهم بالعرض ولأمر غير ديني وهو ما اقتضته لهم العصبية لما فيها من الطلب للملك بالطبع لما قدمناه لانهم غير مكلفين بالتغلب على الأمم كما في الملة الإسلامية”.3 واذا حاولنا ان ننظر الى السجلات اللغوية والثقافية التي تشكل الفكر الخلدوني نجدها غارقة في شهوة القهر والعنف والتسلط والاستبداد.
فالملك لغة يعني ارقى اشكال العنف والتسلط فهو نقيض للعبودية. وهذا ما يبينه اللسان ” الملك اذن مرادف للتحكم العنيف في الناس والممتلكات تملك تنطبق على الناس الذين استعبدوا بالقوة”. 4 ولا ننسى أيضا ان الجذر اللغوي للفعل ملك يملك أي حاز ملكية يشير الى القوة والبأس.5 وفي هذا السياق اللغوي والدلالي نفهم عمق المعاني التي ينتجها الفكر الخلدوني في وحدته اللغوية وبنيته الدلالية فهو عندما يقول “غالب لمن تحت يده” فهو يقصد القهر والتملك أي وضع اليد على الناس والممتلكات “ذلك ان اليد أي القوة قد لعبت دورا مركزيا في تكوين الملكية. فعبارة “في يدي” تعني أيضا في ملكيتي. وبناء عليه فان امتلاك شيء ما معناه اخذه بالقوة… ان اليد الضرورية لمراكمة الممتلكات ضرورية اكثر في مراقبة الناس والتحكم فيهم… اليد هي السلاح الفتاك للاسترقاق والهيمنة. ومهما تكن مواصفات العبد فان اليد له بالمرصاد سواء كانت ظاهرة ام خفية”.6 نحن لا نشاطر الجابري في قوله بالفطرة ولا بمفهوم العقلية والذهنية العربية واليونانية الطبيعية الجاهزة بقدر ما ننتبه الى تبرير طرابيشي للعنف والاستبداد الذي يستوطن اللغة والفكر والثقافة العربية الإسلامية انطلاقا من ذلك التفاعل التكويني المتبادل بين تأليه البشري كنوع من الصمد الواحد الأحد في امتلاك الناس أو حرق البلد وتسييس المتعالي بنوع من الأحادية المطلقة في قتل التنوع والتعدد والاختلاف. ولعل هذا يتضح من نصوص الآداب السلطانية التي يعتبر النص الخلدوني احد اشكال تجليات تناصها. “إن قراءة متأنية لمتون الآداب السلطانية: تكريس تصورات معينة للسلطة وإبراز حتمية القهر كخاصية ضرورية لكل سلطة في التاريخ ولزوم الولاء والطاعة والصبر وهي أخلاق العامة المطابقة لإرادة التاريخ ومقتضيات الزمن حيث لابد من السلطان القاهر العادل القوي والمنصف”.7 من هذه الخلفية المعرفية الدينية والسياسية لتراث الفكر السياسي الذي اسسته متون الآداب السياسية الاستبدادية يؤسس ابن خلدون لعنف الخطاب السياسي لغة ودلالة ورؤية، حيث لا سلطة بدون قهر انسجاما كما يرى مع حكمة الله في أرضه “والخطير إنه يحول منطق السلطة للأقوى من سياقه التاريخي البشري المشروط بمعطيات معينة الى سياق شرعي هو تطابقه مع إرادة الله. فبعد ان شكل بنية استدلالية فقهية مدارها الغلبة للأقوى يختم بان ” الامر الوجودي” مطابق ” للأمر الشرعي” ولا خلاف بينهما في هذا المعنى”. 8 وهذه المماثلة هي نابعة من مماثلة مؤسسة لها وهي المماثلة بين الاله والحاكم، ولذلك لا نستغرب ان يكون الفكر السياسي العربي والإسلامي القديم منه والحديث قائما على التغلب والعنف، وتمجيد القوة والاعلاء من قيمة الطاعة والصبر بواقع العبودية. ومن السجلات اللغوية والدلالية والثقافية والتاريخية لهذه المماثلة الذي اسسته تجربة الحكم الإسلامي، الى جانب الدور الفعال الذي قامت به الاداب السياسية والثقافة السياسية الفقهية، ينسج ابن خلدون قيمه المعنوية المعرفية والدلالية والاجتماعية الثقافية المنتجة للعنف السياسي القهري داخل المجتمع وفي العلاقة مع الاخر المختلف.
فما الذي يمكن قوله عن صاحب المقدمة الذي يرى الملك بمعنى القوة والقهر ضرورة دينية أي واجبا شرعيا يعبر عن الحكمة الإلهية لاستقامة العمران ولا دخل للمحكومين في هذا التقدير والاختيار الرباني سواء في منح الملك أو نزعه فقوة السلطة أو هرمها من اختصاص المشيئة الإلهية؟ “الملك عنده خير ساقه الله الى اهل العصبية مناسب لعصبيتهم فلا حضور للمحكومين في افق تفكيره السياسي الا من حيث هم مادة الملك وتحت “أيدي” أصحاب السلطة”.9 وهذه أفكار أخذها عن الغزالي في اعتبار السلطة خير خص به الله البعض دون الاخرين، وهو في ذلك يسعى شأنه شأن الاداب السياسية الى تأصيل نوع من الفكر والتفكير في الشأن السياسي المجتمعي انطلاقا من أرضية دينية سياسية تخفي السياسي من خلال التلازم البنيوي بين القهر والطاعة. ” لا يشكل الاعتراف بالقهر وتعيينه والاعلان عنه أي اشكال نظري في متون الاداب مثله في ذلك مثل الإقرار بلزوم الطاعة والانقياد…وهي نصوص تبحث للسياسة الفعلية المتحققة في التاريخ عن سند وحجة تحولها الى امر واقع مبرر ومقبول، ومستند الى حكمة التاريخ وعبرة الزمان كما بلورتها الدولة القهرية أينما وجدت في التاريخ”.10
بناء على ما اشرنا اليه سابقا من كون الفكر الخلدوني يشكل امتدادا للآداب السياسية في تكريس أصول القهر والتسلط ، كما يبلور خطابا في تشريع الاستبداد والعنف السياسي في وحدته اللغوية والدلالية، وفي قيمه الثقافية والسياسية والاجتماعية، نتساءل هل هناك مبرر تأويلي نقدي لما يطرحه طرابيشي حول ابن خلدون” حتى لوصرفنا النظر عن مدى تمثيلية العبارات المجرمة للخطاب الخلدوني نجد ان التزوير قد طال دلالتها والسياق الذي وردت فيه. فصحيح ان ابن خلدون يعقد فصلا تحت عنوان ” في ان من طبيعة الملك الانفراد بالمجد” يتحدث فيه عن ميل الحاكم الى الاستئثار بالسلطة وعن استبداد صاحب الدولة بقومه مما يقتضيه “جدع انوف العصبيات” و “فلح شكائمهم” و”قرع عصبيتهم” ولكن صاحب المقدمة يقرر هذه الحقيقة بعين الملاحظ الموضوعي الذي يهمه ان يرى وان يري كيف تسير الأمور فعلا “بمقتضى طبائع العمران” لا بمقتضى أحكام الشرع او مبادئ السياسة المدنية المثالية. ولوكان لهذا الملاحظ الموضوعي ان يتعدى حكم الواقع الى حكم القيمة ليبدي رأيا شخصيا لكان اميل الى النقد منه الى التبرير.”11 للأسف فإن الناقد طرابيشي هو الذي كان اميل الى التبرير منه الى النقد. فابن خلدون لم يكن معنيا بمبادئ السياسة المدنية المثالية ولا بمعجم”الترف والحضارة والسكون والدعة ورقة الحاشية”، ولم يكن أيضا معنيا بالظلم الاجتماعي و السياسي والفكري والعقائدي، و لا بالعدل، بقدر ما كان يؤسس لنموذجه المثالي في العمران البدوي الذي يجمع بين السياسة والدين متمثلا في دولة الخلافة كمتخيل ماضوي عادل في القهر والظلم والتغلب والبأس والافتراس. وفي انزال الناس في مراتبهم وذلك تحصينا وحماية للدولة القهرية من الانحلال والسقوط، أي انه يفكر العدل والظلم من زاوية ضمان استمرار السلطة وليس بدافع الحضارة والمدنية والعدل. وفي هذا التغييب للمحكومين يشرعن الظلم باسم التغلب والقهر والجاه. خاصة وان اغلب النخب التي كتبت التاريخ الرسمي للسلطة وهو تاريخ الحروب و الحاكم والبطولات الفردية تنظر الى المحكومين نظرة احتقار لكونهم موطن الشر والهدم والفوضى. هذه هي الثقافة السياسية التي اسستها الآداب السياسية وعلى هديها كتب ابن خلدون، حيث كل همهم جميعا “تعليل مبدأ لزوم السلطة فالإنسان طبع على عدم الانصاف كما جبل على التقاتل والتنافر والطغيان”12 لذلك فالرعية هي في أمس الحاجة الى الحاكم الموجود فوق المراتب حتى ينزل الناس في منازلهم وهذا التعبير ” ينزل الناس في منازلهم او مراتبهم” ليس تعبيرا شكليا بل هو بمثابة مفهوم سياسي اجتماعي يفكر علاقة السلطة في المجتمع الى جانب مفاهيم أخرى كالتصرف فيما تحت أيدي الحاكم” و “الجاه” و”العدل” و “الظلم”… لذلك قلنا بان مقالة الجابري متشابكة ومعقدة في لغتها ودلالاتها وخطاباتها بين ما يطرحه الجابري ويسعى الى تأسيس وجهة نظر حوله، وبين ما يطرحه ابن خلدون في نصوصه التي استشهد بها الجابري وهي نصوص موزعة بين ما هو حاضر في لغة المقالة وما هو مغيب بين السطور من فكر ضمني لصاحب المقدمة، الى جانب السؤال الذي لا يمكن اغفاله حول الفكر الضمني للجابري المؤسس والمؤطر والموجه لنظر استراتيجية الكتابة في مقالته. بمعنى انه في غياب دراسة ابستمولوجية تاريخية للفكر الخلدوني كالتي مثلا انجزتها ناجية الوريمي غابت الأسس العلمية للأسئلة الحقيقية التي كان من الممكن ان يطرحها الجابري، وكان من الممكن لنقد النقد ان يتدارك الموقف عند طرابيشي و يجعل مقالة الجابري اكثر جذرية في اسئلتها معرفيا وسياسيا وتاريخيا واكثر وضوحا وعمقا. فمثلا الحديث عن العدل عند ابن خلدون او في الآداب السياسية بعيد كل البعد عن معناه الحقيقي في علاقة الحاكم بالمحكومين. انه عدل بين القاهر والعبد او بين المستبد والرعية من زاوية ضمان تأبيد السلطة وديمومة القهر من خلال ” حسن استغلال الرعية” أي حسن الجباية، وهذا ما بينته ناجية الوريمة في كتابها حفريات في الخطاب الخلدوني” ومصدر الجباية هو الرعية العاملة. وهنا يصور باستمرار وضعيتين الاولى يعتدل فيها صاحب السلطة في جبايته فيترك للرعية متنفسا للعيش ومواصلة الإنتاج أي يحافظ على تدفق الأموال عليه من الرعية وفي هذا تكمن مصلحته وهذا ما يجتهد في الدعوة اليه. والوضعية الثانية يبالغ فيها صاحب السلطة في الجباية فتتقاعس الرعية عن الإنتاج وتختل دورة الإنتاج والجباية ويعود الامر بالوبال على ملكه وهذا ما يحذر منه السائس. وبين هاتين المركزتين في مصلحة السائس او عدمها يدور مفهوم العدل عنده. انه لم يتناول هذا المفهوم خارج السياق النصي المركز في مسالة الجباية. فالفصل الشهير الذي عقده بعنوان” في ان الظلم مؤذن بخراب العمران” مندرج في سياق تحليله لمقوم رئيسي من مقومات الملك في نظره وهو المال من حيث كيفية الحصول عليه وتصريفه…والظلم في هذا التحديد له دلالة واحدة هي أخذ السلطان لأموال الرعية فوق المقدار المناسب من الجباية. اذاك هو ضرر يهم السلطان والدولة بدرجة أولى قبل الرعايا…والظلم اذاك مخرب للعمران بهذا المعنى المشدود بقوة الى مصلحة اصحاب السلطة لا الى مصلحة الرعايا “لأن حصول النقص في العمران عن الظلم والعدوان امر واقع لابد منه…ووباله عائد على الدول” وضرورة الاعتدال في جمع الجباية لايفرضها اعتراف مسبق بحقهم في عدم الاعتداء على أموالهم ومكاسبهم بل يفرضها الحرص على استمرار الذوات المنتجة في انتاجها لإمداد السلطة وأجهزتها بالأموال اللازمة.”13 والشيء نفسه أشار اليه كمال عبد اللطيف في كتابه “في الاستبداد بحث في التراث الإسلامي” حيث يقول عن سلطة تستمد شرعيتها من عدل ميثاق التغلب من خلال آداب السياسية” غالبا ما ترد هذه الكلمة لتحيل الى نظام المراتب وهي لا ترد في نصوص الآداب الا نادرا وعندما تخصص له بعض الفصول او الأبواب القصيرة فان الحديث ينتقل من مستوى العدل السياسي الاصطناعي التاريخي والفعلي الى العدل المأمول والعدل الذي رسمت ملامحه مبادئ العقيدة وآياتها أي ان الحديث يتجه لاستدعاء بعض معطيات الطوبى النصية كما يتجه لأسطرة دولة المدينة والخلفاء الراشدين. لينتقل بعد ذلك الى لزوم الطاعة فتتمظهر في النص معادلة الطاعة بالعدل بهدف تعزيز فلسفة القهر اكثر من رصد ومعاينة ملامح السياسة الفعلية الناشئة في التاريخ.”14
وفي سياق هذه المعادلة بين الطاعة والعدل ينظر ابن خلدون الى المحكومين بنوع من الدونية الى الرعية عندما تحتج أو تنتفض في شكل ثورات كما حدث في الغرب الاسلامي والمشرق في وجه خلافة السلطة الاستبدادية القاهرة التي من حقها (حسب ابن خلدون وكل تراث الآداب السياسي) دينيا انسجاما مع إرادة الله ان تنفرد بالجاه والخيرات والامتلاك. اكثر من ذلك اقر بالعدالة للكثير من الحكام الذين ارتكبوا الكثير من التجاوزات. فنصوص ابن خلدون تحمل الكثير من العنف الرمزي والفكري والسياسي، وهي تحاول اغتيال الكثير من الحقائق السياسية والفكرية والاجتماعية النقيضة لسائد سلطة القهر، انها حقائق افرزها الواقع السياسي الاجتماعي في صراعاته المختلفة. وفي غياب التضافر والتمفصل الابستمولوجي والمنهجي التاريخي امكن لطرابيشي ان يقول” والواقع ان المسألة ليست مسالة الفاظ فحسب بل مسالة مضمون في التحليل الأخير. ومن وجهة نظر مضمونية فان العقد الاجتماعي الخلدوني ابعد ما يكون قابلية عن الوصف بانه عقد “استبداد وعنف”.15 بل لا يجد ادنى حرج في القول بان ابن خلدون ” يقترب من الفهم الحديث و “الديمقراطي” للعنف من حيث هو حكر للدولة دون الافراد ومنظمة ممارسته بالقانون وفي اطار من الحساسية العامة ” خلق السياسة عند ابن خلدون”التي تستبعد اللجوء اليه الا كحل أخير وباقل مقدار ممكن.”16 هكذا يجمع طرابيشي في لغة واحدة بين الدولة، الافراد، القانون، الديمقراطية، وابن خلدون: انسجام ناذر.
لهذا نقول ان مسالة العنف السياسي التي يشير اليها الجابري في فكر ابن خلدون لا تكمن فقط في مستوى اللغة والدلالة والتصور الفقهي للتاريخ ذي الرؤية المذهبية الأحادية، بل انه عنف سياسي اخطر مما راه الجابري، حيث يتعلق الامر بتأسيس الحقيقة المثالية وعينه على سلطة القهر الماضوي للعمران البدوي، المتمثل في متخيل السلطة العادلة للخلافة التي كانت بعيدة في نظره عن السقوط الى مستوى حضارة الترف والبذخ وفساد الزمان. بناء على هذا التصور الديني الأخلاقي المتحيز فكريا وسياسيا بنى بلغة الاقصاء والقهر الحقائق النموذجية المصححة للتاريخ، او بتعبير ادق القاتلة للتاريخ باعتباره من صنع ارادة البشر في ممارسة صراعاتهم الاجتماعية و السياسية الفكرية الاختلافية. وبسبب هذه القراءة المغرضة للتاريخ حاول ابن خلدون التستر على كون تلك الحقائق مخضبة بالدم، كما عمل على تسييج خطابه دينيا بالمعاني اللاهوتية الأقرب الى الوحي في ادراك حكمة الله ومشيئته في خلقه بما يضمن ألا يحيق بحقائقه التاريخية مكر “الشيطان” المتمثل في التنوع والتعدد والاختلاف الفكري والسياسي والثقافي للواقع الاجتماعي التاريخي للمجتمعات العربية والاسلامية. والغريب في الامر ان ينتصر طرابيشي “لمقتضى الطبيعية البشرية” كلغة أيديولوجية تستهدف وأد جدل التناقض في المجتمع عند ابن خلدون ضد ما يسميه مفهوم العقلية الفطرية والذهنية الطبيعية في خطاب الجابري. فابن خلدون بفعل الانشطار النفسي الوجداني المتحيز للفرقة الناجية كتوجه فكري سياسي عقائدي على مستوى تشكيل الخطاب كان يعتمد مبدأ التطبيع، أي جعل تصوره لحقائق الواقع التاريخي يبدو طبيعيا الى درجة المطابقة لإرادة الله وهو في ذلك يبني خصائصه الخطابية وفق ثنائية أسطرة النموذج العادل الصحيح المثالي وشيطنة الخصوم أهل الاهواء.
والتزاما من طرابيشي بالمعيار الأخلاقي في نقد الجابري او بالأحرى في تكذيبه لا ينتبه وهو يتناول مسألة العبودية الى ما سطره بقلمه من ضرورة الحذر المنهجي النقدي في تناول عبارات ابن خلدون “حتى لو صرفنا النظر عن مدى تمثيلية العبارات المجرمة للخطاب الخلدوني نجد ان التزوير قد طال دلالتها والسياق الذي وردت فيه”.16 فقد حاول جهده ابعاد معاني العبودية والاسترقاق عن النص الخلدوني فاستنجد بلسان العرب وبتأويل خاص للآيات القرآنية لدفع شبهة الاسترقاق عن نص ابن خلدون، ولتدعيم التزوير الحق للدلالات والسياق يستشهد طرابيشي في الهامش بنص لابن خلدون حول العلاقة التي ينبغي ان تكون بين الحاكم والرعية وهو نص تناولته ناجية الوريمي بالكثير من الدقة في تفكيك منطلقاته الفكرية التاريخية وآلياته الخطابية الفقهية ” ومن اللافت للنظر انه يستعمل في شرحها الجهاز الاصطلاحي والمفاهيمي الذي يعتمد في شرح العلاقة بين السيد المالك والعبيد في موضوع الرق. يقول” فحقيقة السلطان انه المالك للرعية القائم في امورهم عليهم… والصفة التي له من حيث اضافته لهم هي التي تسمى الملكة وهي كونه يملكهم فاذا كانت هذه الملكة وتوابعها من الجودة بمكان حصل المقصود من السلطان على اتم الوجوه… ويعود حسن الملكة الى الرفق… وأما حسن الملكة فهي النعمة عليهم والمدافعة عنهم” ويحلل في هذا الصدد صنفين من علاقة السلطان برعيته الأول هو ما سماه على غرار مصطلحات الرق المعتمدة في الخطاب الفقهي بحسن الملكة ونتائجه إيجابية من حيث ان الرعية تحب سلطانها وتخلص له النية وتستميت دونه في الحروب “فيستقيم الامر من كل جانب” والثاني هو سوء الملكة ويتمثل في البطش والتنقيب عن “عورات الناس وتعديد ذنوبهم” ونتائجه سلبية لان الرعية ستكره السلطان “وتلوذ منه بالكذب والمكر والخديعة” وتخذله في مواطن الحروب وربما فكرت في التخلص منه. انها نفس الملابسات والظواهر التي تنشأ في علاقة السيد بالعبيد في حسن الملكة بما يتبعها من الانقياد والطاعة وفي سوئها بما يتبعه من النفاق والتمرد.” 17
وما يدعم هذا التناول الأبستمولوجي و التاريخي الذي قامت به ناجية الوريمي لمسألة الرق في النص الخلدوني هو الكتاب الرائع والمتميز الذي ألفه محمد الناجي “العبد والرعية العبودية والسلطة والدين في العالم العربي” حيث قام المؤلف بالبحث العميق في أسس السلطة مع تحليل العلاقات بين مختلف مستوياتها من منظور الاسترقاق، ويمكن القول ان النص الخلدوني يعد نموذجا لطبيعة السلطة القهرية التي تشرعن استعباد الرعية، خاصة في جمعه بين جدل مستويات السلطة الدينية والسياسية بما يخدم معادلة الطاعة والعدل بالمعنى الذي تحدثنا عنه سابقا. وفي هذا الكتاب نجد المعاني الأكثر دقة ووفاء للدلالة والسياق الخلدوني عوض تلك التي أشار اليها طرابيشي في كتابه. “تنحدر كلمة عبد في اللغة العربية من داس الأرض ووطئها من اجل خط طريق سالكة غير وعرة تماما مثل الطريق المعبدة كما يقال اليوم. سحق، ملس، أزال كل احتكاك وكل مقاومة، تلك هي الالية العميقة للعبودية. ان فكرة الدوس هنا أساسية لكونها تضيف الى استعمال القوة معنى الازدراء الذي تنطوي عليه وتتضمنه. وحين تنطبق على الجمل الذي يسمى معبد فإن الكلمة تصلح للإشارة الى الدابة الجرباء المطلية بالقطران والمعزولة عن باقي الدواب. ومعنى ذلك انه يشير من الناحية الاستعارية الى الفرد المعزول المبعد عن الجماعة بدون علاقات راعية له وحامية يعتز بها”. 18
أما في ما يتعلق بما سماه الجابري مفاهيم “الخطاب السياسي” المدني “مثل مفاهيم الحقوق والواجبات، الحرية، المسؤولية، العدل، القانون، الفرد، الشخص، الحكومة، الانتخابات، وغيرها من المفاهيم السائدة في الادبيات السياسية اليونانية.”19 فان طرابيشي تناولها بالطريقة نفسها التي تعامل بها ابن الخلدون مع نصوص التيارات الفكرية والسياسية لخصومه بنوع من الحذر المنهجي لتجنب خطأ الاثبات النصي. لذلك تعامل طرابيشي مع التجربة اليونانية بشكل انتقائي بما يخدم تبخيسها والتقليل من قيمتها الى درجة تجعل القارئ مقتنعا “بمعجزة” تجربة الحكم في التاريخ العربي الاسلامي الأقل حدة وعنفا والأكثر مدنية وإنسانية في الداخل والخارج. بهذه السهولة ضرب عرض الحائط بالتجربة السياسية الفكرية والاجتماعية اليونانية في التأسيس لثقافة فكرية سياسية قانونية، وفي الممارسة السياسية المؤسساتية في سيرورتها التاريخية وفق جدلية السقوط والنهوض من مرحلة لأخرى في وضع القوانين، الدستور والهيئات المنتخبة كالجمعية الشعبية والمحاكم الشعبية …انطلاقا من “دراكون” في تسجيله وإعلانه الدستور والقوانين، مرورا ب “صولون” الذي كان فخورا بما انجزه بشكل سلمي بعيدا عن العنف السياسي للثورات. الى جانب اعتبار “ثورية دستور كليسثنيس هو تحطيم قاعدة التنظيم القبلي الذي كانت جميع التنظيمات الاجتماعية والسياسية مؤسسة عليه ومرتبطة به”.20
وليس صدفة ان ينتج الواقع التاريخي الاجتماعي الثقافي اليوناني الكثير من الفلاسفة والادباء والسياسيين… وقد ساهموا بشكل فعال في نضج الثقافة السياسية، بغض النظر عن امبرياليتها، كما هو الشأن اليوم، اذ ليس من الحكمة النقدية ان نرفض الغرب لأنه استعماري امبريالي يجب ألا نخلط الأمور بما ينم عن التسرع والانفعال الأخلاقي في ممارسة النقد.
لقد حصل تراكم في التجربة اليونانية على المستوى الفكري الثقافي، والفلسفي السياسي، تناوله كل من افلاطون وارسطو في كتابه “الدستور الاثيني”. ولذلك لاينبغي ان نسود هذا التراث ونقدم قراءة انتقائية سلبية لديمقراطية أثينا معزولة عن سياقات ثقافية واجتماعية تاريخية، بدافع الانتصار الظاهري للفكر الخلدوني والمسعى في العمق هو تكذيب الجابري. وهنا ربما يكمن سر حوار نقدي بلا حوار، فتضيع فرصة الإنتاج النقدي المنمي للذات والأخر.
لقد مرت أثينا بأشكال من العنف السياسي المتفاوت حدة وشدة ومدة، حيث حكمها الطغاة كما حكمها سياسيون قدموا الكثير. لقد “خطا كليسثنيس الخطوة الثورية في دستوره نحو القضاء على الهياكل القبلية القديمة التي كانت قائمة على صلة الدم بين أعضائها وذلك بان وضع تنظيما انتخابيا جديدا يحل محل القبائل القديمة بأقسامها المتوارثة كما كان الحال في دستور صولون وجعل حجر الزاوية في برنامجه الجديد وحدة شعبية تسمى ديموسdemos … أدرك ارسطو الابعاد الاجتماعية والسياسية لهذا التنظيم فوصفه في عبارة رغم تعقيدها ذات دلالة يقول فيها ” ان كليسثنيس جعل انتماء الأهالي الى الديموس بمثابة رابطة اخوة بينهم حيث أبناء الديمات المختلفة “تجنبا لاحراج المواطنين الجدد” لا يخاطبون بعضهم البعض بأسماء ابائهم ولكن باسم الديموس المنتمي اليه الشخص”.21
وحتى تجربة بريكليس في الحكم لا تخلو من تراكمات إيجابية لذلك لا ينبغي ان نغض النظر عن ايجابياتها. وعلى اية حال فالديمقراطية الحديثة هي وليدة سيرورة تاريخية معقدة، و تراث انساني ساهمت فيه الكثير من الشعوب والحضارات، ومنها الفكر السياسي اليوناني بمفاهيمه السياسية المدنية البعيدة كليا عن القهر اللاهوتي الخلدوني. وطرابيشي نفسه حين يتحدث عن “التضامن بين ظهور العقل اليوناني وبين ظهور طبقة كوسموبوليتية من التجار البحريين ذات افق عقلي منفتح ومتقدم”21 يحدد مصادر قوة تلك الطبقة في ثلاثة عوامل من بينها “تنظيم سياسي متقدم ” ديمقراطيا” ومحرر لفاعلية الفرد هو تنظيم المدينة الفينيقية الايونية اليونانية الذي سمح بتراكب التفاعلات الحضارية وتناضدها على العكس من واقع الحال في التنظيم السياسي للامبراطوريات التي تقوم على انقاض بعضها بعضا وتحل واحدتها محل الأخرى في سياق هيمنة امبريالية ماحقة. ولا يمكن فهم تطور أثينا الخارق السرعة في عصر بريكليس نحو 495 /429ق.م بمعزل عن تأثير تلك الطبقة الكوسموبولتية”.22 وإضافة طرابيشي هذه في توسيع شبكة التفسير حول العقل اليوناني تعتبر علمية الى ابعد الحدود، ولذلك نتساءل ما الذي جعل طرابيشي يتخلى عم هو علمي فيناقض اجتهاده العلمي في الكتاب نفسه، وهو يناقش الجابري في “الديمقراطية الاثينية” وينتصر للعنف السياسي الخلدوني؟
الهوامش
1 جورج طرابيشي نظرية العقل ص 309
2 ناجية الوريمي بوعجيلة حفريات في الخطاب الخلدوني 2008 ص 225
3 عبد الرحمن ابن خلدون المقدمة دار الاحياء العربي ط’4 ص231
4 محمد النجي العبد والرعية ترجمة مصطفى النحال 2009 ص 110
5 نفسه ص 96
6 نفسه ص 96 و 97
7 كمال عبد اللطيف في الاستبداد بحث في التراث الإسلامي ط1 س2011ص 132
8 ناجية الوريمي حفريات في الخطاب الخلدوني ص 226
9 نفسه ص 195
10 كمال عبد اللطيف الاستبداد ص 215
11 جورج طرابيشي نظرية العقل ص 313
12 كمال عبد اللطيف الاستبداد ص 167
13 ناجية الوريمي حفريات في الخطاب الخلدوني ص 239و240
14 كمال عبد اللطيف الاستبداد ص 170
15 جورج طرابيشي نظرية العقل ص 317
16 نفسه ص 313
17 ناجية الوريمي حفريات في الخطاب الخلدوني ص 242 و243
18 محمد الناجي العبد والرعية ص 72
19 محمد عابد الجابري ضمن نظرية العقل ص 307
20 مصطفى العبادي ديمقراطية الاثينيين عالم الفكر المجلد 22 س 1993 ص72
21 نفسه ص 74
22 و23 جورج طرابيشي نظرية العقل ص 1145