عن لورا بونابرت.. ونضالها ضد الصمت والنسيان
فاطمة حوحو
في العام 2003 حضرت المناضلة الأرجنينة لورا بونابرت إلى بيروت تلبيةً لدعوة لجنة أهالي المخطوفين، للمشاركة في الحملة الوطنية من أجل الكشف عن مصير هؤلاء المفقودين في الحرب الأهلية اللبنانية، وإعلان 13 نيسان – أبريل يوماً وطنياً للذاكرة.
التقيتها بها في حوار صحفي انطبع في بالي طويلا، هي التي خسرت سبعة أفراد من عائلتها في ظل الحكم العسكري الديكتاتوري في الأرجنتين، حيث تعرض المعارضون للاضطهاد السياسي، وكانت لورا واحدة من آلاف بينهم.
غادرت لورا بونابرت الحياة في العام 2013 عن عمر يناهز الــ 88، لكن حياتها ونضالاتها باقية، قاتلت من أجل الكشف عن جرائم النظام الديكتاتوري ووقفت ضد النسيان، بحثت عن العدالة لأجلهم منذ منتصف السبعينيات وحتى وفاتها، وكرمتها حفيدتها نتاليا بورشتين بإنتاج وإخراج فيلم بعنوان “وقت معلق”، ويروي قصة الجدة والظروف الاجتماعية والسياسية في الأرجنتين في حينه وحياة الناس الذين تعرضوا للاضطهاد، وصورت غالبية مقاطع الفيلم التوثيقية داخل منزل “بونابرت” للحفاظ على الذاكرة.
أتذكرها اليوم بينما يضج العالم بحروب، وأعداد جديدة من المعتقلين السياسيين والمفقودين نتيجة القمع والتعذيب، سواء خلال الحروب أم نتيجة السياسات القهرية من أنظمة أمنية لا تعيش إلا بهدر الدم والحقوق والكرامات والانسانية.
“المفقود هو إنسان حي لكنه لا يعيش، وإنسان ميت لم يمت، شخص غائب دائما لكنه حاضر في كل الاوقات”.. هكذا حدثتني العالمة النفسانية والكاتبة والمناضله من أجل حقوق الإنسان لورا بونابرت، إحدى المساهمات في تأسيس منظمة “أمهات ساحة مايو” الشهيرة. وهي منظمة نشطت ما بين أعوام 1976 و1983 من أجل الكشف عن مصير الأبناء والأزواج والأصدقاء المخطوفين على يد السلطة العسكريه الأرجنتينية، في حينه.
تشرح لي: “كنا كأمهات نجتمع في “ساحة مايو” للمطالبة بالكشف عن مصير المخطوفين والمفقودين الذين تمت تصفيتهم، وطالبنا بالجثامين. في البداية أردنا الحفاظ على هويتنا خوفا من خرق صفوفنا بعملاء المخابرات، فوضعنا المناديل البيضاء فوق رؤوسنا، وأول لقاء لنا حصل أمام القصر الرئاسي في “ساحه مايو”، وكان الجنود يمنعوننا من التنقل جماعات، فكنا نسير كل اِمراتين سويا، بعضنا وراء بعض، وبصورة متواصلة كنوع من الاحتجاج”.
بلغ عدد المخطوفين في الأرجنتين 30 ألفا، ومن بينهم كان أفراد عائلتها السبعة. تشير إلى أن ابنتها عايدة “كانت أول من خطف في العام 1975 مع صديقات لها كن تتولين مساعدة عائلات بأحد الأحياء الفقيره في الأرجنتين، جميعهن اختفين. كن يحاولن منع الجنود من أخذ اطفال هذه العائلات المقيمة في منطقه فيلما سيريا”.
أفادتني لورا أنها كانت “المرأة الوحيدة التي أقامت دعوى قانونية ضد الجيش، بتهمه قتل ابنتي، أما الأخريات من نساء ساحة مايو، فلم يتجرأن على ذلك، وفي المحكمة قالوا لي يمكن أن نقدم لك يدي ابنتك، لقد ماتت في مواجهة عسكرية، ونتيجة اضطراري للسفر لى المكسيك عند ابني، تولى زوجي الطبيب متابعه الدعوى، ولكن تم خطفه في 11ــ 6ــ 76، ومن ثم خطف ابني وزوجته، وفي العام 1977 خطفت ابنتي الصغيرة وزوجها ماريو، تركوا أبناءهم عند مدخل بناية جد والدهم. حصلت كل هذه الأمور في ظل انتشار عسكري ضخم”.
لم تخف لورا انتماؤها السياسي ومعارضة عائلتها للنظام، لكنها لم تتمالك نفسها من القول بغضب ردا على سؤال وجهته لها: “ليس لديهم الحق في أن يحاسبونا على نشاطنا السياسي وعلى تفكيرنا، نحن لم نقترف جرائم لمجرد أننا كنا معارضين كما فعلوا هم”.
لم تستطع لورا على الرغم من نضالها الذي استمر سنوات من معرفة مصير أفراد عائلتها، لكنها اكتشفت أن جثة ابنتها دفنت في مقبرة جماعية.. “أجساد من دون أعضاء، لم يكن لأي منها تابوت خاص، وقد تبين وجود عظام لأكثر من شخص، وجمجمة واحده فقط، فيما تظهر الرصاصات أن هؤلاء تم إعدامهم”.
كانت لورا تصر على كشف فظائع ذلك النظام، وأظهرت لي صورا عن جثث محروقة، وفي إحداها يبدو جنين يخرج من بطن أمه، وجانبا من وجه زوجها، وتعلق: “كان شيئا فظيعا”.
الابن البكر للورا تنبه للأحداث قبل وقوع الانقلاب، فلجأ إلى المكسيك مع زوجته وولديه، ونجا من الموت. لا تصدق لورا حتى اليوم أن أولادها ماتوا. راودتها أفكار كثيرة، منها قتل هؤلاء القتلة، تغيرت حياتها منذ ذلك الوقت، وصفت لي ذلك بالقول: “صرت أعتبر امرأة خطرة نظرا لأني أناضل من أجل معرفة الحقيقة، لوحقت من قبل المخابرات، الأصدقاء صاروا قلة، وزبائن العياده خافوا من الاتصال بي، اثنان فقط من بين تلامذتي تابعا التدريب معي في المستشفى وبقيا على اتصال بي، وهذان التلميذان لديهما في العائلة بعض المخطوفين”.
وسط هذا الضيق والتضييق عليها، قررت لورا السفر الى المكسيك، بعد أن سرقوا منها كل شىء، الأبناء والزوج والعمل والأمان، هناك تابعت نضالها، فنظمت بالتعاون مع جمعية نسائية مكسيكية حملة واسعة للتضامن مع أمهات الأرجنتين، كانت حملة قوية ومؤثرة. تروي لورا كيف تضامنت معها النساء من أعضاء تلك الجمعية، فأوجدن لها عملا ووفرن لها المسكن، كما عملن لتهريب ابن ابنتها الطفل الذي كان عمره سنتين، تقول: “كانوا يريدون قتلي، لذا لم أستطع حمل الطفل معي فخرجت بمفردي في البداية، ثم تم إخراجه باسم مستعار إلى المكسيك، ومع ذلك واجهتني مشكلة إثبات شرعية حضانتي لابن ابنتي”.
مع الوقت لجنة أمهات ساحة مايو اليوم لم تعد تضم في صفوفها سوى عددا قليلا، فمعظم الأمهات أصبحن جدات أو توفين نتيجة التقدم في العمر، بعد أن اصبن بالوهن والتعب والأمراض.
من بين الشعارات التي تم رفعها من قبل الناشطات في اللجنة “نريدهم أحياء”، “أحياء أخذوهم.. أحياء نريدهم”، “نريد محاكمه المذنبين ومعاقبتهم”.
لكن ماذا استطاعت هذه اللجنة تحقيقه؟
أجابتني لورا أن “الأمم المتحدة تابعت القضية وتم الاعتراف بعمليات الخطف والتي اعتبرت جريمة ضد الإنسانية، لا عفو على مرتكبيها، أي أن هؤلاء لم يتمكنوا من الحصول على البراءة من الجرائم التي ارتكبوها وفقا لمحاكمات يتم خلالها كشف الحقائق”.
عادت لورا للمرة الأولى إلى الأرجنتين في العام 1986 للمشاركة في تظاهرة ضد الحكم العسكري ومن أجل حل مشكلات قانونية متعلقة بالوضع القانوني لحفيدها، لكنها لم تستطع إعادة بناء حياتها في الأرجنتين ولا استعادة عملها كطبيبه ومحللة نفسية.
وصفت لي حياتها بالآتي: “حياتي كانت مجزأة ومقطعة، لم أستطع الاستقرار ولم يكن في حياتي حبا يعوضني عما فقدته، واصلت النضال من أجل حقوق الإنسان وحقوق النساء، انشغلت بتربية حفيدي، كتبت عن تجربتي وصدر كتاب عن قصة حياتي أعدته صحفية باللغه الفرنسية بعنوان: “صوت أرجنتيني ضد النسيان”، كتبت مسرحية بعنوان “ثلاثه نساء جيدات”، وتحكي قصة ثلاث نساء التقين في محكمة، أثناء رفعهن دعوات ضد من خطف عزيزا لهن، قررن العيش معا كصديقات وأقدمن على خطف أحد المتورطين في المجازر ووضعنه في ملجأ تحت الارض، أحداث هذه المسرحية تدور حول ماذا يمكن أنفعل به وما هي الطريقة الأفضل لقتله، تصف لورا عملها المسرحي بالقول: “إنها كوميديا سوداء من وحي ما عشته في حياتي، هذه المسرحية عرضت في مهرجان مسرح سربانتس في مدينة كواناخواتو في المكسيك، وتم عرضها في مهرجان المسرح الوطني في مدينه نابولي الايطالية”.
نشاط لورا كان غزيرا لا يتوقف، فهي أيضا كانت كاتبة صحفية، وكان لديها برنامج قدمته في إذاعة أرجنتينية شعبيه بعنوان “حياة .. شغف .. موت”، وفيه كانت تستضيف النساء للحديث عن إبداعاتهن.
وعن دور الرجال في هذا البرنامح، تقول لورا: “الرجل الوحيد الذي استضفته كان الكابتن المتقاعد تانتدر يامور، الذي استقال من الجيش ووضع في السجن أثناء الحكم العسكري، وقد ألف كتابا عن ممارسات الطغمة العسكرية، كاشفا فيه الأعمال غير الشرعية من قتل وتعذيب، وكتابه هذا الأكثر شهرة في كل المحاكمات الدولية التي تحصل”.
حين التقيتها كان العالم منشغلا بحرب العراق، وكان للورا موقف واضح ضد هذه الحرب، فهي كانت ضد تبسيط هذه الحرب بالقول إنها حرب هادفة إلى السيطرة على النفط. قالت لي: “بوش ولدٌ مخبول يريد أن يقيم امبراطورية أميركية في العالم، يريد تجاوز أوروبا إلى الشرق الاوسط وحصارها من أجل ضرب اليورو والاقتصاد الأوروبي، هو مثل نيرون لا يهمه إذا ما احترقت روما”.
وعما إذا كان علم النفس ساعدها في استيعاب واقع الحال أجابتني: “بالطبع ساعدني على فهم حالة أهالي المفقودين والمخطوفين، وعلى تفهم مشكلات أولادهم ووجعهم وعلاج آلامهم”، لكنها لفتت إلى أن زبائنها في العياده كانوا من الفقراء الذين ليس لديهم ما يقدمونه لها.
وأخيرا أكدت لي أن النضال في الحياة ليس مسألة سهلة،”إنه أمر صعب، إنه تعذيب مستمر، يقطع القلب لكنه ضروري من أجل المستقبل”.
لم تكن لورا بونابرت سوى أم، قبل أن تتحول رمزا للنضال، حكايتها صارت حكاية عالمية، أثارت اهتمام أمهات العالم واهتمام كل من يناضل ضد النسيان وضد الصمت ومن أجل معرفة الحقيقة، لروحها السلام.