عشاق يصرون على التعبير عن مشاعرهم بباريس “عاصمة الحب والرومانسية”
علي بنساعود
يبدو أن العشاق بباريس شديدو العناد والإصرار، رغم الإكراهات والعراقيل… لذلك، ليس غريبا أنهم ما فتئوا يبحثون عن بدائل لشرفات ودرابزينات الجسور التي كانت متاحة أمامهم… والتي تمت إزالتها وتعويضها بأخرى من خشب أو زجاج لا تتيح لهم على الإفصاح عن مشاعرهم.
أقفال الحب
يُذْكر أن العشاق بباريس، محليين وسياحا وافدين، دأبوا على تعليق “أقفال الحب” على شبابيك الجسور الرابطة بين ضفتي نهر السين، وسط العاصمة باريس، بعد أن يكتبوا عليها أسماءهم بالحبر الدائم، أو ينقشونها على القفل مباشرة، والتاريخ الذي علقت فيه، ومنهم من يضيف رسالة قصيرة، وبعد تعليقها، يرمون المفاتيح في النهر، ويلتقطون صوراً أمامها… معبرين، بهذه الطريقة الرمزية، عن الحب الذي يجمعهم، أملا في ديمومته وخلوده…
خيبة العشاق
وقد تحولت هذه الجسور، منذ سنة 2008، إلى قبلة للعشاق، من سكان العاصمة وزوارها القادمين من مشارق الأرض ومغاربها، غير أن فضاء الجسور الممكن أن تعلق عليها الأقفال تقلص ثم اختفى بعد أن أزيلت شرفات أغلب الجسور، وتم تعويضها بأخرى لا يمكن التعليق عليها. وهو ما خيب آمال الآلاف ممن وجدوا في هذا التقليد وسيلة عصرية للتعبير عن مشاعرهم…
وكان مسؤولو بلدية باريس، وقتها، عزوا الأسباب التي دفعتهم إلى اتخاذ قرار إزالة ما يقارب مليون قفل، وضعها، على مر السنين، عشاق زاروا باريس عاصمة “الحب والرومانسية” إلى أنها تفسد جماليات الجسور، وتضر البناء، إضافة إلى الخوف من أن يعرض الوزن الثقيل للأقفال الجسور للخطر، سيما أن جزءا من سور جسر الفنون الملقب بـ”جسر الحب”، الواقع قرب كاتدرائية نوتردام، والذي يعود إنشاؤه إلى مطلع القرن التاسع عشر، بدأ ينهار بسبب ثقل وزن هذه الأقفال، ما كان يهدد بسقوطه كاملا، ويشكل خطرا محتملا على الملاحة في نهر السين، خصوصا أن جسر الفنون وحده، مثلا، كان يحمل أزيد من 700 ألف قفل… تزن زهاء 45 طنا من الحديد، قررت البلدية صهرها واستغلالها في عمل فني جديد يزين باريس، ويرمز أيضا للحب، كما قررت استبدال الدرابزينات، على جوانب الجسور، بألواح زجاجية عليها أعمال فنية… هذا، ناهيك عن تخوف البلدية من أن تساهم المفاتيح، التي تلقى في “السين”، في ارتفاع التلوث في هذا النهر…
أصل الحكاية
تعود ظاهرة “أقفال الحب”، حسب كثيرين، إلى أسطورة إغريقية قديمة، أحياها ضابط صربي في الحرب العالمية الثانية، فانتشرت في القارة الأوروبية، خصوصاً في باريس وروما، ثم انطلقت لتغزو فيينا وموسكو وكولونيا ونيويورك ولندن وسيدني ونيودلهي…
وتتحدث الحكاية الصربية عن معلمة وقعت في حب ضابط صربي، فتعاهد الحبيبان على الارتباط ببعضهما البعض مدى الحياة، بعدها، ذهب الضابط إلى الحرب في اليونان، وبعد فترةٍ من الزمن، شاء القدر أن يقع الرجل في حب امرأة يونانية، وينسى حبيبته القديمة، ويتنصل من وعوده لها، غير أن الحبيبة الأولى لم تنس حبيبها، ولم تشف من حبه، فماتت بعد فترة وجيزة حسرة وحزنا على حظها السيئ.
وربما كانت هذه الحكاية ناقوس خطر نبه نساء المدينة، ففكرن في حماية حبهن من غدر الحبيب. فشرعن في كتابة أسمائهن مع أسماء أحبائهن على أقفال حديدية وتثبيتها على جدار الجسر الذي كانت الشابة ضحية الحب تلتقي فيه مع حبيبها الخائن، ويلقين المفاتيح في البحر حلما بحب أبدي خالد…
وبعد عام 2000، انتشر هذا التقليد في أوروبا الغربية عامة، إذ يقال إنه بدأ بجسر الفنون عام 2008، قبل أن يتوسع ليغزو درابزينات وشرفات باقي الجسور… ومعلوم أن جسر الفنون هذا تم تشييده بين عامي 1801 و1804، وقد وسعت شهرته العالم كافة بفضل أقفال الحب، ليلحق بركب أهم الجسور في العالم.
الرئيس العاشق
ويحكى أن الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي هو من حَوَّل جسر الفنون إلى جسر للمحبين والعشاق، منذ سنة 2007، إذ كان يعيش، وقتها، قصة حب كبير مع المغنية الإيطالية كارلا بروني تكللت بالزواج، بعدما وضعا قفلهما وألقيا بمفتاحه في السين؛ فزادت معالم باريس معلمة أثرية، وبات الجسر وجهة للرومانسيين، وأصبحتَ، وأنتَ تمشي على طول الجسور التي تعبر نهر السين، ترى آلاف الأقفال المتفاوتة الأحجام، المختلفة التصميمات والألوان معلّقة على حافته.
حفاظا على التراث والإنسان
غير أنه في العام 2014، اضطرت بلدية باريس إلى إزالة الأقفال من جسر الفنون وجسر المطرانية الواقع بالقرب من كاتدرائية نوتردام، بدعوى الحفاظ على سلامة السكان والسياح، ولأن الأقفال تشوه تراث المدينة وتشكل ثقلا كبيرا على الجسور التاريخية ما يهدد بسقوطها… وقدرت السلطات عددها، ساعة إزالتها، بما يقرب من مليون قفل!
وسعيا منها إلى الحفاظ على صورة المدينة كـ”عاصمة للرومانسية والحب”، دعت السلطات الفرنسية العشاق إلى مواصلة التعبير عن حبهم بطرق أخرى، ومنها التقاط صور من نوع «سيلفي» قرب الأقفال بدل إضافة المزيد منها، ووضعت لافتات بالفرنسية والإنجليزية تتضمن شروحات ودعوات للامتناع عن وضع هذه الأقفال من بينها لافتة “ممنوع وضع الأقفال، باريس تشكركم” أو “عبروا عن حبكم بشكل مختلف“ لكن، عبثا! إذ لم تنجح حملة إقناع العشاق بالتخلي عن تعليق الأقفال. كما انتقلت “أقفال الحب” إلى عواصم أخرى، مثل روما وبرلين موسكو… واتخذت أشكالا مختلفة، سيما أن بعض البلديات رحبت بها وهيأت لها الأماكن المناسبة، لأنها ترى فيها منظرا يبعث على البهجة ويجذب السياح من كل أنحاء العالم.
وتستمر الرومانسية في الازدهار
ولأن الحب بطبيعته مقاوم، فقد لاحظتُ، خلال زيارتي الأخيرة لباريس، أن العشاق لم يستسلموا لقرارات سلطات المدينة، وأنهم إن هجروا الجسور فقد غزوا أماكن بديلة، اتخذوا منها ملاذا للتعبير عن مشاعرهم، وترك بصماتهم، منها درابزينات حي مونمارتر التاريخي الشهير والسلسلة الحديدية المحيطة بساحة الشعلة الذهبية، التي صار اسمها «شعلة ديانا» منذ أن فقدت “أميرة القلوب” البريطانية حياتها في حادث سيارة في “نفق ألما” بالعاصمة الفرنسية، قبل 25 عاما، كما لاحظت عدة أقفال على بوابات حديقة وشبابيك “ميدان التروكاديرو” جوار “برج إيفل” وعلى شبابيك ورش للأشغال مقام هناك… وهناك من أشار إلى أن بعض الأقفال ظهرت في قمة برج إيفل…
ماذا ستكون باريس بدون أقفالها!
لكن، مما يؤسف له أن مسؤولي دائرة مونمارتر، الذين دأبوا على قطع الأقفال، بين فينة وأخرى، بدعوى التخفيف من ثقلها على درابزينات محيط كاتدرائية “ساكري كور”، أعلنوا، خلال شهر شتنبر الماضي، أنهم، بعد التشاور مع الفرق الفنية والمهندسين المختصين في التراث المعماري، سيتخذون تدابير، بداية العام المقبل، لإزالة الأقفال كلها ووضع أنظمة لمنع تركيبها، وذلك في إطار عملية كبرى أطلق عليها: “تجميل حيي”.
<
p style=”text-align: justify;”>فأين، يا ترى، سيلجأ العشاق هذه المرة؟ وماذا تراهم فاعلون؟ بل ماذا ستكون باريس بدون أقفالها!