“ليليات” حسن المنيعي: قبلة مشرقة تحت أنظار جان بول سارتر

“ليليات” حسن المنيعي: قبلة مشرقة تحت أنظار جان بول سارتر

  محمد بهجاجي

يتيح لنا كتاب “ليليات”، الإصدار الأول لمؤسسة حسن المنيعي للدراسات المسرحية والإبداع الأدبي والفني، إمكانية تجديد المعرفة بالمنيعي الشاب خلال عقد ستينيات القرن الماضي. ذلك أن النصوص المنشورة بين هاتين الدفتين تعود إلى الفترة الممتدة بين سنتي 1962 و1967، أي خلال سن الكاتب المتراوح بين 21 و27 سنة.  وهي تشمل عشرين نصا نشرها الفقيد بجريدة “العلم” بمثابة خواطر باعتبار التجنيس الأدبي، وأعمدة أو أركان قارة باعتبار التجنيس الصحفي.

يقترح الكتاب كذلك مداخل جديدة لاكتشاف جزء من تشكل الوعي الفكري والنقدي للمنيعي، وانعكاسات ذلك على امتداده أستاذا باحثا وناقدا ومربيا للأجيال، ذلك أن سنة 1964 هي ذاتها السنة التي التحق فيها حسن المنيعي أستاذا مساعدا بكلية الآداب بفاس ضمن عدد من الأكاديميين الشباب. وهذا ما يجعل الكتاب يطلعنا على جزء آخر من أفكار بعض عناصر النخبة الثقافية المغربية التي كان عليها أن تباشر معالم التأسيس لثقافة وطنية حديثة بحيث ساهمت، وضمنها صاحب “الليليات”، في دعم الدرس الجامعي الجديد، وفي تأسيس الخطاب النقدي في الجرائد الوطنية، وعبر مجلات رائدة، وضمنها على الخصوص مجلة “أقلام” (الصادر عددها الأول سنة 1964)، والتي كان حسن المنيعي من أبرز كتابها رفقة أحمد السطاتي، محمد إبراهيم بوعلو، محمد عابد الجابري، عبد الله العروي، محمد برادة، أحمد اليبوري وأحمد المجاطي وآخرين… ولقد كان هذا الإصدار الحدث الثقافي الهام، المسبوق بصدور العدد الأول من مجلة “آفاق” سنة 1963، وبالصدور اللاحق لمجلة “أنفاس” سنة 1966.

لمقاربة هذه السياقات نشير، في البدء، إلى أن كتابة هذه النصوص قد تألفت في مرحلة حاسمة بالنسبة إلى العقد الأول بعد استقلال المغرب. هي مرحلة احتداد التوتر بين الدولة والمجتمع، وتصاعد التأزيم بين السلطة وقوى اليسار، خاصة بعد إسقاط حكومة عبد الله إبراهيم في ماي 1960، وما تلاها من محاكمات واعتقالات واغتيالات وغيرها من الإشارات العصيبة التي دشنت زمن الجمر والرصاص. مقابل ذلك كانت هي المرحلة ذاتها التي عايشت الزمن الأول من عمر اتحاد كتاب المغرب الناشئ، منظورا إليه يومها كمعادلة جديدة في إبراز صوت ثقافي مختلف.

 في الفترة ذاتها تم، على المستوى العربي، تأسيس منظمة التحرير الفلسطينية ضمن تواصل احتداد الوعي القومي، واعتلاء المشهد شعار الوحدة العربية، ومضاعفات المخاض العربي التي أفضت إلى هزيمة يونيو 1967 وما ترتب عنها من آثار جسيمة على الفكر والإبداع العربيين.

أما على المستوى الدولي فقد تهيأت، يومها، كل الشروط لبروز حركات الانتفاض في فرنسا والعالم من أجل الثورة ضد الأنظمة القائمة، وعلى إيقاع جدل الصراع بين القوى العظمى من أجل احتلال المشهد العالمي.

كل هذه السياقات جعلت حسن المنيعي في خضم مخاضات التحول. لقد كان الفقيد متفاعلا مع كل تلك السياقات الوطنية والعربية والدولية التي نتجت عنها نماذج في هذا الكتاب بأشكال متفاوتة القيمة والحجم ودرجات الإدراك

لتوضيح ذلك سأحاول أن أبسط بعض ملامح ذلك التفاعل مقترحا توزيع الكتاب موضوعاتيا إلى ثلاثة آفاق:

* الأفق الفكري، حيث يتأكد، بعد قراءة الكتاب، أن المنيعي الشاب كان، على مستوى المرجعية النظرية والسياسية، مظللا أساسا بفكر جان بول سارتر. إن نصف مواد الكتاب مخصص للتعريف ب”فيلسوف المسؤولية والحرية” (ص 119). بل إن المنيعي كان يستلهم معجمه غالبا من مفردات الأطروحة الوجودية مقترحا نفسه كمدافع صلب في مواجهة خصوم سارتر، خاصة حين تعرض هذا الأخير للنقد والتشويه بعد رفضه جائزة نوبل سنة 1964.

يورد المنيعي مرافعته على هذا المنوال “لنا أن نفخر به لأنه إنسان مثلنا يريد الخلاص وتخليص الغير، وتحقيق السلام الإنساني. يريد محق الاعتقادات الجوفاء، وهدم الأنظمة الواهية لبناء عالم جديد” (ص 122). ليس في هذا الاستظلال – الاستلهام استثناء ما. لقد كان سارتر، بأفكاره ومسرحياته، ممتدا عبر الفضاء العربي الستيني. ولقد كان مميز ذلك، ليس فقط فرادة أطروحته الفلسفية وإسهامه الإبداعي.  ولكن أساسا مواقفه كمدافع شرس من أجل حرية الأفراد والشعوب، خاصة موقفه من قضية استقلال الجزائر وغيرها. ولقد كتب بهذا الصدد، في مقدمته لكتاب “معذبو الأرض” لفرانز فانون، إن “على فرنسا أن تتخلص من فرنسا”. في ما بعد ستتغير مواقف الفضاء العربي من سارتر إثر هزيمة 1967

بموازاة ذلك، يبرز لي بوضوح إصرار الكاتب على تأكيد هويته السياسية، مؤكدا انتماءه إلى تيار التغيير، ودعمه للنضال اليساري مغربيا وعربيا، وفضحه “للتزوير السياسي الذي كان يطبع جل البلدان العربية، ويقذف بها إلى دركات التدهور والخلافات ضمن تكتلات هدفها الوحيد هو ابتلاع حقوق الجماهير الشعبية، وإبعادها عن الخط الاشتراكي التحرري” (ص 52). بجوار ذلك يؤكد، وعلى المستوى العربي كذلك، تشبثه بدعم الكفاح الفلسطيني، وتنديده بواقع الانقسام الذي كان يعرفه الوضع العربي سياسيا واقتصاديا وثقافيا وأخلاقيا

** الأفق الثاني، الأدبي والفني، يبرز معه المنيعي الشاب قارئا وكاتبا مجددا، عميق الاطلاع على الآداب الأجنبية، وبفضل ذلك كانت إسهاماته نافذة مشرعة للمغاربة والعرب، سواء من خلال درسه الجامعي، أو من خلال ترجماته وأبحاثه وكتاباته.. وقبل ذلك بكثير هذه “الليليات”… من هذا المنطلق كان يحرص في أعمدته على إعلامنا بجديد الإصدارات في فرنسا والغرب والشرق، بدءا من الأديبين اللبنانيين سهيل إدريس على هامش صدور مجموعته القصصية “رحماك يا دمشق” (1965)، وليلى بعلبكي على هامش حديثها عن رفض سارتر لنوبل، وانتهاء بكافكا وبروست، وسيلين… كما كان يحرص على رصد نوعية الجدال هناك مثل حديثه عن مآل نوعية القصة الغربية منذ سنة 1950، تاريخ ما اعتبره  أفول “الكبار” مثل دستويفسكي وبلزاك… الزمن الذي انتهى، في تقديره، بظهور ما اعتبره “قفزات التصنع التي يبديها أولئك المجددون، والتي لا تزيد عن كونها إرهابية جمالية تخلق اضطرابا في نفوس النقاد” (ص 130). يهمنا، ضمن هذا الأفق دائما، الإشارة كذلك إلى وضعية الأديب المغربي التي خصص لها المنيعي إشارات متفرقة. لعل أهمها أن الأديب في المغرب “يكاد يكون عديم الوجود. ينكره الناس ويتجافاه المسؤولون (ص 65). أما على المستوى الفني، فلقد كان، رحمه الله، دقيقا في تقييمه للوضع المسرحي حيث سجل عجز المسؤولين عن إقرار سياسة عمومية في قطاع الفنون والآداب. مثلما كان حازما في الدعوة المباشرة للنهوض الأدبي والفني عبر مطالب وتوصيات منها:

أن تعمل الدولة على رعاية الفنون في شتى صورها، وذلك بتأسيس معهد وطني يكون مجهزا بكل الوسائل التي تحث على البحث العلمي،

على رجال المسرح أن يسهروا على اقتناء تكوين صحيح بالنسبة لهم لاكتشاف طرق تعبيرية فنية وصيغ جديدة،

أن يجعلوا نصب أعينهم حقيقة البلاد، وطباع الناس، مع الاستماتة في أداء واجبهم والدفاع عن آرائهم.

أما الكتاب، فعليهم أن يستمروا في نضالهم رغم ما لديهم من وسائل عقيمة، وما يقف أمامهم من عراقيل، وذلك لخدمة الحرية الإنسانية والتقدم والعدالة (ص 100).

ثم يخلص إلى أننا “متى حرصنا على هذه الأحكام، وقمنا بمراعاتها كان ذلك طريقا للتناغم وإحداث ثورة في القيم الاجتماعية… (ص 101).

 ***  بخصوص الأفق الثالث أسمح لنفسي بتسميته ب”البعد الوجودي” تناغما مع السياقات والأبعاد المتنوعة للكتاب، بحيث بدا المنيعي الشاب، بين دفتينا، قلقا يائسا، فاقدا أحيانا للثقة في نفسه كما في محيطه من الأصدقاء، وفي المسؤولين عن قطاعات الثقافة والتربية الوطنية والشأن العام عموما… وأنا أصوغ هذه العبارة أستحضر المكانة المحورية لمفردات القلق واليأس في معجم سارتر حيث أفرد لهما هذا الأخير، على سبيل المثال، حيزا من كتابه L’existentialisme est un humanisme   ، الوجودية – مذهب، (أو منزع كما في ترجمات أخرى) إنساني” الصادر سنة 1946.

مقابل القلق واليأس كان الشاب المنيعي متفائلا في نصوص أخرى، خاصة في نص قصير جدا بعنوان “الدهليز القاتم” كناية عن “الحياة في الدول المتخلفة” حيث يؤكد “سوف نصل، ونخرج من غلالتنا وتمزقنا، ويصبح دهليزنا الضيق القاتم جسرا ساطع الأنوار. نعبره في سلام لنصل إلى حياة الكمال والمساواة” (ص 37).

إنني، وأنا أرصد هذا التراوح بين اليأس والأمل أكاد أزعم أن المؤلف كان، في ما يبدو لي، يشبه مرحلته تماما، مرحلة التراوح بين مغرب يتوق إلى مزيد من توطيد استقلاله على قاعدة الحرية والعدالة، ومغرب آخر لا يزال يراود زمن الاستبداد.

في سياق التراوح بين اليأس والأمل أشير، في ختام هذا التقديم، إلى نص جميل، بعنوان “ذكرى سعيدة”، كتبه حسن المنيعي ببنية سردية حين كان يقيم بباريس ضمن إحدى أقسى لحظات يأسه. “كنت يومه في فرنسا تائها في مدينة باريس أطوي الشوارع والأزقة كالكلب الضليل، باحثا عن عمل يمكنني من تمطيط عطلتي في أوربا (ص 59). هناك احتمى بحديقة اللوكسمبورغ حيث التقى بإحدى الفتيات التي دشنت حوارا معه بحيث أطلعها على وضعه النفسي الرديء. ورغبة منها في التعرف عليه أكثر أطلعها على جواز سفره المغربي مؤكدا هويته العربية وجنسيته المغربية… لكن الحوار انقطع في لحظة ما فتوقف عن التفرس “في وجهها المدور الجميل وشعرها الفاحم” (ص 61). قبلته وانصرفت مهنئة إياه بعيد ميلاده. تفاجأ صاحبنا بالتهنئة التي تأتيه من حيث لا يتوقع.

يكتب المنيعي منتشيا بما سماها “القبلة المشرقة“:

كانت الدموع تنحدر من عيني مدرارا لأني ما فكرت أن لدي عيد ميلاد، ولأني ما تعودت الاحتفاء به في وطني. وفي الأخير أيقنت أن جواز السفر هو سبب ذلك، فعدت إلى التجوال في الشوارع وأنا أجر جثة هامدة، وأمضغ قلبا يائسا يحتفظ بذكرى سعيدة، ويحلق في سماء بلا نجوم… بلا أعياد” (ص 62).

وبعد،

عزيزنا الغالي،

كنتَ صديق الكلمة معتبرا إياها “وعيا إنسانيا”، و”دعامة الوجود وجوهر الحياة. ولولاها لكانت أيامنا خرساء، ولانعدمت كل القيم” (ص 31).

دافعتَ عن الإنسان. قلت بالتحديد “نعم لا شيء غير الإنسان.. الإنسان المناضل المتألم في نضاله، والساعي إلى إعطاء معنى، أو كرامة لألمه. يثور ضده أو يتقبله قبل أن يقاد إلى عالم الأموات” (ص 15).

ثم ربطتَ ما بين الوعي والثقافة والإنسان مؤكدا أن الالتزام بدون وعي لا قيمة له” (ص 78).

عزيزنا الغالي،

على صدرك الكريم، وعلى ثراك الطيب ألف وردة ووردة

على جبينك كل القبلات على الدوام، ولروحك السكينة والسلام.

(*) نص الكلمة التي قدمت بها كتاب “ليليات”، الإصدار الأول لمؤسسة حسن المنيعي للدراسات المسرحية والإبداع الأدبي والفني التي أحيت، بتعاون مع المركز الدولي لدراسات الفرجة، يومي 11 و12 نونبر، الذكرى الثانية لرحيل الدكتور حسن المنيعي حول موضوع “الثقافة النقدية عند حسن المنيعي: ثوابت ومتغيرات“.

Visited 26 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

محمد بهجاجي

ناقد وكاتب مسرحي مغربي