استقلالُنا المُحرَّم

استقلالُنا المُحرَّم
نجيب علي العطار
 
في حيّزٍ رماديٍّ بينَ حَيرَتَيْن، أجلسُ إلى أوراقي كمُقاتلٍ وصلَ إلى الجبهة بعد انتهاءِ الحرب بتسعٍ وسبعين سنة.. أولى الحَيْرَتَيْن قد اعتدتُ أن أحتارَها، وأختارَها أحيانًا على سبيلِ البِدْءِ؛ حيرَتي بقلَمي.. كيفَ له أن يكونَ مِطواعًا لعقلي الذي يضجُّ بالكلمات المُبعثرةِ كما لو أنّها قضايا عربيّة؟ أمّا الحَيرَةُ الثانية فغريبةٌ، كُلَّ الغرابةِ، عن أوراقي؛ إنّها حَيْرَةُ قلمي بي.. إنّها حيرَةٌ تبعثُ على الحَيرة.. كيفَ لكَ يا أنا، وأنتَ لُبنانيٌّ منذ أكثرَ من عشرِ سنوات، أن ترغبَ نفسُكَ في الكِتابةِ عن النكبةِ اللُّبنانيّة التي لم تزلْ، إلى اليوم، تُسمّى استقلالًا؟
 
   لستُ أدري بأيِّ الأجوبةِ أُجيبُ قلمي عن سؤالِه.. ولستُ أدري إنْ كان سؤالُه يحملُ قابليّةَ الطرحِ على هيئتِه التي طُرحَ عليها.. إلّا أنّه يبقى سؤالًا مشروعًا في بلدٍ تتبدّلُ حالُه تبدّلًا أقصويًا، إن جاز التعبير.. فمَرّةً يكونُ لُبنانُ وَطنًا ليسَ كمثلِه وَطنٌ، ولا عِدْلَ له خارجَ حدودِه.. ومَرّاتٍ، كما اليوم، يكونُ مِزبلةً لها ذائقتُها الخاصّة جدًّا في اجترار النتانَة والقَرَف وإعادةِ تخليقِه بصورٍ أكثر مأساويّةً وافظعَ إجرامًا.. مِزبلةٌ لها ذائقتُها المُمَيَّزَة والمُمَيِّزةُ لها عن غيرِها من المزابل العربيّة، وغيرِ العربيّةِ أيضًا.. وبين «الوَطَنِ» و«المِزبلة» نُصغي غيرَ مَرَّةٍ إلى هَلْوَساتِ آبائنا وأجدادِنا عن لُبنان الجميل الذي طُردوا منه.. نُصغي إليهم كأنّنا نستمعُ إلى آدمَ وحَوّاء يُخبرانِ ابنَيْهِما عن الجنّةِ التي هَبَطوا مِنها إلى الأرض.. والواقعُ أنّ أحدًا لم يُطرَدْ من هذه الجنّة كما طُردنا نحنُ؛ لُبنانيّو القرن الواحد والعشرين…
 
   حينَ أستمعُ إلى أحاديثِ الجنّةِ التي حُرِمنا منها يُراودُني عقلي وقلبي، بعدَ كُلِّ حديثٍ، سؤالٌ أقلُّ ما يُقالُ عنه أنّه حقٌّ مَشروع.. سؤالٌ لعلّه لم يُراودْ ابنَيْ آدمَ عندما عَرَفا للمَرّةِ الأولى أنَّ أبَوَيْهِما قد هَبَطا من الجَنّةِ إلى هذه الأرض.. سؤالٌ يُبنى على مُقتضاه، كما يُقالُ في الأدبيّات الحكوميّة.. سؤالٌ لا بُدَّ منهُ لنعرفَ مصير استقلالِنا المزعوم؛ أيَّةُ شجرةٍ أكلتُم، يا آباءنا، من ثمَرِها الخبيث؟ سيُجيبُ الآباءُ بأنّها الحربُ يا أولادَنا…
 
   يُثيرُ غضبي أولئكَ الذين لم تزلْ ألسنَتُهم، كما أفئدتِهم، تُبرّرُ لهم إجرامَهم في تلك الحرب.. وليسَ المقصودُ بـ «الإجرامِ» هنا إلّا المُشاركَةَ في تلك الحرب.. فهُما، أي الإجرامُ والإشتراكُ في الحَربِ، مترادفتان لا تفترقان أبدًا في قاموس الحروب الأهليّة.. وتفاديًا لمثل هذا الغضب سأخطفُ أبًا من الآباء يكونُ صادقًا في مُساءلتي إيّاه، وأُساءلُه…
 
   هل كُنتم في جنّةٍ يا أبي؟ كُنّا في مشروع جنّةٍ على الأقل.. هل كُنتم تأكلون من تلكُمُ الجَنّةِ رَغَدًا حيثُ شئتُم؟ رَغَدًا نعم، لكن ليس حيثُ نشاء.. ألَمْ يكُن في جنّتِكُم أشجارًا غيرَ شجرة الحرب؟ بلى، كُلُّ الأشجارِ كانت أمامَنا.. وماذا اختَرتُم؟ اخترنا شجرةَ الحرب.. ألَم ينهاكُم عقلُكُم عن تلكُمُ الشجرةِ يا أبي؟ بلى.. ولماذا أكلتُم منها؟ وَجَدْنا آباءَنا لها آكلِين.. ومَا أغواكُم حتّى اتّبعتُم آباءكم؟ أغوانا القَسَمُ باسم القضيّة يا ولدي.. من قاسَمَكُم بأنّكُم إذا أكلتُم من تلكُمُ الشجرة ستكونوا ممّن ترضى عنهُمُ القضيّةُ ويَرضَوْنَ عنها؟ أقسمَ لنا زُعماؤنا.. ولماذا أطعمتمونا ثمارَ تلكَ الشجرةِ رغمًا عنّا؟ إنّها ضريبةُ الحرب الأهليّة يا ولدي، الآباء يعقدون الصفقة والأبناء يدفعون الثمن.. ما الحربُ الأهليّةُ يا أبي؟ جريمةٌ طرفاها مُجرمان، يُقاتلون وما يَقتلون إلّا أنفسَهم ولكن لا يشعرون.. لماذا لا يشعرون؟ لأنّهم مُغرّرٌ بهم.. مَن يُغرّرُ بهم يا أبي؟ زعماؤهم الذين علّموهم القَتل.. ومَن جعلَ في جنّتِكُم من يُفسِدُ فيها ويَسفِكُ الدِّماء؟ الذي جعلَ زعماءَنا زعماءً يا ولدي.. ومن جعلَهم زعماءَ يا أبي؟ أبوكَ يا ولدي، أبوك.. فمن الملعون يا أبي؟ الآن أم يومَ أكَلنا من تلك الشجرة يا ولدي؟ بل في ذلك اليوم المشؤوم يا أبي، فليس لكُم الحقُّ أن تلعنوا مُجرمي اليوم فهُم قادتُكم في ذلك اليوم، هذا حقُّنا نحنُ فقط يا أبي، فلكلِّ عصرٍ ملعونُه، فمن كان ملعونُكم يا أبي؟ ملعونٌ من خرّبَ إنسانيّتنا، ملعونٌ من دفعَنا ليَقتُلَ بعضُنا بعضًا.. ما كانَ اسمُ جنّتِكُم يا أبي؟ كان اسمُها لُبنان.. ومتى استقلّتْ؟ لم تستقلْ بعد، لم تزل مُحتلّةً.. هل لي أن أُعبّرَ عمّا في نفسي يا أبي؟ قُل ولا تَخَفْ.. لقدْ كُنتمُ، وزُعماؤكم، مُجرمين يا أبي…
Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

نجيب علي العطار

كاتب لبناني