لعبة المرايا بين القاص عبد الجبار السحيمي والشاعر إبراهيم السولامي
صدوق نورالدين
حياتان
أ / أصدر الكاتب الراحل عبد الجبار السحيمي ثلاث مجموعات قصصية: “مولاي” / القاهرة (1965)، “الممكن من المستحيل”(1969) و”سيدة المرايا”(2007). وإذا كانت المجموعة الثانية والثالثة نالتا من الحظوة النقدية والتداول اهتماما موسعا، فالأولى لم تظفر بذات المكانة، بينما ضم كتابه “بخط اليد” (1996) المقالات القصيرة التي اشتهر بها عموده الموقع بالعنوان ذاته.
ب/ نشر الأستاذ الصديق والدكتور إبراهيم السولامي (1938) العديد من الآثار الأدبية والنقدية الجادة والموضوعية. ولعل نواة تآليفه – كما هو معروف- ديوانه “حب” (1967)، في حين نجد من دراساته النقدية: ” الشعر الوطني في عهد الحماية”، “تأملات في الأدب المعاصر”، “الاغتراب في الشعر العربي الحديث”، و”الاغتراب السياسي في الشعر العربي الحديث”، ثم “رأي غير مألوف”. على أن ما يضاف لهذه الآثار الكتابات الأدبية التأملية، إلى الحوارات التي تختصر مسار حياته وتشكل – إذ حق- سيرة ذاتية في صيغة حوارية أشير إلى “خطوات في الرمال”(2003)، و” في صحبة الأحباب”(2010) و”شعلة الرماد”(2013).
ت / وأورد في هذه الكلمة التي أتغيا من خلالها إبراز الحوار الرسائلي الذي تحقق بين الراحل عبد الجبار السحيمي والدكتور إبراهيم السولامي، مقتطفا ورد في تقديم الدراسة التي خص بها الشاعر الراحل أحمد المجاطي ديوان “حب”، والموسومة بـ”مشكلة الحرية في ديوان حب”، ويتضمنها القسم الثاني من كتاب “خطوات في الرمال”:
“هذه المجموعة الشعرية هي أول ديوان للشاعر الشاب إبراهيم السولامي، وعلى الرغم من أن هذه المجموعة تحمل اسم “حب” فإنها في الواقع ليست خالصة للحب وحده، ففيها إلى جانب قصائد الحب قصائد أخرى تتناول جملة من القضايا الثورية والوطنية والاجتماعية، غير أن هذه القصائد الأخيرة مجتمعة لا تشغل من الديوان إلا حيزا لا يكاد يصل إلى ثلثه وإن كان قريبا منه، وهذا في أغلب الظن ما جعل الشاعر يميل مع الوجداني المحض فيسمي مجموعته هذا الاسم الرومانسي الحالم “حب” مستجيبا بذلك لنداء القلب مديرا ظهره لصيحة الألم والجوع واليأس وهي أصوات يتردد صداها في الديوان بعنف وبحدة لا ينكرهما ضمير القارئ ولا يخطئهما وجدانه”. (ص/ 93)
التحية العابرة
عنون الأستاذ إبراهيم السولامي القسم الثاني من كتابه “خطوات في الرمال” بـ “في الطريق إلي”. والقصد حصيلة الكتابات الأدبية والنقدية التي كتبت عن منجزه وهو ما يشكل سيرة فكرية موازية جسدت شخصية الأستاذ السولامي، وذلك بأقلام وازنة من داخل المغرب وخارجه. وتستوقفنا من هذه الكتابات “التحية العابرة” التي خطها الراحل عبد الجبار السحيمي، ورسمت صورة عن بدايات العلاقة والأستاذ إبراهيم الشاعر، الإنسان، الباحث، الأستاذ والعميد:
“أعرف الصديق الدكتور إبراهيم السولامي من زمن بعيد، لعله يرجع إلى بداية الخمسينات، حيق قرأت له ذات صبح قصيدة مؤثرة في مجلة “الأطلس” كما أظن. عرفت عنوانه من إدارة المجلة، وكتبت له رسالة إلى القاهرة التي كان يدرس بكلية الآداب بها، أعلن عن إعجابي بذلك الحزن المكابر الذي تتضمنه القصيدة”. (ص/75)
واللافت في هذه التحية المتابعة الدقيقة للمسار الحياتي والمهني للأستاذ إبراهيم. وهو المسار الذي عكسه الإشفاق عليه لما أصبح عميدا، مخافة أن تسرقه المسؤولية من الإبداع، والفرح الغامر، حال عودته إلى التدريس بكلية آداب فاس:
“.. وفجأة أحسست بالإشفاق على الصديق إبراهيم، حين عين عميدا لكلية الآداب بالمحمدية”. (ص/ 75)
“.. وفرحت لكلية آداب فاس أن يعود لها أستاذها.. وفرحت لطلبة الكلية لأنهم يستعيدون أستاذا في جدية وكفاءة الدكتور السولامي.” (ص/76)
إن هذه التحية العابرة بمثابة نموذج إنساني صادق لما طبع الجيل المؤسس للأدب المغربي الحديث، وهو ما يفتقد له اليوم، حيث انعدمت القيم وسادت رغبات الكسب السريع على حساب العلمي والمعرفي.
رسالة عمرها أربعون سنة
يتضمن كتاب “في صحبة الأحباب”، رسالة بعثها الأستاذ إبراهيم السولامي للراحل القاص والصحافي عبد الجبار السحيمي.
للرسالة مناسبتان: الأولى عمرها أربعون سنة. وترتبط برسالة كان الراحل عبد الجبار السحيمي أرسلها إلى الأستاذ السولامي وهو تلميذ بالثانوية العامة بالقاهرة إلى جانب كل من محمد برادة وعلي أومليل، حيث ظل يحافظ عليها طيلة هذه المدة، وتشكل الدليل عن صداقة امتدت بامتداد الزمن، وانطبعت بالوفاء والبعد الإنساني السامي، وهو ما تحقق الحديث عنه سابقا في التحية العابرة. وأستسمح الأستاذ إبراهيم في إدراجها كما وردت ضمن الكتاب:
” أخي العربي المسلم
قد أضايقك بكتابة هذه السطور إليك. هذه السطور التي أبغي من ورائها صداقة بيننا تظل حية مع الأيام، فأرجو العفو.
وأيضا… قد تعجب لتطفلي، ولكن ليس في الإمكان إلا أن أكتب إليك، من جهة لأبعث لك بإعجابي على ما كنت تنشره في مجلة ” هنا كل شيء”، ومن جهة أخرى لأن عواطفك الشاعرية صادفت هوى في نفسي، أو قل عواطفي.
وقبل أن أنتهي دعني أقدم لك نفسي:
عبد الجبار السحيمي. شارع الجزاء. الجنين رقم4. الرباط. هوايتي الأدب بنوعيه. أزاول دراستي بمدارس محمد الخامس. القسم التكميلي الثالث.
وتقبل آمال وتحيات هذا المجهول.
عبد الجبار السحيمي.” (ص/ 145)
ويشير الأستاذ السولامي إلى الخاصات الأسلوبية التي تفردت بها الرسالة، وهو ما يشمل في الجوهر، كتابات الراحل عبد الجبار برمتها. وأقصد: ” الجملة القصيرة، المعنى الواضح والشاعرية”.
وأما المناسبة الثانية، فيحق اختزالها في الفقدان. فالمرض الذي مني به الراحل حال بينه والكتابة، بين القلم والورقة البيضاء، وهو ما اعتبره الأستاذ إبراهيم خسارة في ميدان عرف بأن له فيه صولات دلت وتدل عن جرأة، كفاءة وموضوعية. يقول الأستاذ إبراهيم مخاطبا الراحل:
” لم تكن خطيبا يبحث عن الجمل الطنانة، بل ظللت شاعري العبارة، متدفق الأحاسيس دون إسفاف أو حقد أسود. كان الوطن، كل الوطن، في قلبك ولسانك. فأنت الصحفي القادر على كتابة كلمات أشبه بالنبضات، ولكنها قد تنقلب إلى طلقات.” (ص/ 146)
إن لوعة الغياب، الدافع لحسرة الأستاذ إبراهيم البليغة وهو يمر بباب جريدة العلم، الحسرة على زمن جميل كان، وأصدقاء ” في زمن عز فيه الأصدقاء”. وأحب أن أذكر، وأذكر في هذا المقام بيومية أوردها المفكر والروائي الأستاذ عبد العروي في الجزء الأول من “خواطر الصباح” وبالتحديد عن سنة (1973):
” نوفمبر15
جاء في ركن خواطر طائرة الذي يكتبه عبد الجبار السحيمي في جريدة العلم:
” لا تربطني بالأستاذ العروي غير تقديري لكتاباته. لذلك فقد شعرت بكثير من الخيبة حين سمعت أنه أبعد من الجامعة. فمن يستطيع أن يبرر مثل هذا الإجراء؟ أنا لا أقول إن مثل هذا الإجراء يجب أن يراجع، لكنني أقول إن العقلية التي استولدت هذا الإجراء هي التي يجب أن تراجع حتى لا تسهم في إفقار جامعتنا أو حرمانها من إطاراتها الجيدة”. (ص/ 211)
صديقي عبد الجبار.. أيها المغفل مثلي
يستحضر الأستاذ السولامي في كتابه الأخير _ وإلى حد كتابة هذه التأملات _: “شعلة الرماد”، شخصية الراحل عبد الجبار السحيمي متمثلا قيم الوطنية والحس النضالي والإنساني، من خلال مقالة وازت بين الموضوعية والحس الساخر. جاءت بداية المقالة وفق الصيغة التالية:
“ذات يوم، كنت رفقة صديق كاتب، وإذا بالصديق عبد الجبار السحيمي يهتف لي قائلا: سي عبد الكريم غلاب يريد أن يتحدث إليك. ثم تهادى صوت أستاذي عبد الكريم يطلب مني أن أشارك في حفل سيقام في ذكرى الزعيم علال الفاسي بإلقاء بعض من شعر الزعيم. أجبته: هذا أمر يسعدني، وانتهت المكالمة.”(ص/156)
تجمع المقالة/ الحكاية بين أربعة أدباء: الراحلان عبد الكريم غلاب وعبد الجبار السحيمي، والأستاذ إبراهيم السولامي أمد الله تعالى في عمره، والذي آثر عدم ذكر الطرف الرابع بالاسم فبقي مجهولا، علما بأنه يشكل محور المقالة في شموليتها.
سيستغرب الكاتب المجهول لسرعة موافقة الأستاذ السولامي على الدعوة الموجهة إليه، وكأني به أراده أن يدخل في نقاش أو رفض للدعوة. من ثم عقب عليه بالقول:
“لكني لا أستطيع رد طلب أستاذ مناضل هو عبد الكريم غلاب. هكذا تعلمنا في المدرسة الوطنية. نقدر أساتذتنا ونجلهم”. (ص/ 156)
لبى الأستاذ دعوة الإلقاء إلى جانب الشاعر أحمد مفدي، على وقع نغمات آلة القانون كما عزف عليها الراحل صالح الشرقي. وسيسأل الكاتب المجهول في المستوى الثاني من المقالة الأستاذ السولامي بالقول:
“- ألست ترى معي أن عبد الجبار من أكبر المغفلين؟” (ص/157)
وبرر السؤال بأنه قد كان على الراحل الالتحاق بديوان من دواوين الوزارة التي سيرها الحزب، أو سفارة ما، مع ما يدره المنصب من “راتب سمين”. وهنا أجاب الأستاذ إبراهيم بأنه يكفي الراحل فخرا كونه استطاع أن يخلق من ملحق العلم الثقافي “مشتلا” كما “واجهة مشرقة للثقافة المغربية” وفق اعتراف الجميع داخل الوطن وخارجه.
وهنا أورد الأستاذ إبراهيم صورتين: الأولى تذكر ببداية العلاقة والراحل مما جئنا على ذكره، لولا أنه أضاف بأن عبد الجبار السحيمي في بداية التحاقه بجريدة العلم أرسل له مقالة رفضت ولم تنشر من طرف مدير الجريدة حينها محمد التازي، وما يزال يحتفظ بها إلى اليوم.
وأما الصورة الثانية، فتجسد ما ناله الراحل من صفات سلبية من كاتب لم يذكر اسمه، وفي جريدة تصدر بالبيضاء، فنعته بـ”العجرفة” و”الترفع” ليتراجع بعد وفاته بكثير من “السماحة” و”التقدير”، وهو ما أدرجه الأستاذ إبراهيم في باب القول المأثور “اذكروا موتاكم بخير”.
ونجد الكاتب المجهول في المستوى الثالث يصف الأستاذ إبراهيم بالغفلة ذاتها، بالنظر إلى كونه يستنكف في عفة وسماحة عن سحب مكافآته المادية من جريدة العلم، معتبرا بأنها مدرسة “فهل رأيت أستاذا يدفع الأجور لتلامذته؟”. والأمر ذاته حدث وهو يرأس “لجنة جائزة بلافريج”. وهنا قال المجهول بأنه سيعد كتابا تحت عنوان “مدرسة المغفلين”، فرد عليه الأستاذ إبراهيم بالقول:
” _ إياك أن تسميه بهذا الاسم، فقد سبقك إليه توفيق الحكيم من عشرات السنين أيها المغفل.”(ص/160)
قطعة فريدة
جاء في كلمة للراحل محمد الصباغ أوردها على ظهر كتاب “بخط اليد”:
” قطعة فريدة هذا الفتى، في صمته، ونزواته، وتألقاته، ورفضه، هذا الذي يطرق بالكلمة الكبيرة _ كل صباح_، الأرتاج الصدئة، ثم يمضي في طريقه بسيطا، كقمحة، كغصن نعنع، ولا يلوي وراءه. ابن الهنيهة هو. إذا ما أحرقته، أحرقها”.