عن كتاب “رأي غير مألوف” للأستاذ إبراهيم السولامي
عبدالجبار العلمي
صدر كتاب ” رأي غير مألوف” للدكتور إبراهيم السولامي في طبعته الثانية المزيدة سنة 2019 . والكتاب يحتاج إلى دراسة متأنية رصينة ، شأن أعمال المؤلف الأخرى في مجال دراسة الشعر العربي الحديث في المشرق والمغرب. ويضم هذا الكتاب كصنوه “في صحبة الأحباب” مجموعة من المقالات والدراسات الأدبية والنقدية. وقد اختار المؤلف عنوان الكتاب من مقال من مقالاته يحمل نفس العنوان (ص: 83 ). وهو عتبة تثير الكثير من الفضول والتشويق قبل أن يدخل القارئ إلى عالم الكتاب، فهل ثمة رأي أو آراء داخل الكتاب تكتنفها الغرابة، ولا يجدها القارئ مألوفةً ضمن صفحاته؟ هلِ هو مقبل على الوقوف على أفكار وآراء يعتورها الكثير من المتناقضات والمفارقات غير المقبولة التي كثيراً ما نصادفها في حياتنا بصفة عامة ، وفي حياتنا الثقافية بصفة خاصة؟ أم هي عتبة من عتبات النص التي تثير نزعةَ الإنسان الساعي دائماً إلى معرفة الجديد المجهول غير المألوف عموماً؟
يخرق الكاتب أفق انتظارنا حين نقرأ المقالة المذكورة، فالذي أثار استغرابه هو رأي غريب “غير مألوف” للكاتب السياسي الحزبي الأستاذ فتحي رضوان، ومفاده أن جيل الفكر العربي الحديث ورواد الأدب المعاصر أمثال طه حسين والعقاد وسلامة موسى والمازني وهيكل وغيرهم من معاصريه لا يُعدون رواداً في رأيه ، فهم لم يكتبوا إلا مقالات جمعوها في كتب ، وأن إنتاجهم كان في الغالب جزئياً غير متكامل، أي لم يكن لديهم مشروع فكري أو أدبي متكامل . ويفند الأستاذ السولامي هذا الرأي بقوله الذي أود أن أنقله هنا حرفيا: «لئن كان الأمر كذلك ، فمن ذا الذي قاوم الاستعمار في أوطانهم ؟ ومن فتح نوافذ الحضارة الحديثة بلغاتها وتقدمها التقني؟ ومن الذي أخرج للناس أمهات كتبهم محققة مشروحة؟… بل إن جيل العقاد وطه حسين أثر بسلوكه ومواقفه في مساعدة من أتموا دراساتهم بالرأي والتوجيه والبعث إلى الأمم البعيدة قصد الاغتراف من عيون غير مألوفة؟»
وسنجد العديد من مظاهر الغرابة وغياب الألفة التي تتضمنها العتبة النصية (العنوان) في ثنايا الكتاب الذي مازالت قضاياه تحتفظ بتوهجها وجدتها وراهنيتها.
صدَّرَ الباحثُ كتابَه بتقديم موجز طرح فيه مفهومه للكتابة بالنسبة إليه، حيث يعتبرها «كُنْهَ الحياة، وفَرْمَلة مؤقتةً لتغيير طعمِها الرتيب. وهي ـ في رأيه ـ أنانية بمعنى من المعاني، لأن الكاتب يتوهم أنه سيضيف إلى هذا الرُّكام العظيم من المؤلفات إضافةً ذاتَ شأن يمكن أن تجد مكانها ضِمنَه». ورغم أن ثمة دواعي كثيرة أفرزها الواقع المعيش تبعث على اليأس والإحباط والإحساس بلا جدوى الكتابة ، فإنه بعد توقف سنوات، عاد إلى ممارستها غير فاقدٍ الأملَ في جدواها وقيمتها وخلودها. وفي هذا التقديم يشير المؤلف إلى العقود التي قضاها في الجامعة مكوِّناً أجيالاً متتالية من الطلبة ، أثبت العديد منهم وجودَهم في المشهد الثقافي والأدبي المغربي في مختلِفِ مجالات الكتابة والإبداع، كما يذكر مراحل تكوينه سواء في المغرب أو في مصر التي هاجر إلى متابعة الدراسة بها، حيث تلقى العلم على أساتذة أفذاذ، قبل أن ينتقل إلى إتمام دراسته بباريس. وإذا كان يذكر ما حَصَّله من علم ومعرفة خلال سنوات التكوين الطويلة، فهو يؤكد على قناعة مفادها “أن آفة المُتعلم أن يظنَّ يوماً أنه تعلَّم”. لقد قدم الأستاذ إبراهيم السولامي بين دفتي هذا الكتاب آراءَه وأفكارَه في العديد من القضايا الأدبية والاجتماعية وفي بعض الشخصيات التي ربطته بهم روابط متينة أو عابرة.
ويمكن أن نقسم الكتاب إلى قسمين:
القسم الأول: يشتمل على تسع عشرةَ مقالةً ودراسةً نقدية، تتوزع بين مواضيع متنوعة: تأبين صديق ـ ملامح شخصيات بارزة تنتمي إلى مجالات متعددة : ثقافية وفنية ووطنية كما عرفها عن كثب في الغالب الأعم ، يذكر منهم: الأستاذ العميد محمد عزيز الحبابي والشاعر أحمد المجاطي رحمه الله، صديقه وزميله في التدريس بكلية آداب ظهر المهراز بفاس، والأستاذ محمد برادة صديق الدراسة بمصر وزميل العمل بالكلية المذكورة في شبابهما الغضـ بعض طلبته الذين أصبح لهم صيت ذائع في عالم الكتابة والإبداعـ شخصيات فنية مرموقة أمثال المطربين محمد فويتح وإسماعيل أحمد والملحنين عبدالرحيم السقاط وأحمد الشجعي رحمهم الله جميعاًـ ومن الشخصيات الوطنية التي يذكرها بمحبة وتقدير: المجاهد عبدالكبير الفاسي الذي ساعد المؤلف ورفيقه «علي أومليل» لكي يلتحقا بدراستهما في المشرق بتأشيرة من لدن صديقه القنصل السوري في مدريد. يتحدث في مقال “عطر الأحباب” حديثاً شجياً عن أستاذته الدكتورة سهير القلماوي بكلية الآداب بالقاهرة، كما يذكر ندوة العقاد الذائعة الصيت التي كان يعقدها في بيته كل صباح جمعة، وكان الأستاذ إبراهيم السولامي مواظباً على حضورها. وفي مقال بعنوان “الدبلوماسي”، يوجه الباحث نقداً لبعض الملحقين الثقافيين الذين يمثلون بلادنا يتصل بعدم كفاءتهم وقدرتهم على القيام بالإشعاع الثقافي المطلوب. ويقارن بين الملحق الثقافي في الماضي والحاضر ، ففي الماضي كان الملحقون الثقافيون الذين يمثلون بلادنا من شخصيات لها وزنها في عالم الثقافة والأدب أمثال الشعراء والكتاب : عبدالقادر حسن ـ عبدالكريم بنثابت ـ عبدالمجيد بن جلون ـ محمد التازي ـ عبدالهادي التازي ـ أحمد عبدالسلام البقالي ـ عبدالخالق الطريس، فقد كان لهم إشعاع ثقافي وأدبي وسياسي مرموق في السفارات التي عملوا بها. ويذكر الدكتور إبراهيم السولامي مثالاً ساطعاً لمثل هذا التمثيل الثقافي الرفيع، الشاعر السوري الكبير نزار قباني الذي مثل بلده ثقافياً في عدة عواصم من العالم آخرها مدريد بإسبانيا. يعالج الكاتب في مقالات ودراسات أخرى من هذا القسم، مجموعة من القضايا والأحداث الثقافية التي كان يرصدها و يواكبها في حينها، ولا تخلو هذه الكتابات من نقد يتسم في بعض الأحيان بالحدة، لا سيما حين يتعلق الأمر بدفاعه عن اللغة العربية في مقاله عن “الندوة الدولية حول الأدب والتسامح” التي نظمت بكلية آداب القنيطرة سنة 1994، لأنها اقتصرت على كتاب اللغة الفرنسية، وأقصت أساتذة الشعب الأخرى ومنها شعبة اللغة العربية. وتدفعه غيرته إلى نعت الفرنسية باعتبارها لغة الاستعمار بـ”جرثومة ” تقسم المجتمع إلى “نخبة” وأهالي. ما يعني أن الاستعمار مازال قابعاً بين ظهرانينا بعدة ألوان وأشكال (ولا يخفى طبعاً أنه هنا لا يقصد لغة الحضارة الفرنسية)، أو الموقف من الأدب المغربي المكتوب باللغة الفرنسية الذي يرى أنه يعري عن خفايا مجتمعه وعيوبه ولا يظهر إلا الجوانب السلبية منه خاصة في البوادي المغربية، وذلك في دراسته القيمة حول رواية “شمس الدياجي” لعبدالحق سرحان التي نال بها الجائزة الفرنسية الأولى للعالم العربي سنة 1993م. والرواية ـ كما قدمها الأستاذ إبراهيم السولامي بكل موضوعيةـ رواية محكمة البناء، مليئة بالأحداث والشخصيات، تشد القارئ إلى قراءتها من الدفة إلى الدفة، إلا أن ما يعيبه عليها أنها تقدم صورة مشوهة عن أبناء جلدته للأخر الغربي، بينما يغض البصر عن الصورة الإيجابية التي تمثلها القيم النبيلة والتقاليد الأصيلة التي مازال يتشبث بها الإنسان المغربي في البادية. إن رواية عبدالحق سرحان ـ كما يبدو ـ موجهة إلى القارئ الغربي (هنا: الفرنسي) لأنه يحب هذا النوع من الأدب الذي يصور بعض المظاهر الفولكلورية في المجتمع ، ويتجاوب مع مخياله الذي مازال متأثراً بعوالم ألف ليلة وليلة والأجواء السحرية لعالم الشرق.. ولا يخفى أن بعض تلك الأعمال الأدبية المكتوبة بالفرنسية، كانت تستهدف الجوائز التي تُقَدَّمُ لمثل هذا الأدب الفرانكفوني. ولنا في ذلك شواهدُ عديدة من أبرزها رواية “ليلة القدر” la nuit sacré للطاهر بن جلون الذي حصل عنها على جائزة الغونكور الفرنسية GONCONRT سنة 1987م. والرواية كما نعلم، تركز على الجانب الفولكلوري والعجائبي الذي يستهوي الآخر الغربي، ويجد فيه مجالاً للتسلية بواقع المجتمعات المتخلفة التي ساهمت الدول الاستعمارية نفسها في تخلفها وإعاقة انطلاقتها واستقلاليتها. وقد كتب الأديب القاص الروائي الراحل أحمد عبدالسلام البقالي حين صدورها، دراسة قيمة ضافية حولها بعنوان “رواية ليلة القدر تملُّقٌ للمَشاعر الصليبية”، نشرها في مجلة “دعوة الحق”، عدد 270 ، سنة 1987 م. اتسمت بالعِلْمية والنقد الموضوعي وغيرةِ صاحبِها على مجتمعه وتقاليده الإيجابية الأصيلة، وقد برر الكاتب أسباب رفضه لما جاء في الرواية، بقوله: “من قراءتي الأولى لرواية (ليلة القدر)، أستطيع أن أقول إنها لن تعجب السواد الأعظم من المغاربة، بل والعرب والمسلمين، وهذه أسبابي:
الرواية مكتوبة ومحبوكة بعقل ميكيافيللي يؤمن بأن”الغاية تبرر الوسيلة”. والغاية هنا هي الحصول على الجائزة بأي ثمن… (وإن كان) التعريض بعددٍ من القيم الروحية، والأخلاقية، والاجتماعية الإسلامية العزيزة على المسلمين. فالرواية مبنية في جوهرها لاسترضاء وتملق المشاعر الخاصة.. “وتدور أحداث الرواية في جو مأساوي مظلم حسا ومعنى، تسوده الكراهية، والحسد، والظلم، والشعوذة، والقسوة، والشراسة، وانتهاك الأعراض، ولا إشارة فيه إلى طبع أهل (مراكش) و(أكادير) المرح السمح، وجوها المشْمِس المُشرق العامر بالبهجة والمسرات، والموحي بالدعة والطمأنينة والسلام”. إنه أدب مكتوب باللغة الفرنسية ، بعيد عن الهوية المغربية العربية الإسلامية في مضمونه ورسالته ، موجهٌ إلى القارئ الفرنسي وإلى اللجان المختصة بمنح الجوائز للأدب المكتوب بهذه اللغة، كما أكد ذلك الأستاذ عبدالسلام البقالي في دراسته. لماذا لا يقدم الكتاب الذين يكتبون باللغة الفرنسية الصورة الأخرى المشرقة الإيجابية للإنسان المغربي سواء في المدينة أو البادية المعروف بدماثة خلقه وكرمه وشهامته وعزة نفسه وكفاحه اليومي المرير من أجل لقمة عيشه بجهد وشرف رغم الفقر والحاجة وسنوات الجفاف التي عرفتها بلادنا في عدة مواسم؟
.. وذهب الكاتب الروائي مبارك ربيع إلى حد «طرد هذا الأدب المكتوب بالفرنسية من جغرافيا الانتماء إلى الأدب العربي»، وقد صرح بذلك قائلا: هذا رأي قد يخالفني فيه الكثير، لكنني قلت ذلك بصراحة دائماً، وهو أن الأدب ينسب إلى لغته، حتى الفرس الذين كتبوا بالعربية ندخل إنتاجهم في الأدب العربي، والذين يكتبون بالفرنسية يدخل إنتاجهم في اللغة الفرنسية كإبداع … إنهُ أدبٌ مغربي مكتوبٌ بالفرنسية، والأولى في نظري أن يقال إنه أدبٌ فرنسي كتبهُ مغاربة». (كُتَّاب الفرنسية المغاربة.. مستقبل مجهول وخناق يضيق ، الطاهر حمزاوي ، جريدة ” المساء “، يوم 20 – 04 – 2020). وهذا ما أكده المؤرخ الروائي المغربي عبد الله العروي بقوله: «إنّ الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية هو أدب فرنسي بأقلام مغاربة» (الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية بعيون أدباء مغاربة / حسن نرايس، ج. الاتحاد الاشتراكي، 26 / 07 / 2013 م).
إن العديد من الكتاب المغاربة والمغاربيين الذين كانوا يكتبون باللغة الفرنسية ، كانوا مضطرين إلى استعمالها بحكم ظروف الاستعمار وهيمنة لغته وإرادته ترسيخها في مستعمراته، لكن الرسالة التي كان يحملها عموماً، كانت رسالة نبيلة هي مناهضة الاستعمار، والدفاع عن الهوية الثقافية والفكرية لوطنهم وليس لفرنسا. ولا يخرج بعض كتابنا المعاصرين الذين يكتبون بالفرنسية عن هذا التوجه الصحيح ، نكتفي هنا بذكر مثالين هما: الشاعر الروائي المسرحي عبدالطيف اللعبي الذي استخدم هذه اللغة لخدمة القضية الفلسطينية وغيرها من القضايا المتعلقة بالحرية والديمقراطية وكرامة الإنسان في بلاده؛ الأستاذ الباحث الناقد المزدوج اللغة عبدالفتاح كيليطو الذي استخدمهاـ إلى جانب لغته الأم التي يجيدها ـ لتعريف الآخر الغربي بكنوز أمته الأدبية وحضارتها الشامخة من خلال منجزه الكتابي الباذخ الذي كرسه كله للثقافة العربية ولتراثنا الأدبي المتنوع الغني.
بعد هذا الاستطراد الذي كان لابد منه، خاصة وأن موضوعة الكتابة باللغة الفرنسية ، والتهميش الذي تتعرض له العربية من الموضوعات التي شغلت بال الأستاذ إبراهيم السولامي، سواء في هذا الكتاب، أو في دراساته التي نشرها في بعض منابر أدبية خارج الوطن. (انظر رأيه في مجلة الدوحة، العدد 19، السنة: 1977م ).
ويوجه الأستاذ السولامي في مقاله الموسوم بــ«بول بولز وأمجد الطرابلسي» نقداً لاذعاً إلى الجهات الثقافية والإعلامية التي تُكَرِّمُ بعضَ الكتاب الغربيين الذين يعيشون بين ظهرانينا، وتعلي من شأنهم وشأن أدبهم، ويفخر بعض الناس بمقامهم في مدنهم. ويتعلق الأمر بالكاتب الأمريكي “جول بولز” الذي أقام سنوات طويلة بمدينة طنجة، في حين أن كتابته تتجه اتجاهاً سلبياً هدفه تدمير هوية المجتمع وقيمه الأصيلة بكتابة روايات يستمد مادتها من لدن رواة مغاربة يروون عن مغامراتهم العجائبية الماجنة وظروف حياتهم القاسية وواقع الناس البائس. (والمعروف أن هذا النوع الأدبي يدخل في إطار الرواية البيريسكية)، فيكتبها بالإنجليزية ثم تترجم إلى الفرنسية. وهو يعبر عن ذلك بصراحة وجرأة كبيرتين “بدعوى الواقعية والصدق الفني وحرية الاختيار والبحث عن الحقيقة” (ص: 78)، فضلاً عن أنه لا يستنكف أن يصرح في استجواب تلفزيوني، أنه يكتب بعض مقاطع رواياته الموغلة في الخيال تحت تأثير تناولِه “المعجون”. (ص : 78). يذكر الأستاذ السولامي بمرارة أمثال هؤلاء الأدباء الغربيين الشواذ سلوكاً وكتابة الذين يعيشون بيننا، ليعقد مقارنة لها دلالتها العميقة بين هؤلاء وبين “أدباء شرفاء منحونا من قلبهم وعقلهم وزرعوا في أرضنا الشمم، والرجولة والإخلاص، لكنهم لم يحظوا بما هم جديرون به من تقدير وإكبار” (ص: 79). ويذكر في مقالته العديد من الأساتذة والأدباء والعلماء الذين أمثال الدكتور نجيب البهبيتي أستاذ الشعر العربي القديم، والدكتور صالح الأشتر أستاذ الأدب العباسي، (وقد كان هذا الأخير شاعراً رقيقاً خلَّف ديواناً عن المغرب لم يتح طبعه. وكان ينشر في مجلة “أقلام”، وجريدة “العلم”، وما زلتُ أذكر أنه نشر بها قصيدة جميلة بعنوان “الجلباب والبحر”) . ومن بين الأساتذة الذين يذكرهم المؤلف بفخر واعتزاز ومحبة وتقدير أستاذنا الفاضل الدكتور أمجد الطرابلسي الوزير السابق لوزارة التربية والإرشاد القومي في عهد الوحدة بين مصر وسوريا. “قضى في رحاب الجامعة المغربية أكثر من ربع قرن.. فالأستاذ أمجد كان غزير المعرفة، دمث الخلق، عفيف اللسان، حريصاً على مواعيد دروسه، مخلصاً في أداء الواجب… أشرف على عشرات الرسائل الجامعية، وناقش عدداً لا يحصى منها” (أنظر: ص: 79 وما بعدها)، ويسترسل الأستاذ السولامي في ذكر شيم الأستاذ أمجد رحمه الله، فهو المربي الأصيل.. ومن الزاهدين في الأضواء عاش لعمَله العِلمي الرصين ولطلابه الذين أحبوه وقدروه حق قدره ، فَكَرَّمُوهُ في مناسبة علمية باذخة بكلية الآداب بالرباط. والمعروف عن أستاذنا أمجد الطرابلسي حبه للمغرب والمغاربة. يقول الأستاذ السولامي: “وما أشك في أن أستاذنا العزيز لو خير بين أوربا والمغرب لاختار وطنه الثاني العربي” (ص: 80). كان الأستاذ أمجد شاعراً يتميز شعره بشفافية لغته ومعانقته للقضايا القومية الكبرى، ولتواضعه سمى ديوانه الوحيد بعنوان “كان شاعراً”. ويستشهد الكاتِبُ في مقالته هذه ببعضِ المقاطع من قصائده، لا يتسع المقام هنا لإيراد شواهد منها. (أنظر: ص: 80 وما بعدها).
القسم الثاني:
يتوزع هذا القسم من الكتاب مجموعة من الدراسات حول دراسة الشعر المغربي تنظيراً وممارسة.
ومن الجدير بالملاحظة أن هذه الدراسات تتميز بالتنوع في أشكالها والغنى في القضايا التي تتناولها بالدراسة والتحليل، ومن شأن هذا التنوع في طرائق مقاربة المتون الشعرية والقضايا المختلفة التي تعالجها، أن تبتعد بالقارئ عن الرتابة والإملال، وتدخله في أجواء تتسربل بالمتعة والفائدة.
ـ ففي الموضوع الأول “علال الفاسي شاعراً ” ، انصب اهتمام الباحث على أهم موضوعتين في شعره: الشعر الوطني والشعر الذاتي الوجداني ، وقد لاحظ خلال دراسته للمتن الموسع الذي تتضمنه دواوينه الأربعة أنه يتميز بالتداخل بين هذين المستويين. وقد اتجه في شعره الوطني إلى الدعوة الإصلاح والنهضة التي كانت أصداؤها تصل إلينا من المشرق، وهكذا امتلأ شعره بالدعوة: إلى التعليم وتعميمه بين أبناء الشعب بدون تمييز وتعليم البنات باعتبارهن نصف المجتمع والدعوة نهوض الأمة والأخذ بأسباب التقدم، وإلى الوحدة العربية والتعاون بين الدول الإسلامية، وغير ذلك من القضايا التي تهم نهضة الأمة المغربية والعربية عموماً وانعتا قها من نير الاستعمار الغاشم. ويلاحظ المؤلف قلةَ عناية علال الفاسي في شعره الوطني بجماليات الفن الشعري، لأن الشاعر كان مهموماً بالقضايا الوطنية والقومية، يوظف شعره من أجل التعبير عنها وخدمتها، بخلاف الشعر الذي أنتجه في المنفى، فهو شعر وجداني، يتميز بالتصوير الشعري البارع، والتعبير الجميل عما يعتمل في ذاته من أحاسيس الاشتياق والحنين إلى الزوجة والابنة ومراتع الصبا السعيد في أحضان الوطن. ومن الظواهر الفنية التي وقف عليها الكاتب في شعر علال الفاسي، تنقله بين أشكال شعرية متنوعة من موشحات وأناشيد ورباعيات.. وغيرها. ويشير المؤلف في ورقته البحثية إلى ظهور نهضة أدبية في الشمال والجنوب بعد ظهير 1930 من خلال إصدار الوطنيين مجلات ثقافية وأدبية في الشمال والجنوب.
ـ وفي دراسته “تأملات في شعر أحمد مفدي”، يرى الأستاذ إبراهيم السولامي أن الخلاف الإيديولوجي بين المثقفين والمبدعين المغاربة، أدى إلى تهميش وإهمال مبدعين لهم شأنهم ومكانتهم في المشهد الشعري المغربي المعاصر. ومن هؤلاء الشاعر السبعيني أحمد مفدي، فلم يحظ إنتاجه الشعري بما هو جدير به من اهتمام، ولم تكتب حوله إلا دراسات قليلة. ولعل انغماس الشاعر في العمل العام المتمثل في إدارة وتدبير الشأن المحلي في مدينة كبيرة مثل مدينة فاس، وابتعاده النسبي جراء ذلك عن المشهد الشعري المغربي، كان لها يد في تناسي إنتاجه الشعري. والشاعر أحمد مفدي ينتمي إلى كوكبة من الشعراء أغلبهم نشأ في رحاب كلية الآداب بظهر المهراز بفاس أمثال أحمد بنميمون ومحمد بنطلحة وحسن الأمراني وغيرهم، وقد بدأوا ينشرون أشعارهم في أواسط الستينات قبل هزيمة 1967م.
يتصدى الباحث في هذه الدراسة إلى مقاربة ديوانين اثنين للشاعر هما: “في انتظار موسم الرياح” و”الوقوف في مرتفعات الصحو”. ويرى في هذه المقاربة أن هذين العملين يمثلان تجربة شعرية تمتد من 1971 م. إلى 1987م. وتعكس موضوعين أساسيين هما: الوعي التاريخي والوعي الفني. فبخصوص الوعي التاريخي، يلاحظ الباحث أن الشاعر عُني في تجربته الشعرية بقضيتين مترابطتين: قضية الوطن المغربي ووحدة التراب الوطني من جهة، وقضية الوطن العربي ووحدته المأمولة من جهة أخرى. أما بخصوص الوعي الفني، فيُعْنى فيه الباحث بالنواحي الفنية في شعر الشاعر من خلال ديوانيه المدروسين، ويركز بالخصوص على ما يلي : أ ـ المعجم الشعري الذي يمتح من مخزون الشاعر اللغوي القديم، وقراءاته العاشقة للشعر الجاهلي، وتأثره بكتاب أستاذه الدكتور نجيب البهبيتي. ب ـ البعد عن الانزياح في لغته الشعرية إلى درجة الغموض غير المقبول. ج ـ الثراء اللغوي واستلهام التاريخ، واستدعاء الشخصيات والرموز التاريخية والمعاصرة . د ـ اعتماد الشاعر التفعيلة أساساً موسيقياً في شعره منذ البدايات. ويرى الباحث أن الشاعر أحمد مفدي يتخذ الشعر وسيلة للتعبير “عن عشقه لبلاده ومبادئه “، ويؤمن بأنه رسالة تخدم قضايا الإنسان الذاتية والموضوعية بأدوات فنية بليغة.
ـ في ديوان ” الولد المر ” للشاعر محمد علي الرباوي، يتناول الباحث ظاهرتين أساسيتين : الأولى معنوية، وتتعلق بالنزوع إلى الروح الإسلامية التي نجدها عند شعراء المغرب الشرقي وأبرزهم حسن الأمراني ومحمد علي الرباوي ومحمد بنعمارة رحمه الله وغيرهم. ويرى الكاتبُ أن الشاعر ، وإن كان ينتمي إلى اتجاه الشعر الإسلامي، إلا أنه كان يحرص على أن يكون له صوته الخاص، فيترك مسافة بينه وبين رفاقه في الاتجاه، ليعبر عن معاناته الذاتية الخاصة، وعن الصراع المحتدم في أعماقه بين الروح والجسد، بين إغراءات الحياة، والتعلق بعوالم الإيمان والمطلق، مع وعيه الراسخ بضرورة توفر شعره على الشِّعْرية وابتعاده عن الشِّعَارية والنزعة الدَّعوية. أما الظاهرة الثانية، فهي فنية، وتتمثل في استخدام الشاعر التناص أو (التداخل النصي) باعتباره “قيمة جمالية ودلالية.. ووسيلة من وسائل التعبير الشعري إلى جانب العناصر الشعرية الأخرى”. (أنظر: التَّناص في شعر الرباوي، د. المختار حسني، ص: 6). وقد أورد الباحث مجموعة من الشواهد من التراث الشعري القديم التي وظفها الشاعر في مواضعها المناسبة لخدمة الدلالات التي يتوخاها، والرسالة الشعرية التي يود إيصالها إلى المتلقي بوسائل فنية مؤثرة نابعة من التراث المشترك بينهما. ويرى المؤلف أن الشاعر وُفِّقَ في اشتغاله على آلية التَّناص في شعره، مستأنساً بذوقه السليم، واطلاعه الواسع على المتن الشعري القديم.
ـ رصد الباحث دراسته الموسومة بـ”الثابت والمتحول في القصيدة العربية” لعقد مقارنة بين قصيدتين كُتبتا حول موضوع واحد هو: مدينة “سبتة” المحتلة. الأولى لشاعر محسوب على الاتجاه الكلاسيكي هو الشاعر محمد الحلوي المعروف بكتابة القصيدة العمودية كما عرفناها لدى شعراء الإحياء بمصر. أما القصيدة الثانية فهي لشاعر ينتمي إلى اتجاه الشعر العربي المعاصر القائم على نظام التفعيلة، هو أحمد المجاطي. وقد حاول المؤلف من خلال مقاربته النصَّيْن النموذجين، بيانَ ملامح الثبات والتحول في القصيدة العربية. وانطلق من قناعة مؤداها أن التغيرات التي أصابت القصيدة العربية الحديثة والتي نتجت عن “دراسة وتمكن من تمثلِ الأصول لغةً وإيقاعاً وتركيباً، هي أقرب إلى طبيعة التطور، لأنها تجمع بين ملاءمة العصر والحفاظ على العلاقات الاجتماعية بقيمها ومثلها وكل مقوماتها المتراكمة عبر العصور”. (ص : 116). وهذا ما يراه الناقد محيي الدين عبدالحميد في دراسته الحداثةَ في شعر المجاطي ، فالحداثة عند الناقد “تعبير عن الوجدان الجمعي للأمة وفق أكثر الأشكال الأدبية تواصلاً مع التراث ومعاصرة للإبداع.. إذا كان التراث أبا الحداثة، فإن أمها عصر الشاعر بكل إبداعاته العالمية.. (ديوان الفروسية ، “حداثة التراث، وتراث الحداثة في شعر أحمد المجاطي”، (ص: 133).
ويرى الأستاذ السُّولامي في إطار مقارنته لدراسة ملامح الثابت والمتحول في النصين، أن محمداً الحلوي إذا كان يتوقف عند رصد الوضع الاستعماري الذي مازالت ترزح تحت نيره المدينة المغربية السليبة، والتعبير عن إيمانه الراسخ باستعادتها، فإن الشّاعر أحمد المجاطي، يتجاوز ذلك إلى اتخاذها رمزاً لغرناطة المفقودة ولفلسطين المحتلة، مستخدماً الصور الشعرية الجديدة المبتكرة، مازجاً بين واقع سبتة المحتلة وبين الواقع المحلي والقومي العام. وهذا ما عبَّر عنه الأستاذ السولامي بعبارات دقيقة مركزة بقوله: “إن ميزة المجاطي أنه حاول الإيحاء والإشارة والبحثَ عن صور جديدة مؤثرة، ومحاولة مزج الواقع بقضية الأراضي المغتصبة، وتجاوز الوطن إلى البعد العربي القومي، وهو بذلك يعلن عن انتماء سياسي قومي وإحساس بمسؤولية المثقف الملتزم. (ص: 122 وما بعدها).
ـ ويرى الباحث في دراسته الموسومة بــ«تجليات المقاومة في الشعر المغربي المعاصر»، أن الكتابة الأدبية رافقت التاريخ المغربي الحديث، واتجهت إلى المقاومة بالكلمة، منافحة عن الوحدة الترابية في سائر الوطن منذ بداية أقارن الماضي. ومن الجدير بالملاحظة أنه اكتفى في عرضه تجليات المقاومة المغربية بدراسة جنس أدبي واحد هو (الشعر) ، لهيمنة موضوعة المقاومة فيه أكثر من غيره من الأجناس الأدبية الأخرى. استنتج أن ملامح شعر المقاومة في المغرب هي كما يلي:
1 ـ الغزارة والتنوع: القصائد والأناشيد والمسرحيات الشعر ية.. 2 ـ تنوع أشكال المقاومة: الدعوة السلفية الإصلاحية المتمثلة في الحفاظ على كل مقومات الأمة من لغة ودين وأخلاق/ تصوير الشعر المقاوم للأحداث الوطنية الكبرى ومن أهمها “الظهير البربري” 1930م. ورصده لكل حركات المقاومة كحرب الريف وحركة جيش التحرير وغيرها من حركات المقاومة في كل أرجاء البلاد..
3 ـ مزاوجة الشعراء بين الكتابة الشعرية والنضال، فقد تعرض العديد منهم إلى الاعتقال والسجن، وقد قضى أحدهم في السجن وهو الشاعر محمد القري سنة 1937م. 4 ـ المقاومة بالشعر بواسطة كل اللغات واللهجات المغربية . 5 ـ تجاوب بعض الشعراء المشارقة مع قضية المقاومة المغربية، يذكر منهم المؤلف الشعراء: علي محمود طه وأبا شادي وإبراهيم طوقان والرصافي.
ومن أهم النتائج التي توصل إليه الكاتب في هذه الدراسة هي أن الشاعر الذي واكب حركة المقاوم أحمد الهيبة هو الشاعر الطاهر الإفراني وكتب عنها شعراً غزيراً بخلاف ما كتب عن حركة حمو الزياني وعبدالكريم الخطابي، فقد كان الإفراني يلازم حركة أحمد الهيبة، بل كان له ـ كما يؤكد الباحث ـ كما كان المتنبي بالنسبة لسيف الدولة الحمداني. ويذكر الكاتب ملاحظة هامة تتعلق بأن شعر الإفراني في حركة الهيبة، كان عرضة للضياع بسبب ظروف المقاومة وعدم الاستقرار، ويعود الفضل في جمعه وتدوينه كاملاً إلى العلامة محمد المختار السوسي في كتابه الموسوعي “المعسول”. والحقيقة أن ما ورد في هذه الدراسة المقتضبة المكثفة ما هو إلا غيض من فيض حول تجليات المقاومة في الشعر المغربي المعاصر . ومن أراد التوسع في دراسة هذا الشعر يجد بغيته في كتاب الأستاذ السولامي الرائد الموسوم بـ “الشعر الوطني المغربي في عهد الحماية 1912/ ـ 1956” الذي نال به شهادة الدكتوراه من جامعة الجزائر تحت إشراف الدكتور شكري فيصل.
ـ في الدراسة الموسومة بـ «الموضوع واحد والشعراء ثلاثة : محمد الحلوي ـ أحمد المجاطي ـ محمد السرغيني»، يتناول الأستاذ السولامي غرضاً شعرياً واحداً هو الرثاء. ومن المعروف أن الرثاء أحد فنون الشعر العربي البارزة، بل إنه «ليتصدرها من حيث صدق التجربة وحرارة التعبير ودقة التصوير»، ( أنظر: الرثاء في الشعر العربي،
عن كتاب ” رأي غير مألوف” للأستاذ إبراهيم السولامي، موقع الألوكة / اللغة والأدب). ويحتفظ تراثنا الشعري بقصائد بديعة لشعراء اختصوا بالرثاء أو أجادوا في بعض قصائدهم فيه، نذكر منهم على سبيل المقال لا الحصر : الخنساءَ في رثائها لأخويها صخر ومعاوية؛ وجرير في رثائه الفرزدق؛ أبا تمام في رثاء ابنه الأوسط؛ المعري في رثاء صديقه الفقيه الحنفي؛ أبا البقاء الرندي في رثاء مدينته الأندلسية. وقد خصص الأستاذ السولامي في كتابه “الشعر الوطني في عهد الحماية”، بعض صفحاته لرثاء شهدائنا الذين استُشْهدوا في معاركَ ضد الاستعمارالغاشم (ص 127). وفي هذه الدراسة المركَّزة، اقتصر على رثاء ثلاثة شعراء لشعراء من معاصريهم. وهذا كان صنيع أحمد شوقي مع زميله حافظ إبراهيم إذ رثاه بقصيدة مطلعها:
قَدْ كُنْتُ أُوثِرُ أَنْ تَقُولَ رِثَائِي // يَا مُنْصِفَ الْمَوْتَى مِنَ الأَحْيَاءِ
ويلاحظ الأستاذ السولامي قلة مراثي الشعراء المغاربة لبعضهم. أحمد المجاطي كتب قصيدة يتيمة في الرثاء، رثى بها الشاعر عبدالله راجع الذي وافته المنية في ميعة شبابه بعنوان: “باقة موتٍ على ضريحِ شهيد” (مجلة الثقافة المغربية، السنة الأولى، عدد: 1 ماي/ يونيو 1991، ص: 32 و33)؛ ومحمد السرغيني أيضاً، لم يكتب إلا قصيدة واحدة يرثي بها طالبهُ وزميله في محنة العمل والشعر محمداً الخمار الكَنوني. ولم يحظ هذا الفن الشعري بالاهتمام إلا من لدن الشاعر النيوكلاسيكي محمد الحلوي الذي رثى معاصره إدريس الجائي إلى جانب شعراء آخرين من المغرب والمشرق. ويفسر الباحث عدم اهتمام النقاد أو الشعراء المعاصرين المغاربة بشعر الجائي وبرثائه حين وفاته، بانصرافهم عن مواكبة الشعر العمودي عموماً ، وعن الأغراض التي باتت تعتبر متجاوزة في المُنجز الشعري العربيخصوصاً. وقد عمل الباحث على تحليل قصيدتي السرغيني والمجاطي ودراستهما من حيث المضمون والبناء الفني، مركزا على تيمة الموت في كليهما، وعلى هزيمة الجيل العربي المأزوم، في قصيدة راجع، الذي لم يتح له أن يحقق آماله العريضة لأن الزمن الذي عاشه، كان زمن الهزائم والإحباط والنكسات المتوالية وليس زمن الانتصارات. ويتوصل المؤلف بعد تحليله للقصائد الثلاث « أن الشعراء الثلاثة وهم يرثون شعراء من وطنهم وعصرهم، إنَّما يرثون أنفسَهم» (ص: 137). والحقيقة أن النص الموازي الذي يورده المجاطي في قصيدته المتمثل في بيت مالك بن الريب يؤكد ذلك بالملموس:
يَقُولُونَ لا تَبْعُدْ وَهُمْ يَدْفِوَننِي / / فَأَيْنَ مَكَانُ الْبُعْدِ إِلاَّ مَكَانِيا
وإذا كان السرغيني، كما يلاحظ الباحث، قد أخفى هذا المعنى في قصيدته هاته ، إلإ إنه أداه في رثاء شاعر آخر.. أما الشاعر محمد الحلوي ، فيعلن الأمرَ صراحةً مسمياً الأشياء بأسمائها، معرباً عن حزنه و أساه:
وَلَمْ أَرْثِ إدْريساً بِشِعْرِي و إِنَّمَا // رَثَيْتُ بِهِ نَفْسِي وَإِنْ كُنْتُ لاَ أَدْرِي
إن الدراسة فيها دعوة إلى المحبة والسلام والإخاء بين أهل الكلمة، فمآل الجميع إلى النهاية المحتومة. وهي دعوة إنسانية ترتفع بمن يحمل قدسية هذه الكلمة إلى السمو وتجاوز ترهات الحياة الفانية.
ـ في مقاله الأخير من الكتاب: «القصيدة الحديثة ومسألة التصنيف»، يرصد الأستاذ السولامي قضية شائكة عويصة لم يتم الحسم فيها بعد، هي قضية تصنيف شعراء القصيدة الحديثة. ويرى الباحث أن ذلك يمكن أن يتم عبر خانات ثلاث: الأجيال ـ التجارب ـ الرؤى . بالنسبة للتصنيف حسب الأجيال، لا يرى الباحث أن ثمة تباينا بارزاً بين شعراء العقود الثلاثة: الستينيات والسبعينيات والثمانينيات، ويستشهد بالشعراء المعاصرين: السياب وحجازي وأمل دنقل ثم بحسن طلب. وفيما يتصل بالتصنيف القائم عبر التجارب، يرى المؤلف “أن التصنيف ينبع من مفهوم الشعر الحداثي، وأن التجارب تنتج عن وقائع يعيشها الشاعر أو يقرأها أو يتخيلها.. وفي إطار البحث عن التجارب الشعرية الجديدة انساق الشعراء الحداثيين إلى التجريب سواء على مستوى اللغة أو الإيقاع أو غيرهما من أدوات التعبير الشعري.. “. (أنظر، ص: 141 وما بعدها)، أما بخصوص التصنيف عبر الرؤى، فيرى الكاتب أنه “حصيلة لمستوى الوعي وبعد الثقافة وسمو الذوق.. ويلاحظ أن عدم توفر الرؤيا المتفردة لدى أغلب الشعراء المعاصرين أضاعت الحدود بينهم . ويرجع الأستاذ السولامي تبدد الرؤى إلى واقع الهزيمة والتشرذم الذي تعرفه الأمة العربية الذي أفقد الشعراءَ البوصلة، وأصبحت الرؤية لا تقود إلى أي رؤيا..”. (أنظر ، ص : 142 وما بعدها).
يبقى أن نقول في الأخير: إن كتاب «رَأي غَيْر مَأْلُوف» للدكتور إبراهيم السولامي، يطرح العديد من القضايا الأدبية والنقدية الهامة بلغة صريحة، ونقد لاذع، وغيرة متقدة على لغته وقومه ووطنه. وقد كان الكاتب صادقاً في قوله: «مرَّ عقدان من الزمن على الطبعة الأولى من هذا الكتاب، لم يفتر فيها إحساسي بسخونة ما فيه من مشاعر وأفكار… ». (كلمة ظهر الغلاف)
إحالات:
ـ مجلة دعوة الحق، عدد: 270 ، سنة 1987 م .[1]
2ـ نفس المرجع السابق.
3ـ كُتَّاب الفرنسية المغاربة.. مستقبل مجهول وخناق يضيق ، الطاهر حمزاوي ، جريدة ” المساء “، يوم 20 – 04 – 2020 م.
4ـ الأدب المغربي المكتوب بالفرنسية بعيون أدباء مغاربة / حسن نرايس ، ج. الاتحاد الاشتراكي ، 26 / 07 / 2013 م.
5 ـ انظر : رأيه في مجلة الدوحة ، العدد 19 ، السنة : 1977م .
6 ـ انظر : التَّناص في شعر الرباوي ، د. المختار حسني ، طبع : مطبعة عين ، وجدة ، د. ت ، ص : 6
<
p style=”text-align: right;”> ـ مجلة الثقافة المغربية ، السنة الأولى ، عدد : 1، ماي/ يونيو 1991، ص: 32 و33 .7