لبنان ــــ المغرب: علاقات “أصيلة” عمرها ثلاثة آلاف عام
جورج الراسي
أينما ضربت فأسك في تلك المساحة الممندة بين طبرق وطنجة سوف يخرج لك أثر فينيقي، غالبا تكتشف تلك الآثار عن طريق الصدفة، وفي معظم الأحيان لا يتم الإعلان عنها، وإذا أعلن عنها لا يقال بالفم الملآن أننا في أرض كنعان.
أذكر على سبيل المثال ذلك الموقع الفينيقي الهام الذي تم إكتشافه في منطقة سيدي ادريس بإقليم الناضور على ساحل المتوسط المواجه لإسبانيا، شرح محتوياته حينها بيان صادر عن كلية الآداب والعلوم الإنسانية في مدينة المحمدية. ومما جاء في ذلك البيان حينها: “إن المكتشفات الأثرية في المكان بخاصة قطع الخزف والأحفورات تثبت أن الموقع هو من أقدم المواقع الفينيقية المعروفة حتى الآن في المغرب، إذ يرجح الباحثون أنه يعود إلى الفترة الفينيقية الممتدة بين القرنين السابع والخامس قبل الميلاد، نهاية الخبر وبداية العبر.
علال الفاسي زعيم حزب الإستقلال المغربي الذي توالدت من رحمه معظم الأحزاب المغربية الهامة التي تواجدت على الساحة، بما في ذلك حزب الإتحاد الإشتراكي الذي قاد المشاركة مع القصر أيام عبد الرحمن اليوسفي، كانت له زيارات عديدة إلى بلدان المشرق.
في أواخر أربعينيات القرن الماضي القى محاضرة في دمشق قال فيها بالحرف: “لقد وحد الفينيقيون المغرب، وواكبوه في كفاحه القوي ضد الرومان، وأعطوه الوجدان المتحد واللغة الواحدة والقيم المشتركة….”. هذا غيض من فيض. لقد أعاد المغرب على مدى نصف قرن بعد استقلاله إكتشاف تراثه الفينيقي، العروة الوثقى التي تشدة بقوة إلى شرق المتوسط، وإلى بلاد الشام على وجه الخصوص، فليس هنالك حضارة في التاريخ تعرضت لما تعرضت له الحضارة الفينيقية من طمس و تحريف و تشويه، تارة على يد كتاب من طراز “فلوبير”، وطورا على يد غزاة من كل لون … والسبب أنها كانت الأقدر بين حضارات الشرق على هزيمة روما والغرب الإستعماري المتغطرس، فلما سقطت أرادوا محو كل أثر لها، حتى في ذاكرة شعوبها، فللمنتصر كلمته العليا في كتابة التاريخ، بعد ثلاثة آلاف عام.
اليوم بعد ثلاثة آلاف عام، فإن وشائج جديدة تربط بين حوضي المتوسط. فلبنان موجود في قلب العائلة العلوية الحاكمة من خلال الأميرة لمياء الصلح أرملة الأمير عبدالله، عم العاهل المغربي محمد السادس، الذي رحل منذ سنوات طويلة بسبب المرض، إبن الأميرة لمياء هو مولاي هشام الذي كان يحل نظريا في المرتبة الثالثة في تسلسل وراثة العرش كما هو معمول به في المملكة، لكنه يعيش خارج البلاد منذ زمن، ولا شك أن دماءه اللبنانية تلعب دورا في “خرجاته” و”شطحاته” حتى انك لتظنه زعيم المعارضة في البلاد. أما إذا أضيف إلى هذا المشهد ان الأخت الثانية للأميرة لمياء هي الأميرة منى زوجة الأمير طلال بن عبد العزيز، ووالدة الأمير الوليد بن طلال، وأن أختهم الثالثة هي السيدة علياء الصلح، أول إمرأة لبنانية تحتل منصب ” وزيرة ” …وهي اليوم تشرف على نشاطات “مؤسسة الوليد بن طلال الخيرية”. لأدركنا اننا دخلنا في دائرة ملكية واحدة تمتد بين بيروت و الرباط و الرياض.
وإذا لم تخن الذاكرة فإن الأخوات الثلاث قد التقين في بيروت في شهر تموز ــــ يوليو من عام 2001، في منزل والدهن، الزعيم الإستقلالي رياض الصلح، بمناسبة الزيارة التي قامت بها إلى البيت وإلى لبنان الأميرة لللا مريم أخت الملك محمد السادس، كيف لم يلهب هذا المشهد الخارج مباشرة من قلب الدراما اليونانية مخيلة الكتاب والمخرجين حتى الآن؟. فلسطين في الوسط. لقد ظل المغرب على مدار السنين موجودا بقوة في قلب الحدث اللبناني من خلال تطورات القضية الفلسطينية بالدرجة الأولى، إضافة إلى تقاطعاته مع لبنان في الشراكة الأوروبية ونشاطات المجموعة الفرنكوفونية، والدور الخاص الذي أنيط به مع كل من الجزائر والسعودية في أطار “اللجنة العربية الثلاثية” التي تشكلت لمحاولة وقف الحرب اللبنانية المجنونة، التي عصفت في بلاد ما تبقى من أرز، علاقة المغرب بكل من فلسطين واليهود وإسرائيل علاقة معقدة مركبة يتدخل فيها ما هو سياسي مع ما هو حضاري مع ما هو ديني مع ما هو مخابراتي.
<
p style=”text-align: justify;”>على الصعيد التاريخي كان هناك جالية يهودية كبيرة متواجدة في المملكة منذ أكثر من الفي عام، فقد استقبل المغرب هجرات متتالية من يهود أوروبا الذين كانوا يتوافدون اليه كلما تعرضوا للإضطهاد في دولهم، أبرز تلك الهجرات تعود إلى العام 1492 عام سقوط الأندلس. وقد حافظ اليهود المغاربة ــــ كما الجزائريين ــــ على جزء مهم من تراثهم الشعبي بخاصة في مجال الموسيقى والعادات، وما هو معروف اليوم تحت اسم “الموسيقى الأندلسية”. الهجرة اليهودية الأكبر من داخل المغرب إلى الخارج كانت بإتجاه الدولة العبرية عند قيامها في العام 1948 ويصل تعداد يهود فلسطين المحتلة اليوم إلى ما يربو على مليون نسمة. وقد سعى الملك الراحل الحسن الثاني إلى توظيف نفوذها وأصواتها الإنتخابية لمصلحة حزب العمل على حساب الليكود، لكن النتائج حتى الآن جاءت عكسية، والواقع أن أهم ناخبين في اسرائيل اليوم هما ملك المغرب وقيصر روسيا، ومع ذلك فنحن نتراجع الى الوراء، ومن المعروف أن الملك الراحل الحسن الثاني، كما هو الحال مع الملك محمد السادس، كان رئيس “لجنة القدس”. وفي قمة الرباط عام 1964 تم تكريس منظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا ووحيدا للشعب الفلسطيني على أيام أحمد الشقيري، طبعا ضاعت الطاسة بعد ذلك، لكن على الرغم من كل الوشائج الحضارية والسياسية مع اليهود المغاربة لم يكن الشعب المغربي بعيدا أبدا عن نضال الشعب الفلسطيني كما تجلى ذلك بوضوح هذا الأسبوع من خلال مباريات مونديال قطر، وكما تجلى ذلك في مناسبات كثيرة سابقة، لعل أبرزها بطولات اللواء المغربي الذي شارك في معارك الجولان خلال حرب 1973. الصوت العربي المغربي لم يعد سرا أن قنوات الإتصال كانت دائما مفتوحة مع الدولة العبرية منذ خمسينيات القرن الماضي على أقل تقدير، ولم تخرج إلى العلن إلا في شهر تموز ــــ يوليو من عام 1986 حين استقبل العاهل المغربي الراحل الحسن الثاني شمعون بيريز في قصره في أفران مما أدى حينها إلى إقدام سورية على قطع علاقاتها مع الرباط. اما الشق المخابراتي فقد كان من اختصاص الجنرال أوفقير الذي حاول مرتين الانقلاب على العرش واستلام السلطة. فلم يعد سرا اليوم أنه زار تل أبيب ثلاث مرات في مطلع ستينيات القرن الماضي، وارتبط بعلاقة وثيقة مع موشي دايان الذي أهداه زوجا نادرا من المسدسات غالبا ما كان يتباهى به. وعندما تولى الزعيم الإشتراكي عبد الرحمن اليوسفي السلطة في أول عملية تداول رعاها القصر، اعطى أهمية كبيرة لتوطيد العلاقات مع سورية ولبنان، وكم من قادة الفكر في المغرب حرصوا على توطيد الوجه العربي للمغرب أمثال محمد الأشعري حين تولى وزارة الثقافة، او محمد بن عيسى وزير الخارجية السابق، وهو أيضا رئيس بلدية “أصيلة” المدينة الفينيقية المستلقية على كتف المحيط قرب طنجة، هذه المدينة الحالمة التي اعتادت أن تحيي موسما ثقافيا كل صيف يتوافد عليه أدباء و كتاب عرب من كل الأقطار. وهناك العشرات من قادة الفكر والرأي الذين ربطتني بهم علاقات وطيدة أمثال الصحافي الباهي محمد والمناضل سليل جيش التحرير محمد البصري وهؤلاء جميعهم تبقى ذكراهم عطرة أينما ضربت فأسك على امتداد الشمال الإفريقي، سيخرج لك أثر فينيقي.