إسحاق هرتزوغ يُراسلُ محمد السادس.. الهدف هو الابتزاز ثم الابتزاز
عبد السلام بنعيسي
وجَّهَ الرئيس الإسرائيلي إسحق هرتزوغ كلمة شكر إلى العاهل المغربي الملك محمد السادس على “الملجأ الآمن” الذي قدمته المملكة المغربية لليهود المغاربة خلال الحرب العالمية الثانية، ففي رسالةٍ نُشرت، بعد عامين من تطبيع المغرب لعلاقاته مع إسرائيل في 22 دجنبر 2020، أعرب هرتزوغ عن امتنانه للملك ورعاياه “الذين عملوا على مدى أجيال لحماية أمن ورفاه وتراث الجالية اليهودية في المملكة…
وقال الرئيس الإسرائيلي في رسالته: ”عندما تعرض ملايين اليهود لفظاعات المحرقة وَفَّر الملك محمد الخامس ملاذا آمنا لرعاياه اليهود”، مضيفا: “يستذكر يهود المغرب باعتزاز وحنان جدكم محمد الخامس الذي سيذكره العالم بأنه حامي يهود هذه المملكة”. وكان محمد الخامس قد عارض، خلال الحرب العالمية الثانية، القوانين المعادية لليهود التي أصدرتها حكومة فيشي في فرنسا التي كانت تحتل المغرب، رافضا الالتزام بها…
في هذه الرسالة، يعترف إسحق هرتزوغ بأن اليهود لم يُضْطَهدوا في المغرب، وأنهم كانوا محميين من طرف أعلى سلطة في البلاد التي هي المؤسسة الملكية، فإذا كانت ألمانيا النازية، ومعها فرنسا التي كانت تحت حكمها، قد مارستا القمع والعنصرية والإبادة ضد اليهود، فإن بلدا عربيا إسلاميا، اسمه المغرب، حمى اليهود، ومنع ملكُه محمد الخامس، الفرنسيين من إلحاق الأذى بهم.
وعلى منوال المغرب، كان حال اليهود في مجمل الدول العربية والإسلامية، فنحن لا نملك ما يفيد بأن الطائفة اليهودية قد تعرضت للاضطهاد، وللقمع، وللعنصرية في أي بلدٍ عربي أو إسلامي، على شاكلة ما حصل لهم من إبادة في أوروبا خلال الحرب العالمية الثانية، بل كان اليهود يعيشون طوال تاريخهم متعايشين متضامنين متآزرين مع إخوتهم المسلمين، ولنا في الحقبة الأندلسية، وفيما فعله معهم محمد الخامس، العنوان الأبرز على هذا التعايش…
إذا كان الملك محمد الخامس قد وفّر الحماية لليهود المغاربة في فترة الاستعمار، فإنه قام بذلك انطلاقا من حرصه على اعتبارهم مواطنين، كباقي المغاربة المسلمين، فالملك لم يكن يميِّزُ بين رعاياه، إنهم كلهم سواسية، بالنسبة له، وهم متساوون في الحقوق وفي الواجبات، بصرف النظر عن ديانة أي أحدٍ منهم، فلماذا يحشرُ هرتزوغ أنفه في أمرٍ لا يعنيه؟ لماذا يقحم نفسه في العلاقة التي كانت قائمة بين محمد الخامس وبين اليهود المغاربة؟ هؤلاء كانوا مواطنين مغاربة، ويفترض أن علاقتهم بملِكِهم، تظل خاصة ومتميزة، ومحصورةً في الطرفين، ولا يحقُّ لأي جهة خارجية التدخل فيها.
الرئيس الإسرائيلي الذي يتَطفَّلُ في إصدار تقييمه الإيجابي لطبيعة العلاقة التي كانت قائمة في الماضي بين العاهل المغربي محمد الخامس، وشريحة من أبنائه حينئذٍ، قد يجيز لنفسه إصدار تقييم سلبي لطبيعة هذه العلاقة بين العاهل المغربي الحالي ونفس الشريحة الاجتماعية من رعاياه، إن كانت علاقة لا تروق لرئيس دولة الاحتلال، وهذا ما لا ينبغي القبول به، من طرف المغاربة مسلمين ويهودا….
يُفترض في هرتزوغ أنه رئيس لإسرائيل، والسلطة التي لديه، سواء كانت سلطةً رمزية أو مادية، يتعين أن تكون ممتدة على الإسرائيليين الذين يقعون في الأٍرض التي تخضع لسلطته، أما اليهود الذي يوجدون خارج الكيان الصهيوني، فهؤلاء لا تربطه بهم علاقات قانونية، ولا يجوز له التطاول على سلطات الدول التي يقيمون مواطنين فيها، ليصدر أحكامه، سلبا أو إيجابا، حول كيفية تدبير تلكم السلطات لشؤون مواطنيها اليهود، فهذا تدخُّل سافر في الدواليب الداخلية لدولٍ ذات استقلال وسيادة…
إذا كان العاهل المغربي قد وفّر الأمن والحماية لليهود المغاربة في عهد الاستعمار، وإذا كان محمد الخامس قد نجّاهم من فظاعات المحرقة كما جاء في الرسالة إياها، فلماذا قامت الدولة العبرية في فجر الاستقلال بممارسة كافة الضغوط، واللجوء لكل أشكال الإغراءات من أجل تهجير اليهود المغاربة صوب دولة الاحتلال؟ لماذا عملت على استقطابهم واقتلاعهم من أرضهم المغرب لنقلهم صوب فلسطين؟ كان الأولى باليهود المغاربة التشبث بوطنهم المغرب، والعيش فيه، إلى جانب أشقائهم المسلمين، والمساهمة معهم في تنميته، وتطويره، وتحقيق إقلاعه الاقتصادي.
اليهود المغاربة الذين هاجروا إلى فلسطين، جحدوا الحماية التي وفّرها لهم محمد الخامس، وتنكروا لها، ولتاريخهم المشترك مع المسلمين الذين كانوا إخوة لهم في المواطنة، وانضموا في أغلبيتهم المطلقة إلى الأحزاب اليمينية الصهيونية، وعلى رأسها الليكود، وصاروا أعضاء فيها، ويعلنون عن عدائهم السافر للعرب وللمسلمين، وأصبح منهم الضباط في الجيش الإسرائيلي، وفي قوى الأمن، والمخابرات، وصار منهم الوزراء، وكلهم لا يترددون في قتل الشعب الفلسطيني الشقيق واضطهاده، ويقترفون ضده نفس الممارسات التي كان النازيون يخصون بها اليهود إبان الحرب العالمية الثانية….
يرأسُ العاهل المغربي لجنة القدس، ولقد أبان شعبه في آخر استطلاع للرأي العام أن 88 في المائة من أفراده يرفضون التطبيع، ويساندون شقيقهم الشعب الفلسطيني في نضاله من أجل نيل حقوقه المشروعة، وأبان المونديال في قطر كيف أن شباب المنتخب المغربي لكرة القدم كانوا يتلحفون بالعلم الفلسطيني عقب كل انتصار… وأفضل وأحسن رسالة يمكن للكيان الصهيوني بعثها إلى محمد السادس وشعبه، هي الرسالة التي يعترف فيها هذا الكيان بالحقوق المشروعة للشعب الفلسطيني، وفي مقدمتها حقه في تقرير مصيره، وإنشاء دولته المستقلة بعاصمتها القدس الشرقية، والقبول بعودة اللاجئين إلى أرضهم، والانسحاب من الجولان، والأراضي اللبنانية التي لا تزال تحت الاحتلال الصهيوني. إذا صدرت مبادرةٌ من هذا القبيل عن قادة الاحتلال، قد يصبح لرسالة من رئيسهم إلى ملك المغرب محتوى إيجابي، وغير ذلك، ليس إلا محاولات للتذاكي على الرأي العام والتلاعب به.
وحتى حين قامت الدولة المغربية بالتطبيع مع الكيان الصهيوني، فإن تل أبيب لم تعترف، لحد الساعة، بسيادة المغرب على أقاليمه الصحراوية، وهي تربط الاعتراف بمغربية الصحراء، باعتراف المغرب بالقدس عاصمة موحدة للدولة العبرية، فإسرائيل أخذت التطبيع حاليا، وأخذت من المغرب سابقا أبناءه أصحاب الديانة اليهودية الذين كانوا يحظون بحمايته في عهد الاستعمار، ولكن دولة الاحتلال، لم تعط للمغرب وللعرب أي شيء بالمقابل، إنها دولة تأخذ ولا تعطي…
عينُ الكيان الصهيوني على الأراضي المغربية الخصبة، إنه يعمل من أجل تحويلها إلى ضيعٍ يغرس فيها المواد الفلاحية القابلة للتصدير نحو أوروبا، والتي تستنزف الفرشة المائية للمغاربة، بعد أن أوشكوا على تجفيف المياه في فلسطين، وعينُ الكيان أيضا على الثروات المعدنية الموجودة في باطن الأرض المغربية، فلقد أنشأ الصهاينة شركات عملاقة باتت تُنقِّبُ عن النفط والغاز في مناطق مختلفة من المغرب، وحين يبعث إسحاق هرتزوغ برسالة للعاهل المغربي محمد السادس مُقِرًّا فيها بالحماية التي وفّرها جدُّه الملك محمد الخامس لليهود المغاربة، فإنه لا يريد من ذلك، الاعترافَ بجميل المغرب، لمُجرَّدِ الاعتراف، ومن باب الشهامة والوفاء لتاريخٍ مغربي نظيفٍ تجاه مواطنيه من اليهود.
هرتزوغ يُلاحقُ، في الواقع، المغرب، سعيا وراء ترسيخ التطبيع وتأبيده، والحصول معه على نصيبٍ وافرٍ من الثروات الموجودة في البلد ونهبها، وبعبارةٍ أوضح، فإن الهدف من رسالة هرتزوغ إلى محمد السادس، هو الابتزاز ثم الابتزاز، وهذا سلوكٌ يُجيدُ فعله كيان الاحتلال، ودَأَبَ على ممارسته مع الجميع، بمختلف الصيغ والأشكال…