نقد مبـدأ الفتـوى

نقد مبـدأ الفتـوى

عزالدين العلام

    هناك لازمة حكمت أغلب النقاشات التي أثارتها سابقا بعض الفتاوى في المغرب، وتتمثل في كون الردّ على الفتوى أو نقدها، يكاد ينحصر في “أهلية” المفتي، وأحقّيته في إصدار ما أصدره، ومدى توفره على الشروط “الشرعية” اللازمة في كل إفتاء، وكذا صحّة ما استند عليه من “أدلّة شرعية”، ومن تمّ مواجهته ب”أدلّة شرعية” أخرى تناقض ما ذهب إليه، أو الطعن في أهليته… وكلّ ذلك يتمّ بحجة أن مناقشة الفتوى، أو نقدها، يجب أن يكون “من الداخل”، ومن خلال الأدوات المعرفية نفسها التي يستعملها مُصدر الفتوى. ومثل هذه الحجّة لا تستقيم، ولا ينتج عنها سوى تناسل الفتاوى والفتاوى المضادة، وهكذا دواليك في حلقة مفرغة، دعامتها الأساسية استشهادات نصّية منتزعة من هنا وهناك، وكأنّ النص يمكن أن يقوم مقام الأسباب الفعلية التي تحكم القضية موضوع الفتوى.

      قديما قيل إن الفقهاء القدامى المشهود لهم بغزارة العلم، كانوا يتحرّجون من إصدار فتوى في موضوع ما، حتى ولو كانوا على علم كاف بحيثياته، وبالأحرى أن يصدروها في موضوع أو نازلة يجهلون عناصرها، وذلك كما يقال، تهيّبا من عظم مرتبتها، وما قد تستتبعه من نتائج يتحمّل مسؤوليتها المفتي غدا يوم القيامة أمام الله.

      وقيل قديما أيضا إن الفتوى “مرتبة شريفة”، وأنّ “العلماء ورثة الأنبياء”، وأنّ العالم المفتي يقوم مقام النبي، ومن تمّ قيل عن المفتي إنّه “موقّع عن الله”. وبدل أن تحدّ هذه الأقوال من غلواء المدّعين وتهيبهم من الإفتاء، إن لم نقل ابتعادهم عنه، نلاحظ على العكس من ذلك، كيف يستغلون هذا “السند” التراثي ليمارسوا استبداد الفكر والرأي الوحيد، باسم الله والدين والصراط “المستقيم” الذي لا يعرفه إلا هم، وهم بالتحديد والحصر.

     وأنت تقرأ ما يخطّه مفتي اليوم، ليس من الصعب أن تستنتج ادّعاءه، دون حشمة أو حياء، العلم المطلق بكل شيء، وامتلاكه الحقيقة المطلقة، واعتباره لما يفوه به هو الشرع وقد تجلّى، ولا خيار لك أمامه سوى طأطأة الرأس وأنت تردّد “آمين” حتى لا تكون من القوم المغضوب عليهم ولا الضّالين.

    يتجلى استبداد المفتي في استعداده الكامل لحشر أنفه في كل القضايا مهما تنوعت حيثياتها، إذ يبدي رأيه السديد فيما يجب أن يكون عليه الفرد في حياته الخاصة، وفي قضايا المجتمع، واكتشافات العلوم الطبية، ومشكلات الاقتصاد، ومستلزمات السياسة الداخلية، وإشكالات السياسة الدولية، وكأنّ علمه السحري فاق كل العلوم والتخصّصات.

     يستند هؤلاء المدّعون في بتّهم في قضية ما على ترسانة هائلة من النصوص، بدءا من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية إلى ما أجمع عليه الأئمة… ودونما مناقشة للتأويلات اللامتناهية، والانتقاءات المتعددة التي تسمح بها النصوص المذكورة، يبدو أن المنهجية (إن كانت هناك منهجية!) التي يسترشدون بها معيبة في أصلها. فبدل أن يحتكم هؤلاء إلى وقائع النازلة نفسها وأسبابها في تاريخيتها وشروطها، يلتفتون لما مضى علّهم يتصيّدون منه ما يبرّرون به حكمهم، فتكثر عندهم الخطابة والترسّل، وتغلب عليهم “عنعنات” تقوم على الإنشاء وتركيب الجمل وتوالدها.

    باسم هذا العلم الوهمي، يتطاول هؤلاء المدّعون على حياة الأفراد الخاصة ليفتوا في ملبسهم ومأكلهم، وقد ينوّرونهم فيما ما يجوز لهم وما لا يجوز في منكحهم، إن لم يحلّلوا لهم مجامعة القاصرات، أو حتّى زوجاتهم، وهنّ جثت هامدة! وقد يصلون إلى أقصى الحدود، فيعلنون تكفيرهم لهذا أو ذاك لرأي عبّر عنه، أو رواية أبدعها، وربّما لقصيدة شعر ألقاها، بل وقد يلاحقونه حتى بعد وفاته يحجبون عنه هذه الصفة أو تلك.

    ما هذا المنطق الذي يسمح لفرد أو جماعة ما إجبار الناس على نهج سلوك بعينه؟ وهل يبتغي هؤلاء أن يصبح المجتمع جيشا موحّدا بلباس واحد! وبأي منطق يمكن لهؤلاء منع الأطفال من الاستمتاع بالرسوم المتحركة، أو حرمان الكبار من مباهج الحياة؟ بأي معنى يمكن ممارسة الوصاية على الناس؟ ليس هناك تفسير آخر غير التطاول على حريات الناس والمس بحقوقهم التي تضمنها لهم القوانين المعمول بها. بهذا المعنى تصبح الفتوى “لا قانونية” لخرقها مبادئ الحريات العامة والخاصّة التي يعود للدولة العمل على حمايتها.

    إنّ أضمن وسيلة للوقوف ضد هذا السيل من التكفير والتضييق على التفكير، هو التشبّث بمبادئ الحرية الإنسانية، وقيم حقوق الإنسان كما تنصّ عليها المواثيق الدولية.

    إنّنا اليوم، وحفاظا على حرّيتنا، أمام ضرورة ملحّة لنقد مبدأ الفتوى في حد ذاته، والتّأكيد على مشروعية نقدها “من الخارج”، وعلى راهنية تحرّرنا من سلطة الاستشهاد والعنعنة المرتبطة بظروف ليست ظروفنا، والمحكومة بنوازل لا علاقة لها بأسباب نوازلنا.

    وبعبارة أكثر وضوحا، هل يظلّ الأموات يحكموننا نحن الأحياء؟ هل نظلّ على الدوام مُلزمين بالرجوع إلى الماضي لتبرير الحاضر والتخطيط للمستقبل؟ وهل نفدت كلّ طاقتنا الفكرية والإبداعية لنعتقل أدمغتنا في قيود أحكام فقهية فات أوانها؟

Visited 6 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

عز الدين العلام

باحث وأكاديمي مغربي