المثقف وسؤال الدين
عزالدين العلام
كلّنا يحسّ أن الوضع المغربي يستدعي عددا من المهمات التاريخية المطروحة بإلحاح، وبشكل أكثر تحديدا على “النُخب” المفترض فيها أنها أوّل من يستشعر سلطة التاريخ، ويحدس حركيته. وتزداد هذه “المهمات” ثقلا وتشتد ملحاحيتها على النخب في وضع يتميز بحركية اجتماعية محسوسة، تستلزم الدفاع عن العقل ضدّ الخرافة، والانتصار للعلم ضدّ الغيب… غير أنه يحدث، وقد حدث فعلا، أن يكون تعامل النخب مع هذه “المهمات”، ولأسباب عدّة، محتشما إلى أقصى الحدود، وخاصّة حين يتعلّق الأمر بسؤال الدين.
لسنوات عديدة، ظلّ البحث في موضوع الدين، ولا يزال، مرهونا باستحضار “الملكية” باعتبارها تجسيدا “لإمارة المؤمنين”، أو “الحركات الإسلامية” بحكم ما خلقته من تفاعلات سياسية… وهذا يعني أنه غالبا ما يتمّ التفكير في الموضوع من وجهة عملية سياسية أداتيه. ولكن، من حقنا أن نتساءل كيف حدث أن أُهمل جانب مهم من الموضوع، وهو المتمثل في تصور مثقفي المغرب ونخبته المفكرة لسؤال الدين.
قد يعتقد البعض أن البحث في سؤال الدين داخل الخطاب المعرفي مجرّد ترف زائد أمام أهمية البحث في تفاعلاته السياسية. والواقع أنّ مثل هذا الاعتقاد مغلوط لسبب بسيط يتمثّل في أنّ أفق أي مجتمع يبقى، في جميع الأحوال، رهين أفق مثقفيه ونخبته المفكرة.
لم يقدّم لنا تاريخ العرب الحديث، وبدرجة أقل، تاريخ المغرب، حركات ثقافية تحديثية وإصلاحية دينية… نعم، كان هناك ما اصطلح على تسميته بـ “عصر النهضة” ونبغ أشخاص مأثورون، أمثال محمد عبده، والكواكبي ولطفي السيد وقاسم أمين وسلامة وخير الدين التونسي، بل وأيضا شبلي شميل وفرح أنطوان ويعقوب صروف وغيرهم… بيد أن ما يجري هنا والآن، دليل على تعثّر هذه “النهضة”، وفشل حركتها التي لم تصل، لعوامل عدّة، إلى أن تصبح علامة على حركة ثقافية لها امتدادات مجتمعية تترجم حاجات تاريخية، فظلت بالتالي عبارة عن شذرات معزولة واجتهادات فردية كان مصيرها الارتكاس والتيهان في محيط مشبع بعوامل التخلف التاريخي. (هل نذكّر هنا بمحاربة قاسم أمين المتحرر المحتشم، أو بمواقف أغلب فقهاء المغرب من التجديد وسبل تحقيق المدنية، أم نذكّر بمحاكمات على عبد الرازق، وطه حسين وصادق جلال العظم وناصر أبو زيد باسم الدين، أم نذكّر، ونحن في القرن الواحد والعشرين، أنّ هناك من يقيم الدنيا ولا يقعدها أمام المحاولات القليلة والمحتشمة لتحليل نصوصنا “الدينية”…).
لا أدّعي معرفة بالسّر في كسل جزء كبير من النخبة المغربية أمام تحليل موضوع الدين ومساءلة قضاياه. كما لا أدّعي جوابا عن جبن العديد من مثقفي المغرب، إلاّ فيما ندر، أمام ما يفوه به بعض المجانين من المتحدثين باسم علوم الدين وأصوله.
والواقع أنّنا قد نجد ألف تبرير لخطاب سياسي يلتزم الصمت أمام هذا الموضوع لحسابات سياسية وانتخابية، وغيرها. ولكن ما عساه يكون السر وراء الصّمت المطبق، والمداهنات التي لا تنتهي لمن يعتبرون أنفسهم مثقفين وحملة فكر؟ كيف يحدث للباحث والمثقف أن يحني رأسه ويداهن في كلامه، موفّقا بين ما لا يجوز فيه التوفيق، ومستشهدا بما لا محلّ له في الاستشهاد؟ ألا يكفي امتلاك الخطاب المعرفي لميزات عدّة تسمح لحامله، على خلاف باقي الخطابات، بمسافة نقدية تخلّصه من تبعية التقليد وضغط الإيديولوجيا؟…
تلك أسئلة، يظل الجواب عنها مرهونا بضمير المثقف المستتر ومدى جرأته…