زِيَارَةِ رئيس الحكومة الاسبانية بيدرُو سانشيس لِلْمَغْرِب والاجتماع الرّفيع المُستوى بين البلديْن: آفاق واعدة

زِيَارَةِ رئيس الحكومة الاسبانية بيدرُو سانشيس لِلْمَغْرِب والاجتماع الرّفيع المُستوى بين البلديْن: آفاق واعدة

د. محمّد محمّد خطّابي

   تكتسي زيارة رئيس الحكومة الاسبانية بيدرُو سانشيس والوفد الوزاري الذي يرافقه  للمغرب واجتماع اللجنة الثائية العليا الرفيعة المستوى بين البلدين يومي 1 و2 فبراير2023، تكتسي أهمية بالغة، على امتداد تاريخ البلدين الطويل، عرفت العلاقات الإسبانية- المغربية- مدّا وجزراً،وطبخاً ونفخًا، وفتقاً ورتقا. فكما شهدت هذه العلاقات العديد من الحروب، والمواجهات، والمشادّات،والمشاكسات، والمنابذات، واالمناكفات، والتحدّيات، والإخفاقات، فقد عرفت كذلك تقارباً، وتفاهماً، وتلاحما وتآزرا،ً وتعاونا ًمثمراً ونجاحات  فى مختلف المجالات ذات الاهتمام المشترك.

 عهدٌ جديد

   لقد أصبح التعاون والتفاهم والتعايش والتداني بين البلدين الجارين المغرب وإسبانيا أمراً محتوماً لا مندوحة لهما عنه،كما أصبح التغلّب على المشاكل، وتسوية الخلافات، وتجاوز الأزمات، وتذليل العراقيل والصّعاب أمراً لا مناص لهما منه كذلك. إنّ المغرب واسبانيا بحكم موقعهما الجغرافي، ومصيرهما المشترك الذي هيّأه لهما التاريخ، والماضي الذي تقاسماه، والثقافة المشتركة التي نسجا خيوطها سويّاً، وانصهارهما في بوتقة حضارة واحدة متألقة، كلّ ذلك جعل منهما بلدين محكوم عليهما بالتفاهم، والتقارب والتداني، وهما مدعوّان- أكثر من أيّ وقت مضى  لزيادة تمتين عرى الصّداقة، وتوثيق أواصر المودّة والنعاون في هذه المرحلة الجديدة من علاقاتهما الثنائية فى عهد العاهل الإسباني فليبّي السادس دي بوربون الذي لا شك أنه يعي جيّدا مدى أهمية علاقات بلاده مع جاره الأبدي فى الجنوب المغرب،ولا جَرَم كذلك أنه سيولي للعلاقات المغربية الإسبانية المكانة المرموقة، والمتميّزة التي هي قمينة بها، نظراً لتشعّب وتعدّد القضايا العالقة بين البلدين فى مختلف المجالات السياسية، والإقتصادية، والإجتماعية، والثقافية، والأمنية وسواها من القضايا الثنائية الشائكة التي تكتسي طابع الصراع أو النزاع مثل مسألة سبتة ومليلية، والجزر والجيوب المحاذية واللصيقة بالأراضي والسواحل المغربية التي لمّا تزل واقعة تحت السيطرة الإسبانية فى زمن لم يعد فيه مكان لمثل هذه المفاهيم الاستعمارية البالية والبائدة التي عفا عنها الزمن.

   والحالة هذه ينبغي للبلدين النظر إلى ماضيهما القريب،والبعيد بنظرة واقعية براغماتية، بل يجب عليهما طيّ صفحة المواجهات، ونبذ العقد والأحقاد، وإقصاء الضغائن والمنابذات، ومحو الرواسب السلبية التي ما زالت عالقة على جدران ذاكرتهما الجماعية، وتاريخهما المشترك، واستخراج العناصر الصّالحة والإيجابية لموروثهما الحضاري والتاريخي، والثقافي واللغوي، وبداية عهد جديد تذوب فيه ومعه الخلافات، وتقلّص معه المسافات، في عصر أصبحت تنشأ فيه التكتّلات والتجمّعات الاقتصادية، والسياسية، والثقافية، والإنسانية بين الدّول، وتتبلور بشكل لم يسبق له مثيل وذلك بهدف خلق مفهوم “عولمي” جديد في مختلف ميادين الحياة ومرافقها المعاصرة.

   لا ريب ان البلديْن الجاريْن يدركان هذه الحقيقة البدهية، كما أنّ هذا الإقتناع لا يغيب عن كبار المسؤولين فى البلدين وعن مختلف المحللين، والسياسيّين، والكتّاب، والمتتبّعين لمسار العلاقات بين الطرفين وتطوّرها بين مدٍّ  وجزر.

   التطوّر والحراك الهائلان اللذان أصبح يعرفهما المغرب في الوقت الرّاهن في مختلف المجالات من محاولة استكمال بناء مؤسّساته الديموقراطية، والعمل على إجراء اصلاحات جذرية في مختلف الميادين السياسية، والاقتصادية، والإجتماعية، والعلمية وفي مجال حرية الرأي وحقوق الإنسان، وصون كرامته (مع التعثّرات وبعض العراقيل التي ما فتئت تشهدها الساحة السياسية المغربية بشكل يبعث على القلق فى هذه المجالات جميعها)، كلّ ذلك  كفيل- فى حالة تحقيقه لهذه المرامي والغايات-  بأن يجعله يصبو للسّير قدما بخطى حثيثة ليتبوّأ مكانه بين مصافّ الامم كبلد عصري حديث، مع تشبّثه بقيمه، ومبادئه، وثوابته االأصيلة،وجذوره العريقة، وماضيه العتيد الضارب فى فجر التاريخ.

آفاقٌ واعدة

   ينبغي علي جيراننا التحلّي بروح العصر، والنظر الى الأمور بواقعية وتبصّر وحكمة، فزمن الزّهو الإستعماري قد مضى لحاله وإنصرم بلا رجعة، ينبغي عليهم  قبول النزاعات ومعالجتها بجرأة، وموضوعية، هذه النزاعات التي فرضت على البلدين قهرا وقسرا في زمن لم تكن مفاهيم السيادة، و الحرية، والإنعتاق قد تبلورت، والنظرة الشوفينية الضيّقة لم تعد تجرّ على البلدين سوى التعنّت والعناد، هذا العناد هو الذي جعلهم يتماطلون، ويتمنّعون حتى الآن فى تقديم إعتذار علنيّ من إسبانيا عن استعمالها للأسلحة الكيمياوية، والغازات السامّة الفتّاكة على السكّان الأبرياء العزّل ظلما وعدوانا فى العشرينيات من القرن المنصرم خلال  حرب الرّيف التحرّرية الماجدة، إلاّ أن العديد من المثقفين الشرفاء الإسبان يأملون فى أن يُقْدِم العاهل الإسباني فليبي السادس على هذه الخُطوة الشجاعة فى مستقبل قريب.

    إنّ  وضعية العلاقات المغربية الاسبانية فى الوقت الرّاهن،وفى ظّل انعقاد هذا اللقاء الرفيع المستوى إذ يستفاد ان رئيس الحكومة الاسبانية ينوي ان يصطحب معه خلال هذه الزيارة تسعة وزراء فى هذا اللقاء التاريخي، كلّ ذلك يدعونا الى معاودة إلقاء نظرة تأملية متأنية، وإعمال النظر في بعض القضايا الهامة في المرحلة الحاسمة من تاريخ هذه العلاقات، وما واكبها من أحداث وطنية ودولية وجهوية لابدّ أن يكون لها ولا شك تأثير على رسم  مسارها، وتحديد  معالمها حتّى تصل إلى ما هي عليه الآن. طموح وتطلّع البلدين في تطوير هذه العلاقات والرقيّ بها الى أعلى وأرقى المستويات باعتبارهما بلدين جارين متعانقين جغرافيا،آخىَ بينهما التاريخ، وانصهرا في بوتقة إشعاع حضاريّ وثقافيّ فريد في بابه في تاريخ الشعوب، بل يرسم مصيرهما التعاون الوثيق الذي لا محيد لهما عنه،  فالصداقة بين البلدين لا يمكنها ان تترعرع في ظلّ  أو شكل حكم مفروض بواسطة قدرية جغرافية وتاريخية وحسب، بل لابدّ لنا ان نخطو خطوات أخرى الى الأمام بعزم وإرادة وثبات، انّ كلّا من القطاعات الاقتصادية والسياحية،والمبادلات التجارية، ومخططات التعاون والمشاريع الصناعية المشتركة الخ، لابد أن يواكبها تفاهم وتناغم سياسي براغماتي خصب، وأن يطبعها  تبادل ثقافي متنوّع ومكثف يزيد البلدين تعارفا، وتقاربا أكثرمن ذي قبل ،لابد ّمن نسج، وتعميق وتوثيق المزيد من  أواصر المودّة بينهما، ومن توفير الاحترام المتبادل بين الجانبين ولقد خطت اسبانيا في هذاالمجال  مؤخراً خطوة تاريخية عظمى باعترافها بالمبادرة الواقعيىة بمنح الصحراء حكما ذاتيا موسّعا تحت السيادة المغربية كحلٍّ نهائيٍّ لهذا النزاع المفتعل.

العنصر الثقافي بين البلدين

   الحديث عن العنصر الثقافي والتوّع الحضاري بين المغرب وإسبانيا يحلو و يطول، فالتاريخ لا يُقرأ في هنيهة، إنّ الزّائر الذي يزور المغرب أو إسبانيا يلمس المظاهر التاريخية والعمرانية المتشابهة حية نابضة قائمة في كل مرفق من مرافق الحياة، دراسة هذا التاريخ، والتعمّق فيه و استخراج العناصر الصالحة منه أمر لا مندوحة لهما عنه،وهو أمر ينبغي ان يولى أهميّة قصوى، وعناية فائقة، وتتبّعا متواصلا من طرف الدولتين والمثقفين، والكتّاب، والمفكرين، والخواصّ، ومن لدن مختلف الجهات العلمية والتاريخيىة والقطاعات التربوية والتعليمية التي تعنى بهذه المواضيع للتعريف بهذه الذخائر المتوارثة فى البلدين، ونشر الوعي وتأصيله لدى الشعبيْن المغربي والاسباني ليكون المستقبل الذي يتوقان إليه مستقبل رقيّ ،وإشراق، وتلاق وتلاقح بين ماض عريق، وحاضر واعد، ولعمري إنّ لفي ذلك تجسيدا وتجسيما للعهود الزاهرة التي عاشها الأجداد فى شبه الجزيرة الإيبيرية والمغرب على حدّ سواء على إمتداد العصور الحافلة بالعطاء الثرّ، والتعايش والتسامح، والإشعاع الثقافي والعلمي الباهر الذي شكّل وما يزال جسرا حضاريا متواصلا بين الشرق والغرب، وبين مختلف الأجناس، والإثنيات، والمِلل، والنِحل، والديانات فى هاذين الصّقعين الجميلين.

من العلامات المضيئة لهذا الإنفتاح والتنوّع الحضاري، والتبادل الثقافي والتثاقفي الذي عاشه البلدان نجد العديد من العلماء، والمفكرين، والفلاسفة، والفقهاء، والشعراء والفنانين والموسيقيّين الذين عاشوا فى الأندلس ثم انتقلوا إلى المغرب والعكس صحيح، والأمثلة كثيرة، والأسماء لا حصر لها فى هذا القبيل، وحسبنا أن نشير فى هذا المقام إلى ثلاثة  اسماء بارزة فى التاريخ المشترك للمغرب والأندلس، وهما الفيلسوف الفقيه العلاّمة إبن طفيل صاحب “حيّ ابن يقظان”، وتلميذه قاضي إشبيلية، وعالمها، وطبيبها، وفيلسوفها الذائع الصّيت أبو الوليد محمّد بن رشد وتلميذهما النجيب إبراهيم موسى ابن ميمون (اليهودي الديانة) الذين استقبلهم المغرب بحفاوة بالغة، وبوّأهم أعلى الأرائك، وأرقى المراتب فاستطاب لهم  العيش فيه واسترغداه.

دور المثّقفين المغاربة والإسبان

    وإحياء لهذا الماضي المشترك المشرق، وإسترجاعا للإشعاع الحضاري والثقافي والإبداعي الذي تقاسمه البلدان على امتداد العصور  كانت ثلّة من المثقفين المغاربة والإسبان  قد اضطلعت فى الأعقاد الأخيرة بدور طلائعي فى تطوير وتفعيل وتقوية العلاقات الإسبانية المغربية حيث نشر جموع  من  المثقفين، والكتّاب، والادباء، والمفكّرين المغاربة والإسبان  بيانا صحافيا جريئا في  جريدة “الباييس” الاسبانية الواسعة الإنتشار، وفى بعض وسائل الإعلام الأخرى طالبوا فيه  بضرورة  تفعيل العلاقات الإسبانية المغربية على مختلف المستويات، وقد وقّع على هذا البيان 40 مثقفا من المغرب، و46 مثقفا من إسبانيا. من الموقّعين المغاربة: المهدي بنونة، محّمّد شقور، محمّد شبعة، لسان الدين داود، عبد الكريم غلاب، محمد بن عيسى، مصطفى اليزناسني، محمّد العربي الخطّابي، محمّد محمّد الخطّابي (كاتب هذه السطور)، عبد الكبير الخطيبي، عبد الله العروي، محمّد اليازغي، محمّد المليحي، محمّد العربي المساري، سيمون ليفي، محمّد الصبّاغ، علي يعته.. إلخ. ونذكر من الإسبان: خوان غويتيسولو ، فرناندو أرّابل، بيدرو مونطافيث، خورخي سينبرون، فاثكيث مونطالبان، فيكتور موراليس، وآخرين.

   وقد طالب هذا البيان بضرورة إعطاء نفس جديد للعلاقات الثنائية بين البلدين، وإذكاء روح التعاون والتفاهم والحوار بينهما فى مختلف المجالات.. إلخ.

   وقد أفضت هذه البادرة المبكّرة فى ذلك الإبّان إلى تأسيس “جمعية المثقفين الإسبان والمغاربة” التي نظمت فى البلدين ندوات وطاولات مستديرة دورية هامة حول مختلف اوجه التعاون الثقافي، والأدبي، والعلمي، والتاريخي وسواه بين البلدين. كما أسّست بعد ذلك”لجنة إبن رشد” التي تضمّ هي الاخرى نخبة من كبار المثقفين والأدباء والمفكرين، والشخصيات السياسية والإعلامية فى كلّ من إسبانيا والمغرب. هذا فضلا عن تأسيس العديد من الجمعيات الإسبانية المغربية سواء فى المغرب أو إسبانيا  ذات الصّبغة الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والعلمية والفنية التي أصبح عددها يتنامى يوما بعد يوم، والتي تعمل هي الأخرى على تقريب الهوّة بين البلدين، والتعريف بطاقاتهما الخلاقة لتأكيد مزيد من التفاهم والتعايش بينهما فى مختلف الميادين، وفى مقدّمة هذه الجمعيات النشيطة “جمعية الصّحافيين، المغاربة الناطقين باللغة الإسبانية” التي تضمّ نخبة هامة من مثقفينا اللامعين الذين لهم باع طويل، ودراية واسعة بلغة سيرفانتيس وآدابها وثقافتها،إلاّ أنّ هذه الجمعية وسواها  تصطدم دائما بعثرة قلّة ذات اليد، وندرة الإمكانيات المادية وضآلتها إن لم نقل إنعدامها. وفى نفس الإتجاه ودعما وترسيخا لهذه الجهود كان قٌد أعلن فى المغرب منذ بضع سنوات كذلك عن تأسيس “مندى الحوار المغربي الإسباني” بمبادرة من جماعة من المثقفين ورجال الاعمال والسياسة المغاربة، وذلك بهدف بإقامة وإرساء قواعد ثابتة ودائمة للحوار والتفاهم والتعايش بين الطرفين.

حضور دبلوماسي مغربي  متواصل

   يُعتبر الإرث التاريخي والثقافي والحضاري المشترك لكلّ من المغرب وإسبانيا أرضية صلبة، وحقلا خصبا جعلا هاذين البلدين ينفردان  بخصوصيّات قلّما نجدها لدى سواهما من البلدان الأخرى، ممّا أفضي الى خلق نوع من الاستمرارية الدائمة والمتواصلة في علاقات البلدين منذ الوجود الاسلامي بشبه الجزيرة الإيبيرية، ونزوح الموريسكييّن عنها قهراً وقسراً وعنوةً، ثم منذ القرن السابع عشر عندم طفق التبادل الدبلوماسي الفعلي بين البلدين بشكل انفرد به المغرب، وكان له قصب السّبق بالنسبة لباقي البلدان العربية والاسلامية، بل وبالنسبة حتى لكثير من بلدان العالم الأخرى حيث كانت البعثات الدبلوماسية، والرّحلات المغربية هي البعثات الوحيدة التي زارت، وإستقرّت باسبانيا منذ وقت مبكّر بدءا أو انطلاقا من بعثة ابن عبد الوهّاب الغسّاني سفير السلطان المولى إسماعيل خلال حكم العاهل الاسباني كارلوس الثاني (1691-1690)، ومرورابالزياني (1758)، وأحمد المهدي الغزال (1766)، وابن عثمان المكناسي(1779)، والكردودي(1885) الخ. هذه الاتصالات المبكّرة والمتواصلة الحلقات بين المغرب واسبانيا خلقت نوعا من الاستمرارية زادها العنصر الجغرافي القائم متانة وقوّة وتواصلا، هذا فضلا عن العنصر الحضاري والثقافي الذي  يعدّ عنصرا  فريدا  في بابه كذلك في تاريخ الأمم، كلّ هذه العوامل،  والخاصّيات ميّزت علاقات البلدين على امتداد الحقب والعهود باعتبارهما جارين متقاربين، هذا التقارب والتواصل والحوار الدائم القائم  لم ينقطع، ولم يفتر قطّ.

قضايا  ثنائية شائكة

   تجدرالإشارة إلى أنّه على الرّغم من هذا الزّخم الهائل الذي أصبح يطبع العلاقات الثنائية بين البلدين، والبريق اللمّاع الذي يضيئها، ويوحي للعيان أنّها على خير ما يُرام فى مختلف المرافق، والقطاعات، والقضايا، والتي رصدنا بعضاً من جوانبها آنفاً خاصة  بعد الموقف الاسباني الرسمي الايجابي فى تأييد المغرب فى استكمال وحدته الترابية واسترجاع حقوقه المشروعة فى صحرائه،فإنه ينبغي لنا ألاّ نغفل، أو ندير ظهورَنا لقضايا أخرى ثنائية هامّة عالقة وشائكة،وإكراهات مُؤرقة ما زالت تثقل كواهلنا ، وتقلق مضاجَعنا، وهي تواجهنا بإلحاح، ولا ينبغي لنا أن نتّبع حيالها سياسةَ النّعامة فى إخفاء رؤوسنا فى الرّمال، وعدم رؤية الواقع الحقيقي الذي نعيشه، ونلمسه، ويتجسّد نصب أعيننا، ويمكن حصربعض هذه القضايا كما يلي:

سبتة ومليلية والجزر المغربية

   عندما يثار الحديث عن مدينتي سبتة ومليلية السليبتيْن يقفز إلى الذهن على الفور بيت قرأته ذات مرة فى الكتاب  الشهير “أزهار الريّاض فى أخبار القاضي عياض” فحفظته رأساً عن ظهر قلب، يقول الشاعر فيه عند تحيته لمدينته سبتة : (سلام على سبتة المَغربِ /  أخيّة مكّةَ ويثربِ). المدينتان المغربيتان، والجزر الجعفرية، وصخرة النكور، والجزر الصغيرة المحاذية لرمال شاطئ “الصّفيحة” بأجدير (قرب مدينة الحسيمة) وجزيرة بادس، وجزيرة ليلى تورة كلها ما  زالت  تذكّرنا عند إنبلاج كل صباح  بأنّه ما زالت هناك قضايا تاريخية جادّة عالقة، ومواضيع ثنائية هامّة تمسّ السّيادة الوطنية فى الًّصّميم .

   ومداخل ومخارج هاتيْن المدينتيْن خاصّة خلال جائحة كورونا حيث ظلت حدود الثغرين الوهمية مغلقة  لسنوات خيرُ مثال على الوجه الآخر الخفيّ المؤلم لهذه العلاقات، والشّعور بالحَسْرة والحَيْرة اللذين يعتملان فى قرارة نفس كلِّ مواطنٍ عندما يَعْبُرُ هاذين المعبرين ذهاباً أو إيّاباً، اللذين يفصلان ظلماً وعدواناً، وقهراً وقسراً بقعةً جغرافيةً واحدةً متماسكة، ويشطرانها شطرين تنشطر معها أهواءُ السكّان الآمنين، وتتضاعف معاناتُهم، ومشاعرُهم، وأحاسيسُهم، وتطلعاتُهم لعناق بعضهم البعض من الجانبين، وإحياء صلة الرّحم فيما بينهم، والاجتماع بإخوانهم فى الجانب الآخر من الأسلاك الشائكة، أوالأسوار العالية التي تُبَاعِد أو تفصل بينهما، فى زمنٍ تهاوت فيه ومعه كلّ الجُدران مهما كان علوّها وارتفاعها.

استعمال اسبانيا للغازات السامّة فى الرّيف

   لقد أصبح موقف إسبانيا من استعمالها للغازات السامّة، والأسلحة الكيمياية المحظورة فى حرب الرّيف يُثار بإلحاح وإمعان فى المدّة الأخيرة داخل المغرب وخارجة، بل إنّه أمسى يُثار حتى فى إسبانيا نفسها وفى بعض العواصم الاوربية، فهل فى مقدور- جارتنا الأوربيّة وأقربها إلينا تاريخاً، وجغرافيةً ، وثقافةً، وإرثاً، وفكراً ،بل وجينيّاً – هل فى مقدورها اليوم الإقدام على إتّخاذ خطوة تاريخية جريئة للمصالحة النهائيّة مع ماضيها المعتم والمؤلم فى المغرب بتقديمها اعتذارٍ شجاع للشّعب المغربي،بشكلٍ عام، ولأهل الرّيف على وجه الخصوص، أيّ للمتضرّرين الفعلييّن، من السكّان الآمنين،وتعويضهم إنسانيًّا،وحضاريّاً – حسب ما تمليه القوانين اللدّولية فى هذا القبيل- عن هذه الجريمة النكراء، وقد أصبح هذا الموضوع الهامّ يستأثر بحدّة باِهتمام الرّأي العام المغربي والإسباني على حدّ سواء، والمتعلق بالتظّلم المُجحف، والأضرار الجسيمة التي حاقت، ولحقت بالعديد من الأسر والعائلات التي ما زالت تُعاني فى مختلف مناطق الرّيف ونواحيه من الآثار الوخيمة (أوبئة السرطان اللعين) التي خلفتها جريمة استعمال اسبانيا لهذه الأسلحة الكيمياوية الفتّاكة بعد الهزائم المنكرة التي تكبّدتها فى حرب الرّيف الماجدة؟ والحالة هذه ينبغي إيجاد تسوية حقوقية  ناجعة  ودائمة لهذا  الملف الشائك.

الجالية المغربية فى إسبانيا

   الجالية المغربية المقيمة فى  الديار الاسبانية التي أصبحت تقارب المليون نسمة أصبحت تعاني من ضائقة خانقة فى خضمّ الأزمة العويصة التي تعيشها إسبانيا خاصة بعد انتشار وباء الجائحة وما صاحبها من منغّصات ومشاكل لا حصر لها،  هذه الاكراهات انعكست سلباً على جاليتنا المقيمة فى هذه الديار ذلك أنّ معظمَهم اصبح عرضة للتسريح المجحف، والارتماء فى أحضان البطالة المقيتة. وحسسب الخبراءالمتتبّعين لهذا الموضوع فإنّ الحلول أو بعضها لا تبدو فى الأفق القريب، نظراً لإنعدام تواصل جاليتنا مع النّخبة السياسية الإسبانية، وعدم توفّر وسائل الدفاع عنهم وعن حقوقهم، الشّيئ الذي يجعل الكثيرين منهم ممّن كانوا يتابعون دراساتهم مضطرين للإنقطاع عن الدراسة،هذه الأزمات كانت قد دفعت الحكومة الإسبانة السابقة  إلى المصادقة على قانون جديد للهجرة غيرِ منصفٍ بالنسبة للمغاربة، مقابل السياسة التفضيلية التي يحظى بها مواطنو بلدان أمريكا اللاتينية فى هذا القبيل.والحالة هذه ينبغي على بلادنا أن تنظر بعين الاعتبار إلى وضعيتهم الصّعبة، ومضاعفة الجهود لتقديم مختلف وسائل الدّعم، والمساعدة لهم مغتنمةً جوّ الوئام والتناغم السائد فى الوقت الراهن بين البلدين.

الهجرة غير الشرعيّة

   على الرّغم من الجهود الحثيثة المتواصلة المبذولة فى هذا المجال من طرف الوزارة الوصية لجعل حدّ للهجرة السريّة واللاّشرعية التي كانت قد تفاقمت بشكل يدعو للقلق فى المدّة الأخيرة، ما فتئت التساؤلات تترى وتطرح عن الإجراءات، والخطوات التي إتّخذها أو ينوي إتخاذها المغرب لإيجاد الحلول المناسبة العاجلة والناجعة لمواجهة هذه المعضلة الإنسانية العويصة التي إتّخذت من المغرب جسراً وممرّاً، ومقرّاً، ومستقرّاً لها من مختلف الجهات، والوِجهات، ماذا تمّ حتى الآن فى هذا القبيل لمواجهة هذا الزّحف العرمرم نحو المغرب وإسبانيا الذي أمسىَ ينذر بعواقب قد لا تُحمد عقباها فى مختلف الواجهات الأمنية ،والإرهابية،والإجتماعية، والإنسانية، والصحّية وسواها..؟ خاصة بعد أن اتضح: “أنّ المغرب يتجه إلى تغيير راديكالي في سياسة الهجرة واللجوء بعد المبادرة التاريخية التي أطلقها الملك محمد السادس، إلى ملاءمة القوانين والتشريعات الوطنية حتى يتسنّى للمهاجرين الذين اختاروا الاستقرار في المغرب أن يستفيدوا من جميع الخدمات مثلهم مثل أي مواطن مغربي”.

محنة الموريسكييّن

   يتمثل الموضوع الخامس فى إشكالية  محنة “الموريسكيّين” الأندلسيّين “المُهَجَّرين” و”المُبْعَدين” قهراً وقسراً من مواطنهم، والذين إستقرّ معظمُهم فى المغرب، وفى الجزائر وتونس، (معروف أنّ العاهل الإسباني السّابق خوان كارلوس الأوّل سبق له أن قدّم إعتذاراً  لليهود (السيفارديم)  الذين أُبْعِدُوا من إسبانيا، ولم يقم هو ولا خلفُه العاهل الإسباني الحالي فليبي السادس بنفس البادرة التاريخية حتى الآن مع المسلمين). ينبغي لإسبانيا أن تتحمّل مسؤوليتها التاريخية حيال هذ الحيف، والتظلّم الذين لحقا بهذا الموضوع الشائك، ولقد شكّل المؤتمرالدولي (عقب الموريسكيّين والسيفاراديم بين التشريع الإسباني والقانون الدّولي) الذي نظّم مؤخراً بالرباط من طرف “مؤسّسة ذاكرة الأندلسييّن” خطوة رائدة فى هذا القبيل، هذا المؤتمر (الذي شاركتُ فيه) ازاح الستائر عن غير قليل من مظاهر التظلم، والإجحاف، والتطاول، الذي طال أجدادَنا فى الأندلس الذين تعرّضوا لعمليات طرد جماعي، وإقصاء قسري وتهجير تعسفي من مواطنهم وأراضيهم ودورهم، وكلّ ما تلا ذلك من تظلم وحيف وتمييز حاق، ولحق بهؤلاء المُورسكييّن المُهجّرين رحمهم الله، والذين ما زال أحفادهم يعيشون بين ظهرانينا فى العديد من المدن المغربية ، وفى سواحل الرّيف حيث توجد  بها مجموعات سكنية إثنية تنحدر من الأندلس منها فرقة تُسمّى: “إندروسَن” أيّ فرقة “الأندلسيين” استقروا في بني ورياغل، وبالضبط في منطقة أجدير ” (أنظر بحث  الدكتور جميل حمداوي فى هذا القبيل بعنوان: “هجرة الأندلسيّين إلى منطقة الرّيف”). لعلّ إسبانيا تخطو هذه الخُطوة الشجاعة حيالهما!.

   نرجو لزيارة رئيس الحكومة الاسبانية لبلادنا وللوفد الوزاري المرافق له في اطار انعقاد الاجتماه الرفيع المستوى بين البليد  مقاماً طيباً في المغرب وكلّ النجاح والتوفيق، ونأمل أن تكون هذه المناسبة بداية عهد جديد ينسجم مع طموحات، وتطلعات البلدين إلى وضع أسس متينة لمزيد من التفاهم، والتعاون، والتقارب، والتداني، و التغلب على الصّعاب، وتذليل العقبات، وإيجاد الحلول الناجعة للمشاكل القائمة،والنزاعات العالقة بينهما، والتي تتطلّب إرادة سياسية صلبة، وثقة قويّة متبادلة، وإيمانا راسخا بمستقبلهما الواعد، ومصالحهما الحيوية المشتركة.

** النصوص الإسبانية الواردة فى هذا المقال هي من ترجمة صاحب لمقال.

Visited 2 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. محمد محمد الخطابي

كاتب، وباحث، ومترجم من المغرب عضو الأكاديمية الاسبانية- الأمريكية للآداب والعلوم بوغوتا كولومبيا