الاحتفالية حلال والاحتفالية حرام (2)

الاحتفالية حلال والاحتفالية حرام  (2)
د. عبد الكريم برشيد
 
   نحن قلنا الاحتفالية حلال، وهم قالوا الاحتفالية حرام، ونحن فعلنا واشتغلنا وفكرنا وكتبنا وأبدعنا وسألنا وتساءلنا، وهم فقط تكلموا، وكان كلامهم أصواتا غير موقعة، بلا وزن ولا قافية ولا َمعنى ولا مبنى، وكان كلامهم شعارات وصيحات في أكثر من واد، ولقد مارسوا، في غفلة من التاريخ، نوعا غريبا وعجيبا من من أنواع النميمة، وأطلقوا عليها اسم النقد المسرحي، ولقد بحثنا. نحن عباد الله، عن هذا النقد وما وجدناه، وسألنا عن مولانا المسرح فوجدناه، ولكن مع الغائبين والمغيبين ومع المقصيين والمنفيين ومع المدفونين في القبور المنسية، والذين هم اليوم أكثر حياة من كل الأحياء المشكوك في حياتهم.
   وبهذا يكون من واجبنا أن نسأل أنفسنا السؤال التالي:
   هل أخطانا حين فكرنا، وحين اجتهدنا، وحين آمنا بالعقل وبالعقلانية؟
 َ ممكن جدا، ولا شيء مستحيل في هذا العالم السوريالي الغريب والعجيب..
وفعلا، لقد ارتكبنا خطأ فادحا حين اعتقدنا بأن الإنسان حيوان عاقل، وحين أكدنا على حق هذا الإنسان المدني والحر، في أن يشغل عقله، وفي أن يصل بتفكيره إلى حدود (البدعة) والتي هي حرام في حرام في حرام.
   لقد وصل الاجتهاد الاحتفالي درجة متقدمة من الغلو، ومن المخاطرة، وعليه، فقد أصبح من غير المسموح به شرعا وقانونا، وأصبح الفكر الاحتفالي والإبداع الاحتفالي، لدى بعض الفقهاء المعاصرين، في درجة الخطيئة الدينية، وذلك في حق مولانا الجهل، وفي حق كل سدنة معبد الجهل ومعبد الأمية وَمعبد الكسل العقلي والفكري.
   إنهم يقولون اليوم، وفي كل منتدياتهم السرية والخفية والمهربة، بأن الذنب الأكبر والأخطر، لهذه الاحتفالية المارقة، يكمن أساسا في أنها وجدت وكانت، وذاك في الوقت الذي كان ينبغي عليها ألا تكون، وأنها قد قاومت كل عوامل الموت وعاشت، وأنها قد عمرت كل هذه العقود الطولية من الزمن، وأنها اليوم ترفض أن تموت، وأن تعود إلى العدم الذي أتت منه، مع أن هذا الموت حق، هكذا يقولون، وهذه هي حجتهم في سعيهم لقتل الاحتفالية، ولقتل كل الاحتفاليين أجمعين.
   وبالتأكيد فإن ما أقوله اليوم، في هذا التأمل الفكري الساخر، ليس جديدا، ولقد سبقتني إليه شخصياتي المسرحية في الإبداع المسرحي الاحتفالي، وتحديدا في مسرحية (فاوست والأميرة الصلعاء) والتي نشرتها مجلة (الأقلام) العراقية سنة 1980، والتي قدمت على خشبات كل المسارح العربية، يدور الحوار التالي، بين العالم فاوست والخادم المهرج الزيبق:
(- أريد علما حقيقيا، أريد أن اأرف، وأدرك كل الأشياء، أريد، أريد..
– ستشقى بعلمك يا فاوست، اسألني أنا المجرب..
– وكيف ذلك؟
– ستدرك وحدك، وتفكر وحدك، وتمشي وحدك.. ساعتها لن تجد أحدا يصدقك، سيعتبرونك مشعوذا أو مهرجا، سيحلون دمك، من يدري؟ أو ربما قالوا عنك كافر أو مجنون أو مدع.. سر كما يسير الناس..
– لست أستطيع..
– إن العبقرية أكبر جرم في عرف الناس التافهين، وما أكثرهم في هذا الوجود).
   هذا الكلام قلته وكتبته، منذ أكثر من أربعين سنة، وقاله معي كثير من كبار الممثلين في المغرب وفي كل العالم العربي، فهل كنت بذلك أتوقع، أو أتنبأ، بأن أصل في يوم َمن الأيام، إلى ما وصلت إليه الآن، وأن أصبح مبعدا ومقصيا ومنفيا في وطني، وبين أهلي، وأن يكون ذلك فقط، لأنني كنت وفيا لإنسانتي وحياتي وحيويتي ولمدنيتي، وأنني قد فكرت، بصوت مرتفع، وأنني تأملت، واجتهدت، وجربت، وتوقعت، واخترت، وأبدعت، وأنني في تفكيري لم أكن اشتغل لحسابي الخاص، لأنه لا حساب لي، ولقد اشتغلت دائما لحساب الإنسان والإنسانية، في كل زمان ومكان، ولحساب للحياة، ولحساب لجمال، ولحساب الحق والحقية، ولحساب هذا المسرح بعده العربي، في كل امتداداته الإنسانية والكونية.
   ومنذ البدايات الأولى، لمسار هذه الاحتفالية المفكرة والمعبرة، أدرك الاحتفاليون المؤسسون لعلمها وفننا وفكرها ولصناعاتها ااجمالية، أن الأصل فيهآ هو أنها مخاطرة وجودية قبل كل شىء، وأن طريقها لن يكون مفروشا بالورود، وأن فهمها لن يكون سهلا أبدا، وفي متناول كل الناس.
   لقد آمنت دائما، من داخل الفلسفة الاحتفالبة، أن الحياة، في معناها الحقيقي هي التحدي، وأن الموت هو نصيب كل من لا يتحدى، وكل من لا يقاوم وكل يقفز على عوامل الموت، وكل من لا يتجدد، وكل من لا يقاوم المرض والفقر والملل والسام والإحباط والفراغ والخواء واللامعنى، ولهذا كنت احتفاليا، عن قناعة، وراهنت على الاحتفالية، وارتضيتها فلسفة حياة، واخترتها نظام وجود، واخترتها منهجية في الإبداع الأدبي والمسرحي، والجمالي بشكل عام.
   وفي كتاب أصدرته في نهاية الثمانينات من القرن الماضي. وأعطيته عنوان (كتابات على هامش البيانات) قلت وكتبت ما يلي:
(إن جريمة الاحتفالية – إن كانت لها جريمة – تكمن في شيء واحد أوحد، لم يجرؤ أي واحد – لحد الآن – للإعلان عنه، وهذا الشيء هو (عبقريها) لقد اختارت أن تشق لها طريقاً مغايرا، وأن تفكر بشكل مختلف، وأن تصر على معرفة اللامعروف، والوصول إلى حدود اللامألوف، وهذا شىء لا يرضي سدنة الكسل العقلي، ولا حراس المعرفة المتحفية).
   ولقد تمسكت دائما بشعار (خالف تعرف) بكسر حرف الراء، وهذا ما جعلها جديدة ومجددة ومتجددة على امتدا عقود طويلة جدا
ولعل أخطر ما أكدت عليه هذه الاحتفالية هو الحرية، وذلك في كل أبعادها وتجلياتها الجميلة والنبيلة، وهو تحرير المسرح – مسرحنا – بالإنسان الحر، وتحرير كل الإنسان، المغربي والعربي والكوني، بالمسرح المتحرر والمفكر والمفسر والمغير.
   وفي الاحتفالية لا مقدسات إلا العقل الشاعر والمفكر، ولقد خاصت حروبا كثيرة ضد الوهم وضد الاصنام والأوثان، وأكدت على الإنسان المدني، وعلى كل حقوقه، والتي يأتي في مقدمتها الحق في الوجود والحق في الحياة والحق في الاختلاف والحق في التفكير والحق في التدبير والحق في الفرح، وأيضا، الحق في الخطأ، عندما يكون هذا الخطأ خطأ العاملين والفاعلين وخطأ المجدين والمجتهدين، وخطأ العلماء والفنانين المجربين.
   وَلهذه الاحتفالية موقفها النقدي الخلاق، وذلك من كل فعل، كيفما كان، ومن كل فكرة طائرة، ولو كانت صغيرة، ومن كل حالة، قد تبدو للعين المجردة عابرة، وهي تبدأ من الشك عادةً، لتدرك اليقين، أو لتقترب منه على الأقل.
   وفي زمن كان ومضى، والذي كان زمن اليقين الايديولوجي والسياسي، والذي اقترب فيه هذا اليقين الانتحاري من درجة العمى الإرادي، في ذلك الزمن السبعيني من القرن الماضي، ظلت هذه الاحتفالية مع الحقيقة الغائبة، أو المغيبة، وبقيت محافظة على حريتها، وعلى استقلاليتها، وعلى عقلها المفكر، وعلى اختياراتها الفكرية والجمالية والأخلاقية، وظلت دائما خارج الصفوف وخارج التخندقات الضيقة والمغلقة، وظلت خارج كل الشعارات الظرفية والموسمية.
   هذه الاحتفالية كانت دائما مع الحياة ضد الموت وضد القتل والاغتيال، وأين العيب في هذا؟ وأين هو الحرام ؟
وكانت إلى جانب الجمال، في الاجساد والنفوس، وفي العقول والأفكار، وفي الحالات والمواقف، وفي العلاقات والمؤسسات وفي الكتابات والإبداعات، ومتى كان الجمال محرما، وفي أية شريعة؟ وفي أي كوكب من كواكب المجموعة الشمسية؟
   فهذه الاحتفالية، في معناها ومبناها، ما هي حرية وتحرر، وهب دعوة لإيجاد الإنسان، وذلك في المجتمع الحر، وفي الزمن الحر ، ومن ذا الذي يمكن أن تخيفه وترعبه الحرية؟
   ولقد ساهمت هذه الاحتفالية، وعلى امتداد عقود طويلة جدا، في تحرير العقول والنفوس والأرواح من الغيبيات ومن المجردات ومن تداعيات الوثنيةالجديدة، ومن سدنة الجمود على الموجود.
   إن الأصل في هذه الاحتفالية هو أنها جسد من الأجساد، وهو جسد معنوي ورمزي حي، وأن هذا الجسد محكوم بأن ينمو ويكبر، يوما بعد يوم، وأن يتمدد ويتعدد ويتجدد، دخل المكان والزمان، وهذا القانون الطبيعى، والذي هو قانون النشوء والارتقاء، لسنا نحن من أوجده، وهو يسري على هذه الاحتفالية أيضا، والتي انتقلت من عمر إلى عمر، ومن حجم إلى حجم، ومن حال إلى أحوال، ومن درجة إلى درجات أخرى أعلى وابعد،
وفي البدء، اعتقد كثير من النقاد والباحثين ومن المهتمين بالمسرح، أنه لا مستقبل لهذا الجسد الذي يسمى المسرح الاحتفالي، وأنه فقط مجرد خطأ في التاريخ، أو أنه مجرد جملة اعتراضية في كتاب هذا التاريخ، ولقد ظلت كثير من الأقلام، وعلى امتداد كل أعمار الاحتفالية، لا تردد إلا جملتين اثنتين يتيمتين وهما:
   الاحتفالية ماتت
  والاحتفالية غدا سوف تموت
  وهناك من النقاد، ولحد هذا اليوم، من يصعب عليه أن يتصور – مجد تصور – كيف نجت هذه الاحتفالية من كل الضربات، والتي ظلت تأتيها من كل الجهات، وكيف تلونت بألوان الأزمان المتغيرة، وكيف صمدت امام الأحداث وامام المتعطفات والهزات التاريخية.
   ومع بداية هذه السنة الجديدة، وبعد أن ظن الجميع أن هذه الاحتفالية المزعجة والمشاغبة قد ماتت وانتهت، وأنها قد أصبحت في ذمة التاريخ، وفي بعض أوراقه الصفراء، طلعت عليهم الأخبار الجديدة بنبأ جديد، والذي هو صدور ثلاث بيانات للاحتفالية دفعة واحدة، والتي كان من رأي واقتراح الاحتفالي أن يكون اسمها:
   (بيانات كازابلانكا للاحتفالية المتجددة – بيانات لما بعد الجائحة).
   ولقد جاءت هذه البيانات متزامنة مع صدور الجزء الأول من الكتاب الموسوعي، التيار الاحتفالي في المسرح العربي الحديث، والذي صدر من الشارقة عن الهيئة العربية للمسرح.
   الاحتفالية إذن بألف خير، وهي تسلم على الجميع، وتتمنى أن يفهمها الجميع، وأن يدرك الجميع ان احتفالية اليوم ليست هي احتفالية الأمس، وأن يجرب من يعرف الاحتفالية القديمة ، ان يقرا الواحها الجديدة، وان يعرف بان الحذاء الحديدي الصيني لا يليق بالآقدام الاحتفالية، ولقد سبق للاحتفالي الذي اسكنه ويسكنني ان قال يوما، بمناسبة مرور عشرين سنة على صدور اول بيان احتفالي سنة 1976 لقد قال في كتاب (كتابات على هامش البيانات ) ما يلي:
(لعل اهم ما قام به التنظير الاحتفالي – عبر عقدين من الزمن- هو تمرده المشروع على الحذاء الصينى)
ولهذا فإننا نقول اليوم، ولكل من يهمه حياة الاحتفالية -أو موتها، لا يهم – بأن يكونوا واقعيين، وأن لا يدفنوا رؤوسهم في التراب، وأن يستعيدوا بصرهم المصادر والغائب والمغيب، وأن يحاولوا أن ينظروا إلى هذه الاحتفالية الجديدة والمتجددة، وذاك بعين أخرى، سليمة وجديدة ومتجددة ، وأن يعرفوها عن قرب، وكما هي، في حجمها الحقيقي، بكل ظلالها، وفي كل تنظيراتها وابداعاتها، وأيضا، كما هي كائنة، الآن هنا، في حقيقتها، وليس كما هي في مخيلاتهم وفي حساباتهم الصغيرة والضيقة والمحدودة.
   واصل أخيرا إلى السؤال الأخير في هذا البوح المشروع، َوافترض، بيني وبين نفسي، إن هذه الاحتفالية حلال، وأنها لايمكن أن تكون حراما أبدا، ولكن هذا لا يمنعني من أن أتساءل عن سر هذا العداء التاريخي لكل الاحتفاليبن، مع أنهم لم يفعلوا ولم بكتبوا. ولم يبدعوا إلا ما يرضي الله، ويرضي الجمال والكمال، ويرضى الحق والحقيقة، وبخصوص (ذنوب) الاحتفاليين الَفترصة والمتوهمة، فقز قلت وكتبت يوما ما يلي:
   (إن كل ذنبي – في احتفاليتنا العاشقة والمسالمة – يكمن في الصور التالية:
   -انه عندما بهتف الهتافون، ويصرخون في جنون، بالشعارات التي ليس لها معنى، لا أكون معهم.
وعندما يقرأون ويحفظون ويستظهرون ويرددون كلاما لا يعرفون معناه، ولا يتبينوه مغزاه ومرماه، لا أكون إلى جانبهم.
وعندما يقولون – بلهجة الواثقين – بأن اربعة زائد خمسة تساوي تسعة وتسعين، لا أكون من المتفقين والمهنئين، ولا من الذين يقولون آمين).
   إن الأصل في كل إنسان، وفي أي مجتمع كان، هو أنه كائن مختلف ومخالف، ولكن هذه المعادلة لا تستقيم إلا بوجود مجتمع مدنب متسامح، مجتمع يحترم الآخر ، وبقدر اجتهازه ويؤمن بثقافة التعدد والاختلاف، وذنب الاحتفالية الوحيد، هو إنها وجدت في مجتمع الفقهاء، وليس في مجتمع العلماء والحكماء والمؤرخين الصادقين، وأكثر الكتابات حول الاحتفالية، هي البوم مجرد كتابات فقهية، أكثر منها كتابات علمية أكاديمية كما يتوهم اصحابها.
 
Visited 6 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

د. عبد الكريم برشيد

كاتب مغربي