رحيل ليندا مطر .. مناضلة من زمن مغاير
رحلت اليوم ليندأ مطر المناضلة النسائية اللبنانية المعروفة، عرفتُها وناقشتُها في أمور كثيرة، خالفت ارائها حينا واتفقتُ معها أحيانا أخرى، كانت رغم صلابة قناعاتها في الداخل، تبدي مرونة كبيرة في النقاش دون ادعاءات، صلبة تعرف الطريق الذي تريد سلوكه، هادئة وصادقة وهي تمرر رسائل القناعات التي جبلتها عبر تجارب النضال، صاحبة عينيين صغيرتين تتقدان دائما. وهي لا ترفض شكوكك بل تترك الأمور مفتوحة، طبيعية في مظهرها الخارجي وأنيقة الروح، بعيدة عن الثرثرات وترهات واستعراضات نساء الجمعيات النسائية الخيرية والمجتمع رغم نجوميتها.
لم تكن ليندا “نسوية” في يوم من الأيام، رغم انها رمز من رموز النضال من اجل حقوق المرأة اللبنانية، فالنسوية ترف فكري وصناعة نخب ثقافية في عالم الرأسمالية، بينما هي عاملة نسيج خرجت من رحم النضال المطلبي لتحصيل حقوق العمال والعاملات، والنساء وفق هذه المنظومة الفكرية التي ترسخت عبر سنوات، رغم التجارب المريرة تقول بانه لا يمكن للنساء ان يتحررن ويحصلن على حقوقهن خارج الثورة والنضال لتغيير النظام واتوماتيكيا تحصل المراة على حقوقها، وارتباطا بهذا المنطق لا يمكن ان يكون للمرأة دور في السلطة اذا لم تحترق في العمل السياسي من اجل انتصار قضايا التحرر الوطني وقيام نظام العدالة الاجتماعية او “الاشتراكية”، حتى وان كانت الممارسات الذكورية طاغية في الأحزاب التي تدعي وقوفها الى جانب النساء والتي استخدمت النساء من اجل تعزيز سلطات الرجل لا من اجل احقاق حقوق للمراة.
توضح ليندا المؤمنة بالحوار مع الرجل خلفيات موقفها في احدى لقاءاتها الصحفية:”حركتنا النسائية تدافع عن حقوق المرأة، وأحيانًا نعارض الرجال لأنهم يمسكون بجميع المفاتيح في أيديهم. لكننا لا نريد أن نأخذ مكانهم، نريد أن نساعد بعضنا البعض“.
قد يكون النقاش طويلا ليس بالإمكان تناوله بخفة هنا لانه موضوع عميق، فلجنة حقوق المراة التي ترأستها مطر العام 1978 الى ان استقالت من منصبها في العام 1996، بعد سنوات من النضال والتدرج في المسؤوليات، حققت إنجازات لا يمكن تغافلها، أهمها حق الانتخاب والسفر دون اذن الزوج، وحق ضمان العاملة لاطفالها، وتعديل القوانين المتعلقة بجرائم الشرف وتوقيع اتفاقية الغاء التمييز ضد المرأة، على سبيل المثال لا الحصر، رغم ان نشاط اللجنة أيضا لم يغفل دورات محو الأمية والطباعة وتعليم اللغات الأجنبية والخياطة، وهي نشاطات تقليدية، واعتنت بدور الحضانة التي ربما شكلت مصدر دخل مالي داعم لنشاط اللجنة. لكن خبا سطوعها مع انهيار المنظومة الاشتراكية وسقوط الأطر التي كانت تشكلها في العالم لاجتذاب النساء. ومع انقسام الحزب الشيوعي ظلت اللجنة تتبع الحزب “الاصولي”، في حين سعت نساء شيوعيات اخريات الى التبرؤ او “التجديد”، فعمدن الى تأسيس جمعيات تحت شعارات اخذت في عين الاعتبار اجندة الأمم المتحدة، كالدعوة الى المشاركة في السلطة، وتحقيق المساواة، والرصد الجندري، ومكافحة العنف، وإقرار الكوتا، وحق الجنسية… الخ. وتتلقى مساعدات من منظمات دولية تعنى بالمجتمع المدني. وهو ما رفضته ليندا، للحفاظ على الاستقلالية ورفض وضع شعارات هذه المؤسسات أي الإعلان عن مصدر التمويل.
قضت ليندا مطر عشرون سنة من عمرها في الحزب الشيوعي، واستقالت منه لتبقى على مسافة من العمل الحزبي المباشر لتتفرغ لقضية المراة، من دون نسيان “بروباغندا” اليسار في القضايا السياسية، لا سيما ما يتعلق منها بفلسطين والمقاومة ضد إسرائيل، التي كانت شاهدة على انطلاقة جبهتها في العام 1982، وقد حملت هذه الهموم الوطنية العامة في كل خطاباتها ومشاركاتها في المؤتمرات النسائية الدولية والعربية والمحلية.
ولدت ليندا مطر في العام 1925 في منطقة خندق الغميق، (إذ تبلغ من العمر ستة وتسعين عاما). من أم خمسينية، مما أثار دهشة أهالي الحي من هذه المعجزة الإلهية، وجرى تعميدها في دير الناصرة، تزوجت وهي في السابعة عشرة من “رجلٍ يملك تفكيراً مختلفاً، هو الأرمني بيزانت بانجاريان، يعرف قيمة الحياة أكثر منّي” كما تقول. ولديها ثلاثة أولاد (أرمين ولوسين ورافي)، وثمانية أحفاد وثمانية من أبناء الأحفاد. بانجاريان لم يكن يتقن العربية لكنه كان مقربا من الرفاق الشيوعيين الأرمن، وكانت ليندا تقرأ له صحيفة الحزب الشيوعي “صوت الشعب”، حيث تعاطفا معا مع الأفكار المطروحة. كانت أول سفراتها عام 1950 الى ألمانيا لحضور مهرجان الشباب العالمي. وعندما عادت سجنت لمدة ثلاث أيام على إثر تنظيمها ندوة في الحي الذي تقيم فيه (عين الرمانة) للحديث عن هذا المهرجان.
عاشت ليندا في عائلة بسيطة، واضطرت لترك الدراسة من أجل العمل لمساعدة الأهل في مصنع لصناعة الكلسات والحرير مقابل أجر زهيد، لكنها كانت تتصرف بنضوج اكتسبته من تجربة الحياة العملية التي جعلت منها ثائرة على الواقع، وجعلتها تواقة إلى الحرية التي لا يمكن الوصول إليها إلا عبر التثقيف الذاتي، فعملت نهارا ودرست ليلا حتى نالت الشهادة الثانوية.
في الثامنة والعشرين من عمرها قررت أخذ قضية حقوق المرأة على عاتقها، وكان همها تعديل القوانين التي تميز ضد المرأة، وقد كانت حادثة عام 1952 الشرارة، تروي ليندا: “كان يوم الانتخابات وكنت أراقب الرجال وهم يتدفقون نحو مركز اقتراع قريب. توقفت سيارة كبيرة كان هناك من يساعد شابًا هو ابن جارتي الذي يعاني من إعاقة عقلية وجسدية للنزول، قُدمتْ له ورقة لإسقاطها في صندوق الاقتراع. إنه نوع من التلاعب بالأصوات غضبت، أنا لم أستطع التصويت لأنني امراة، في حين رجل معوق ينتخب“،
على إثر ذلك، انضمت مطر إلى صفوف لجنة حقوق المراة وعملت لتنظيم التحركات من أجل إعطاء المراة اللبنانية حق التصويت والترشح للمناصب العامة. وبكل ثقة وبعيدا عن الحسابات الحزبية والسياسات العائلية ترشحت هذه المناضلة لتخوض معركة انتخابية عام 1996، اذ شغلت وقتها منصب رئيسة للمجلس النسائي اللبناني الذي كان وما يزال أسير توزيع التركيبة الطائفية، وحصلت على 8000 صوت. الا ان دعم النساء لها لم يكن بالمستوى على الاطلاق مما يؤشر الى النساء لا يدعمن الكفاءات ومن هنا كان لا بد من الكوتا التي كانت ليندا من العاملات من اجل ادراجها في قوانين الانتخاب، كما ترشحت في العام 2000 وانسحبت في يوم الانتخاب، وسط احتدام الصراع الانتخابي الذي كان يشير الى ان اللوائح المقفلة وعدم قدرة المستقلين على احداث أي خرق، فكيف اذا كانت امراة لا تملك سلطة المال، ومن خارج البيوتات السياسية التقليدية والقوى السياسية المتنازعة وورثة المناصب.
من يدخل الى الانترنت يستطيع ان يرى كم من حفلات التكريم من قبل هيئات وجمعيات مدنية، للسيدة التي حملت هم تحصيل حقوق المراة وناضلت من اجل تحقيق مساواتها مع الرجل، في لبنان من اقصى الجنوب الى أقصى الشمال مرورا بكل المناطق، فهي نقطة لقاء بين اللبنانيين على اختلاف انتماءاتهم، رغم انقسامات المواقف، فهي كرمت في المجلس الثقافي العربي وفي المجلس الثقافي للبنان الجنوبي وفي الحركة الثقافية في انطلياس على سبيل المثال لا الحصر، وهي نالت وسام الأرز الوطني من رتبة فارس عام 1998 ووسام الأرز الوطني اللبناني أيضاً عام 2010 وغيره من الأوسمة. ولقبت برائدة العمل النسائي عام 2002، كما كرمتها الشيخة فاطمة بن مبارك في الامارات.
وكانت مجلة “ماري كلير” الفرنسية قد اختارتها من بين 100 امراة يحركن العالم، كذلك كانت عضوة في قيادة الاتحاد النسائي العالمي، وعند تأسيس المجلس الاقتصادي ــ الاجتماعي فوجئ اللبنانيون بضمها اليه اذ جاء مؤشرا على ان السلطة لم يعد بإمكانها التغاضي عن اشراك النساء في المواقع القيادية.
المعروف عنها إنها الكثير من الأسرار التي لم تفصح عنها في الكتاب الذي كتبته عن سيرتها الذاتية، وذهبت فيه الى الماضي البعيد وليس سنوات الثلاثين الأخيرة، فلم تتحدث عن الحرب الاهلية أو عن “بوسطة عين الرمانة” والدماء التي سالت أمام منزلها وأعينها.
على طريقتها الخاصة، ورغم انهيار الشيوعية ظلت ليندا مؤمنة بمبادىء “الاشتراكية التي تساوي بين الناس”، وبالعمل من اجل تطور”المجتمع والإنسان والوطن ومن ضمنه المرأة». ولطالما اعتبرت ان عدم تقدم النساء هو نتيجة النظام الذكوري المؤطر بقوانين تمنح الرجل سلطة السيطرة وقمع المرأة، بحجة العادات والتقاليد“،
وضعت مطلب اقرار قانون مدني للأحوال الشخصية على رأس الأولويات، كونه يحرر المواطن من الطوائف ويتكرس حق المرأة اللبنانية بمنح جنسيتها لأولادها وعائلتها“.
نجحت ليندا في تكريس صورة مختلفة عن المراة اللبنانية، عصامية وانسانة متواضعة وناضجة في تعاملها مع أمور الحياة والنضال، حملت هموم الوطن والنساء، ولم تضع الرجال والنساء في مواجهة، فهي لم تحارب الرجل بل دعته الى الحوار والى العقلانية، كما دعت المراة الى النشاط الفاعل في الحياة العامة وفرض وجودها.
عرفت عن نفسها في كتابها بالقول: “أنا مواطنة لبنانية أتيح لي خلال سنوات عمري أن أحصد رصيداً ثميناً لا يباع ولا يشترى اكتسبته بفضل مدارس تلقنت منها احترام الإنسان والدفاع عن حقوقه ومحاربة أسباب جهله وفقره ومرضه وتشرده، وصولاً إلى الإسهام الفاعل في مواجهة التحديات على مختلف الصعد“.
حلم ليندا كان أن ترى المرأة اللبنانية تتمتع بجميع حقوقها السياسية والوطنية والثقافية والإنسانية. إنه الحلم الكبير الذي عملت من أجله وما تزال نساء كثيرات من الجيل الشاب يسعين اليه ثائرات في الشارع