قراءة بوصفها هضبة لأشجار البن في:  “قهوة في ذاكرة المنافي”

قراءة بوصفها هضبة لأشجار البن في:  “قهوة في ذاكرة المنافي”

لحسن أوزين

   قد تبدو الورشات التي تقف وراءها مجموعة من النساء عملا عفويا وبسيطا للغاية، دون أن تمتلك أية دلالات ومعاني عميقة، في اثبات الذات، وعيش الحضور الاجتماعي الإنساني، النابض بالحياة. وممارسة الفاعلية المستقلة المتحررة من الوصم السيء ” هل تستطيع التابعة أن تتكلم؟” على حد تعبير غياتري سبيفاك Gayatri Spivak.

    وإزاء ورشات الكتابة هذه، لا نستبعد أن يكون التقييم المعياري الذكوري البطريركي جاهزا تجاه كل ما يصدر عن المرأة في تنوعها وتعددها واختلافها، كنساء، وكهويات جندرية محكوم عليهن، اجتماعيا سياسيا وثقافيا، بالإقصاء والتهميش، الى حد، الوأد الرمزي لوجودهن الاجتماعي السياسي، والتاريخي الثقافي.

   لكن القارئ الشغوف المهتم، والباحث الممسوس بعشق جنون القراءة، و المعرفة والبحث. والمؤمن بقيم الحرية والعدالة والمساواة، وبكل القيم الاجتماعية الثقافية المؤسسة للأفق الإنساني، سيدرك أنه أمام تجربة رائعة وشائقة في التجرُّؤ على انتهاك طابو الصمت، المسكون بالحقد والقهر والنبذ، الى درجة الحكم، على النساء بالإلغاء، الأقرب الى الموت الاجتماعي التاريخي. إنها تجربة استرداد روح الصوت المسلوب المغيب المقموع. وامتلاك حق الكلام في الكتابة والتعبير، والتأريخ والشهادة على الذات والمجتمع والتاريخ. إنها ورشات اختراق و نفض غبار القهر والذل والمهانة، عن المهمش المنسي في ذاكرة الهيمنة والسيطرة. وكشف المسكوت عنه في سيرورة التاريخ الأبوي الذكوري، و فضح عذابات التسلط الرهيب الكولونيالي، ومحرقة الاستبداد المحلي.

   تبعا لهذا الوعي، والفهم، لظروف وسياقات هذه الورشات، الراغبة والعازمة بإصرار قوي، في امتلاك حق الكتابة والكلام، يدرك القارئ القيمة الفكرية والفنية الجمالية، التي تندرج فيها سيرة هؤلاء النساء، السودانيا والإرتريات، المُهجّرات والمنفيات، من طرف قهر ذكوري، واستعماري، ومابعد استعماري، ومابعد استبدادي ومابعد ديمقراطي.

   لم نفتعل هذه الدلالات، ولم نتوهم هذا الأفق في استراتيجية الكتابة التي احتضنت، عن وعي أو غير وعي، سيرة هؤلاء النساء. لأننا واعون بالتراكم المعرفي والفكري والنقدي، الذي أسسه مفكرون فاعلون، وممارسون مناضلون، من أجل الأصوات المقموعة والمهمشة والمنبوذة، من الفئات الاجتماعية المقهورة من الفلاحين والمزارعين، ومن العمال والنساء…

   حدث هذا في كتابات أنطونيو غرامشي، وفرانز فانون، وإدوارد سعيد، مرورا بمدرسة التابع الهندية، ووصولا الى  آخرين، على سبيل الذكر لا الحصر، مثل: غياتري سبيلفاك في كتاباتها التي حملت سؤالا استنكاريا لافتا للنظر النقدي: هل يستطيع التابع أن يتكلم؟

   هكذا وفقا وانسجاما مع هذا التوجه والرؤية الفكرية النقدية، نفهم هذه الورشات التي ساهمت فيها مجموعة من الفاعلات الواعيات بضرورة حق امتلاك الكلام، باعتبار أنفسهن ذوات فاعلات، حرات و مستقلات. وقادرات على كتابة سيرتهن، منعا ورفضا لأية وصاية قهرية استعبادية تحولهن الى مجرد موضوعات قابلة للتشييء والتملك. أو لتمثيلهن في الدفاع عن حقوقهن الإنسانية، وعلى رأسها امتلاك حق الكلام في معناه الشامل، تعبيرا وكتابة ورأيا، وتقريرا، وأسئلة حارقة:

   “لماذا يصمت الرجال عن جرائم الرجال الآخرين؟ لماذا هذا الصمت؟ لماذا نلوم الأطفال المغتصبين، ونعزلهم اجتماعيا ونتقاسم الملح والملاح مع المغتصب؟ أين العدالة؟ لماذا يجب أن يحكمنا أغبياء؟ لماذا يجب أن نغادر الوطن، النيل.. الأشجار.. الطيور.. قطط الجيران.. الأصحاب والصاحبات.. الأهل.” 93

  • هل تستطيع التابعات/النساء أن تتكلمن؟

   يبدو مشروع ورشات الكتابة، الذي تقوم بتنسيقه الكاتبة والشاعرة والفاعلة الجمعوية إشراق مصطفى تحت شعار: (ليس سوانا يكتب سيرتنا)، خطوة هامة في سبيل انتزاع حق الكلام، المعبر عن الوجود الحقيقي الإنساني للنساء، دون تمييز أو استثناء. وذلك حسب تنوعهن وتعددهن واختلافهن الاثني والجغرافي واللغوي والثقافي والفكري والسياسي…

   وبصدور، قبل أيام قليلة، كتاب أشغال الورشة الثالثة، يتأكد وعي هؤلاء النساء بضرورة الفعل الذاتي، النابع من الإرادة الحرة، الفاعلة المستقلة، التي يعبر عنها بوضوح كامل شعار الورشات. وهذا يعني أن التنوير والحرية والتحرير، وامتلاك الكلام والكتابة، والحضور الاجتماعي التاريخي والثقافي، يأتي من داخل فعل الذات الحرة الفاعلة المستقلة، أو لا يأتي. فلا أحد يستطيع أن يتحمل هذه المسؤولية الصعبة، بالنيابة عنهن، دون أن يتورط في التحيزات السياسية والاجتماعية والثقافية الجندرية الموروثة، عبر تاريخية النظام الأبوي الذكوري، أو التي تمليها مصالح الهيمنة والسيطرة، للمركزيات القهرية، الاستعمارية والاستبدادية.

   وقد لمسنا في الكتاب الأول، ” نون المنفى، سيرة نساء من هناك”1، هذا التوجه في اقتفاء إرادة الاقتدار(نتشه)، لكتابة التاريخ المنسي والمهمش. ليس فقط لهن كنساء عانين طويلا من التهميش والاقصاء والنبذ والالغاء، بل أيضا، التأريخ لكل المدونات المقهورة القابعة في الظلال المعتمة للتاريخ البشري.

   حيث تم تسليط الضوء على ظروف وشروط السياقات والديناميات الاجتماعية، والصراعات الأيديولوجية السياسية، ومختلف الالتباسات والتفاعلات التي رافقت التحولات والحركات الاحتجاجية الاجتماعية، والثورات الشعبية السياسية، إما ضد الاحتلال الأجنبي، أو ضد الاستبداد المحلي. لذلك كانت كتب هذه الورشات غنية وثرية، ومعبرة عن وعي نقدي جاد وهادف لاستعادة الصوت المسلوب، في الحضور الاجتماعي الإنساني الفاعل. وقد تحقق هذا من خلال اتساع المنظور في مقاربة حق امتلاك الكلام، من مختلف الزوايا، حتى يتضح لهن وللقارئ المهتم، الترابطات والسياقات التاريخية، والمستويات البنيوية الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية والدينية، التي ولدت وكرست القهر الصامت، القاتل للوجود الاجتماعي التاريخي للنساء، وكل الفئات الاجتماعية التي أُريد لها أن تقبع في قبو الصمت. وسراديب القهر والتهميش والذل والمهانة. وبهذا المعنى فهي كتابات مترابطة جدليا مع مصلحة كل هذه الفئات في بناء إرادة القوة، والاقتدار الكلامي والتمكين الأدبي في الكتابة والتأريخ للذات، كهوية سردية متحققة في التاريخ البشري، وفي سيرورة تاريخ الانتظام الاجتماعي الإنساني.

   هكذا تسعى ورشات الكتابة هذه جاهدة، حسب وجهة نظري، الى خلخلة وتفكيك التاريخ الكلي للنظام الأبوي الذكوري الذي سلخ عنهن قيمتهن الإنسانية، من خلال المس والاعتداء على كرامتهن وأجسادهن، بمختلف أنواع العنف الرمزي، والمادي الحركي، المتفاوت حدة وشدة وإلغاء وتهجيرا ونفيا وقتلا.

   إنها نصوص تنتهك الباب المحظور للسرديات التاريخية التي دونتها المركزيات الثلاث (الذكورية البطريركية، والاستبدادية، والاستعمارية) التي احتفت بالتاريخ. وقدمته، تلك المركزيات، في قوالب نمطية، وصور سردية مشوهة للتاريخ الحقيقي. كما سجلته في مدونات مغلوطة زائفة جزئية متسترة عن الحقائق الاجتماعية والتاريخية والثقافية التي غيبتها سطوة القهر والقمع. جاءت قراءتنا للكتاب الأول والثاني، تبعا لهذا المنظور النقدي الذي أسسته دراسات التابع، في تعددها وتنوعها المعرفي والنقدي، الفلسفي والفكري والسياسي والأدبي. هذه الدراسات الحاضنة لمختلف التيارات السياسية والفكرية والأيديولوجية، من الماركسية الى النسوية. وهذا ما جعلنا نعتقد بأهمية هذه الورشات، كإضافات نوعية في مسارات جدلية الألم والأمل التي تخوضها النساء دعما وسندا لقواهن الذاتية، ولكل المهمشين، في معركة التغلب على القهر والظلم والاستغلال، وامتلاك حق الكلام التاريخي والاجتماعي والسياسي والثقافي والديني…  

   والجميل الممتع في سيرة هؤلاء النساء، السودانية والإرتريات، أنها حارقة موجعة مؤلمة، بقدر ماهي صريحة وصادقة بدون حجاب لغوي، أو نقاب بلاغي. كما أنها ليست جافة مباشرة تقريرية، بل فيها ما يكفي من الخصائص الفنية والأدبية، الحاملة لمقومات الاقتدار الفكري والإبداعي الأصيل. والمشبعة بالهم الإنساني الحافر في أعماق الوجود الإنساني قيمة واعتبارا وحصانة للكرامة البشرية.

  • الوجه البشع للمركزية الأبوية الذكورية

   تأتي صفحات” قهوة في ذاكرة المنافي” سيرة لمجموعة من النساء، لتعري الواقع القهري المؤلم الذي تشربته بقسوة مرعبة، هذه المجموعة في تنشئتها الاجتماعية والثقافية والدينية. وهي قيم وتصورات ومعتقدات، فرضتها مركزية الذكورة، والتسلط السياسي الاستبدادي، على جميع النساء، من موقع التابع/ة. كما هو واقع وسائد وسط مختلف المكونات الاجتماعية، والهويات الثقافية للمجتمعات الشرق أوسطية والافريقية، والإسلامية بصفة عامة.

   صفحات مروعة لوقائع موشومة في ذاكرة جسد النساء، وهي تحفر أخاديد الألم والرعب. يحدث هذا ليس بالقهر النفسي والضرب الجسدي، بل أيضا من خلال، الوشم المشؤوم الذي يخلفه الختان،  بوصفه بتر لجزء من الجسد. وهذا يعني الاعتداء الصريح على الكرامة والقيمة الإنسانية. وتفكيك خطير، الى حد التحطيم لهوية الذات في نرجسيتها الفردية الحميمة. ” ختان البنات الذي يحتفى به نهارا جهارا لا فضلا، لن يمس أحدا ابنتي، فهذه الجريمة مازالت ترعبني منذ أمسكن نساء ضخمات ليباعدن بين فخدي الصغيرتين لتتمكن القابلة من أن تجتز لحمي والكثير مني، الطمأنينة والثقة بالغير والطفولة، لتستبدل مكانها بالخوف والرعب وكمية من التحذيرات والمحاذير” 66

   والمؤلم في هذه الذاكرة الموشومة بالإرهاب والرعب، هو أن تحضر فيه النساء المستلبات من طرف الثقافة الأبوية، كمجرد أدوات وأجهزة بشعة وهمجية، روضتها تلك الثقافة اللاإنسانية، لتحطيم بناتهن، وتدمير عمقهن الحي والإنساني. الشيء الذي يدل على بشاعة وهيمنة الأنساق الثقافية والاجتماعية الأبوية للمركزية الذكورية، في خلق نوع من النساء، التابعات الفاقدات للوجود الحر المستقل.” نساء يتطاير الشرر من عيونهن، يتلذذن بإصدار التعليمات للقابلة، اقطعي هنا، زيدي زيادة، البنت دي عينها بيضا شكلها حتكون قاهرة، كمية من الأحكام وكمية من العنف.” 67

   ومع سيرورة القراءة نتعرف على الكم الهائل من الألم والعذاب الذي تختزنه الذاكرة المجروحة، بسبب مختلف أنواع القهر والظلم والتمييز الجندري الذي تتعرض له النساء في مجتمعاتنا. يتم هذا تحت غطاء شرعي ديني يشرعن الخضوع والسمع والطاعة العمياء. والتحكم والتملك لأجسادهن وعقولهن على حساب كرامتهن ووجودهن الإنساني.” بعدها توالت الأشياء كما رسمها المجتمع والدولة والدين، كل شيء له يد في تخطيط شكل حياتك وتشكيل مستقبلك بتراتبية مقدسة يجب الالتزام بها من دراسة وعمل وزواج ومرض وعلاج وحج ثم موت… كرهت عالم الكبار الذي انتزعت منه الرحمة، كميات من التحرش- تختلف فيه الكيفية والوسائل- لكنها لا تختلف في كونها انتهاك لكرامتي وحقوقي”. 58

   ولم تكن سيرة كل النساء مجرد استسلام وخنوع وقبول بكل ما تمليه الثقافة والهيمنة الأبوية الذكورية، بل هناك في الكتاب نصوص جميلة لمواقف وتجارب ذاتية مشرقة ومشرفة في كتابة تاريخ النساء البطولي في العمل والإنتاج. وفي مواجهة العقلية التمييزية الذكورية، غير المنطقية ولا عقلانية في أحكامها ومعاييرها التفضيلية. وهي تنتصر للذكر دون الأنثى. ” كنت الأكثر احتجاجا ورفضا لثقافة تمييز الصبيان عن الصبايا (الجندرة) كما يسمونها أهل العلم…أطلقت علي مجموعة من الرفيقات (المتمردة) لسخطي الدائم على تقليد ختان البنات، إذ كنت أحارب تلك العادة بكل وسعي وسط الأهل والحي والى الآن” 41

   وكانت لبعضهن رؤى وأفكار جميلة في تخطي الصعاب، والتعامل الإيجابي مع كل الضغوطات والأعباء المفروضة من قبل الأنساق الثقافية الاجتماعية لمركزية الذكورية. سواء في النبذ والاقصاء والعزل الاجتماعي، من خلال الطلاق لأتفه الأسباب، أو تبعا لسطوة النظام الأبوي الذي يسلخ القيمة الإنسانية من المرأة العقيم. وإزاء هذه المواقف والتجارب الصعبة والظالمة والقاسية، كانت مسارات السيرة مفعمة بالكفاح لتحقيق الذات الفاعلة المستقلة، والمناهضة لكل الموروث الثقافي والاجتماعي والديني الذي أجرم في حق النساء. ” كان لزاما علينا أن نبدأ بتقوية أنفسنا لمواجهة مجتمعات تقليدية يتحكم فيها رجال الدين وجهلاء التقاليد البالية.” 41

   ولم تكن هؤلاء النساء لتصلن الى هذا المستوى من النضج والوعي، إلا بعد عدد من المحن و التجارب القاسية، في الحجر والوصاية والتبعية، وفي الخنوع واجترار العذابات النفسية الرهيبة. وقع هذا داخل الوطن، من طرف المجتمع والثقافة والدولة البغيضة الفاشلة. وتجذرت الكثير من المآسي بسبب التصورات والمعتقدات والأفكار الاجتماعية والثقافية والدينية البعيدة عن الاعتراف والتقدير لقيمة وكرامة الإنسان عموما. و مورست تلك البشاعة المنحطة، على المرأة بشكل مضاعف في الظلم والتعسف القهر. وذلك عبر مسارات مؤلمة تركت جراحات لا تنمحي في القلب والذاكرة. سواء في الوطن أو في محرقة المنفى العربي( السعودية)، أو في منفى الحداثة الذي لا يخلو من صعوبات الانغراس والاندماج الفاعل المستقل. حيث يطلب من المنفي أن يمسح ذاكرته، ويتخلص من حنين وجع القلب، الممسوس بجنون الذاكرة في عشق البلد.

  • الاستبداد المحلي، أو التابع الكبير

   “تتدخل السلطات، وقد ينتهي بي الحال في أحد زنازين نظام نميري القمعي الذي قرر فجأة أن يحولنا الى بلد يستمد عقوباته من الشريعة الإسلامية، ولكم أن تتخيلوا قبل إسدال الستار على روحي. بعدها توالت علي المنافي، فأول محطة مؤقتة كانت الخليج، وهي مخرج كل محبط من الوضع في البلد حينها، ومهرب ضحايا الديكتاتوريات المزمنة وتراكماتها.” 59

   تشهد نصوص السيرة التي كتبتها النساء، في “قهوة في ذاكرة المنافي” على طبيعة الواقع السياسي الاجتماعي، والثقافي الديني، للدولة الاستبدادية. إنها دولة تسلطية قهرية، أبوية في مركزيتها الذكورية بامتياز كبير. وهذا ما جعل سيرتهن محفوفة بالكثير من العسف والظلم، والعنصرية والنبذ تجاه النساء. نظام سياسي قمعي مانع سياسيا وثقافيا واجتماعيا الاعتراف بقيمة الانسان، انسجاما مع الأعراف والمبادئ والمواثيق الدولية لحقوق الإنسان. سياسته الوحيدة هي ترسيخ قيم التبعية والعبودية، وصناعة العلاقات الاجتماعية العمودية من المسؤول/الراعي الى الرعية، ومن الرجل الى المرأة، ومن الأخ الكبير الى الصغير، ومن الأستاذ، الفقيه، الى المريد و التلميذ. إنها الآليات السلطوية لاستمرار ومعاودة إنتاج  الاستبداد، وهي  العبودية والتبعية المطلقة، كشكل سياسي للحكم والتحكم في المجتمع والدولة والثقافة…

   هكذا تكتب نساء السودان وإرتريا سيرتهن انسجاما مع الارتباط الجدلي بين الشخصي والسياسي، بين الفردي والجماعي والمجتمعي والسلطة السياسية. ” المجتمع السوداني الذي أفسد أخلاقه حكم العسكر. إذ عدنا الى عهد الجاهلية من إهانة وضرب النساء في الشوارع العامة لجريرة في الغالب لم يرتكبنها، فقط لمجرد الإرهاب والتخويف.” 34

   تستغل نصوص النساء ككتابة سيرذاتية تمتلك أليات إنجاز خطابها السردي، من خلال الوعي بأهمية الضرورة الموضوعية، في جعل الشخصي سياسي. لذلك يستثمر فنيا منطق الكتابة متن الوقائع الموشوم في الذاكرة. ويتم تحيينه بواسطة فعل التذكر، الذي يستفيد أدبيا وجماليا من طرائق اشتغال الذاكرة، في تكسير خطية الزمن. ثم استغلال أدواتها في الانتقاء والبتر والتخطي والتجزيء…

   دون أن ننسى حرية الحركة بين الفضاءات المختلفة، ذهابا وإيابا من البلد الى المنفى، أو العكس. الذاكرة لها لعبتها الفنية، ككتابة قادرة على إتقان استحضار الوقائع والأحداث والافعال والأمكنة. وأيضا في التلاعب الحكائي بالأزمنة من الحاضر الى الماضي. ثم في استدماج لأحلام المستقبل التي تلاشت وخابت، أو التي ظلت عصية على اليأس والاستسلام، حالمة ومفعمة بأمل العيش في وطن حر، مع مواطن حر فاعل ومستقل في الاختيار والتقرير، والتحكم في زمام المصير.

   والعذابات نفسها أو أكثر منها عاشتها النساء الإرتريات. فقد كانت سيرهن حافلة بمختلف أشكال القهر الكولونيالي الهمجي الذي ارتكب مجازر فظيعة. ثم تكررت المآسي بشكل مروع من طرف الاستبداد المحلي الذي خيب الآمال، وضرب عرض الحائط بكل الظنون والأحلام والتوقعات المتفائلة. ودفع بالناس الى ركوب مخاطر الهجرة والمنافي المرهقة للنفس والوجدان. ” لم يمض وقت طويل قبل أن يخيب ظن جميع التوقعات المتفائلة التي كانت تراهن بأن الثورة الإرترية تمتلك رصيدا نضاليا يؤهلها لتفادي دخول النفق المظلم الذي مرت به الدول النامية….لم يبد النظام الحاكم أية مرونة للمساواة والانفتاح على القوى السياسية الوطنية…بل تسلط على العباد والبلاد التي رزحت تحت وطأة العنف والقمع السياسي ومصادرة الحريات وانتهاكات صارخة لحقوق الإنسان والاعتقالات التعسفية والسجن… والعبودية والسخرة والاغتصاب والتحرش الجنسي والاعتداءات الجسدية والنفسية.” 117و118

   في ظل الأحلام التي تحولت الى محرقة جهنمية في جوف العقل والقلب والوجدان، وفي ظل واقع القمع الرهيب، كان على سيرة النساء أن تكتب نفسها، وتفكر ذاتها كسيرة ذاتية أولا، ثم ثانيا ضمن إعادة تركيب معطيات المتن الوقائعي تبعا لجدل الفرد بالمجتمع. وصياغة هذا الواقعي وفق ما تسمح به مقومات الشكل السردي للسيرة الذاتية. وقد تمكنت هذه النصوص الواردة في الكتاب من تملك فعل الكلام/الكتابة، وانتهاك الباب المحظور للحكايات والسرديات الأبوية الذكورية والاستبدادية والاستعمارية. متخلصة من عقدة التابعات المحرومات اجتماعيا وسياسيا وثقافيا ودينيا، من امتلاك ناصية السرد الذي يشرح ويعري السياسي القامع للوجود الشخصي الحر ، والفاعل المستقل.

   هكذا نستطيع أن نقول إن مشروع هذه الورشات في الكتابة وللكتابة، سيكون أرضية للبناء والتطوير والإثراء، لفعل الحضور الفاعل المستقل للاقتدار الكلامي/ الفكري والفلسفي، والتمكين المعرفي السردي، للإسهام في الوعي التاريخي والاجتماعي والسياسي والثقافي…

يتبع

الهامش

* إشراف وتنسيق : إشراقة مصطفى حامد: سود اتريات، قهوة في ذاكرة المنافي، دار طربيل الطبعة الأولى للنشر2022

 

Visited 31 times, 1 visit(s) today
شارك الموضوع

السؤال الآن

منصة إلكترونية مستقلة