الاحتفالية مسرح يبحث عن نفسه (5)
د. عبد الكريم برشيد
هذه الاحتفالية، في معناها الحقيقي، هي أساسا فعل متجدد داخل المكان والزمان، وهي فعل للبحث الجاد عن الذات الجادة والجديدة، وذلك في الأزمان الجديدة والمتجددة، ولا وجود لبحث يمكن أن يكون أصدق من البحث عن هذه الذات داخل الذات، وأن يكون ذلك في كونها وعالمها، وليس خارجهما، وإن كل من يجهل ذاته، ولا يعرف روحها وجوهرها ومنطقها ولغاتها، فإنه لا يمكن أن يعرف شيئا في هذا الوجود، وانطلاقا من هذه القناعة، انطلق البحث الاحتفالي للبحث عن مسرح احتفالي حقيقي، وانني اضع لهذه المقالة صورة للاحتفالي، وهو في مدينة طنجة، موطن ابن بطوطة، الرحالة الباحث عن نفسه، ولقد انطلق ذلك المسافر من هذه الأرض، ثم عاد اليها، تماما كما خرج عوليس من ايثاكا وعاد إليها، بعد رحلة تيه طويلة جدا في البحر، وفي هذا المعنى، يقول ذلك الاحتفالي الباحث عن مسرح ممكن، في دنيا هذه المسارح الكائنة، يقول(لقد خدعونا عندما قالوا المسرح في أصله يوناني المولد والنشأة، لأن الحقيقة غير هذا، المسرح نشاط يومي يكون دائما وأبدا حيث يكون الأحياء، إنه عيد الذين يعيشون ويحيون مع بعضهم، فتتولد بينهم قضايا عامة وإحساسات جماعية يصبح التعبير عنها حاجة أساسية، فحيثما يجتمع الناس ليكونوا فيما بينهم مجتمعا تتولد الحاجة إلى التواصل والتعبير، وبذلك تولد اللغة /الأم، اللغة التي تتجسد في عناصر لغوية متعددة، هي الكلمة والإشارة والإيماء والمحاكاة والرقص والغناء والتراتيل والأزياء والوشم، هذه اللغة / الأم هي المسرح).
لقد ورد هذا الكلام في كتاب (حدود الكائن في المسرح الاحتفالي) 1985 وقبل هذا ظهر في البحث الجامعي (نحو تأصيل المسرح العربي) كلية الآداب والعلوم الإنسانية ـ ظهر المهراز بمدينة فاس، ونفس هذا الرأي ، هو الذي أكده المسرح الاحتفالي من خلال أول بياناته، والذي كان بعنوان (بيان المسرح الاحتفالي) الدار البيضاء 1976.
وهذا ما يجعلني اليوم، وأنا أتحدث عن احتفالية ما بعد الجائحة، أستعيد روح الأسئلة القديمة، وأعيد التفكير في كل ذلك فكرت فيه من قبل، والذي مازال قادرا على إغرائي وغوايتي على اقتراف فعل التفكير الحر، ولهذا فإنني أجد من الضروري أن أقول اليوم ما يلي:
هذه الاحتفالية، وهي درجة من درجاتها، وفي حالة من حالاتها، ماذا يمكن أن تكون؟
هي مسرح بكل تأكيد، ولكن ما طبيعة هذا المسرح الاحتفالي، والذي شغل البلاد والعباد على امتداد ما يقارب نصف قرن؟
وقبل هذا ما معنى المسرح؟
وهل هو ضروري أن يكون لهطا معنى واحد، هو المعنى اليوناني، وأن تكون له ولادة واحدة، هي ولادته الغربية، وأن نكون كلنا، رغم اختلافاتنا، مجبرين على أن نعبر بلغة مسرحية واحدة؟
وماذا يمكن أن نقول عن المسرح الشرقي، والذي النو والكابوكي والكثكالي والقره قوز التركي وخيال الظل الصيني والحكواتي الشرقي، والذي له روحه المختلف والمخالف، وهو الأقدم والأعرق؟
وهذا المسرح/ اللغات، هل هو هذه الحياة الدنيا، كما هي، في واقعها ووقائها، وفي أحداثها وصورها، وفي شخوصها وعلاقاتها، وفي مستواها المألوف والمعروف والقريب فقط، أم هو حياة أخرى ممكنة الوجود؟ حياة عالية وسامية وجميلة ونبيلة، وكما يمكن أن تكون، في روح ووجدان وعين الفنان المفكر، أو كما ينبغي أن تكون في منطق هذا الوجود الحقيقي، وليس في فوضاه المزيفة؟
وهذه الاحتفالية أيضا، هل هي روح من الأرواح، أي روح الوجود وروح الموجودات، أم هي مجرد طبول ومزامير وشموع وقناديل وأزياء وأقنعة، ولا شيء غير ذلك وأكثر من ذلك؟
إنني لا أنكر أن هذا المستوى الحسي من الاحتفالية، له وجود مشروع في الواقع والوقائع، ولكنه ليس مستوى الاحتفالية، وهي فكر وعلم وفن وصناعات إبداعية، ولا في مستوى طموح المشروع في الارتقاء بالاحتفال إلى درجة المتخيل، وإلى عتبة المفكر فيه، ليس بشكل تجريدي، ولكن من خلال الصور الحية، ومن خلال الأجساد المحتفلة الحية، والتي تمارس فعل التفكير بشكل حياتها، وأضوائه وظلاله وألوانه وكل علاماته ورموزه وإشاراته المتعددة والمتنوعة.
مسرح بين حد التأسيس وحد إعادة التأسيس
وكيف بنت الاحتفالية مسرحها؟ وعلى أية صورة أوجدته؟ وهل فعلا هي التي أوجدته أم هو الذي أوجدها؟ وأيهما أسبق من الآخر؟ التفكير الاحتفالي أم الفعل الاحتفالي في الوجود، والذي هو الأصل؟
هو مسرح احتفالي متجدد، فيه سحر وجاذبية، وفيه فوضى منظمة، وفيه غرائب المخلوقات وعجائب العلاقات والحالات، وهل هو الذي أوجد كل هذا الغنى والامتلاء والتنوع، أم إنه فقط رأى، وسمع، وتمثل، وفسر، وأعاد كتابة المكتوب كتابة أخرى، وبلغات أخرى، وبأبجديات مشهدية أخرى
هذا المسرح الاحتفالي، نشأ وتربى في بيئة عربية، وفي مناخ احتفالي عربي، وبهذا كان ضروريا أن نتساءل: كيف ساهمت هذه الاحتفالية في إعادة بناء وتأسيس المسرح العربي الحديث والمعاصر؟ وما هي الإضافات الفكرة والجمالية التي أضافتها لهذا المسرح / الأب؟
وبحسب الفكر والمبدع الاحتفالي فإن فعل بناء المسرح لا يمكن أن يتحقق في غياب الإنسان.. لن نعرف حدود مسرحنا حتى نعرف حدود شخصيتنا هويتنا) حدود الكائن والممكن.. دار الثقافة 1985 ـ ص 9 / 10.
ولقد ارتبطت هذه الاحتفالية بالمسرح، وذلك في بعده المغربي والعربي والعالمي، ومن خلال هذا المسرح ـ المسارح، انفتحت على كل العالم، وانفتحت على كل الفنون والعلوم والآداب والصنائع المتعددة، وبهذا فإنه لم يكن المسرح في الاحتفالية اختيارا واحدا، ولا كان فنا واحدا، ولكنه كان اختيارات مركبة كلها في اختيار أساسي ومحوري واحد، وفي هذا المسرح، المتعدد والمتمدد والمتجدد، راهنت الاحتفالية على أن يكون المسرحي دائما حاضرا حيث ينبغي أن يكون، وعلى أن يكون شاهدا صادقا على العصر، وعلى أن يكون حرا في حياته وفي حياة مسرحة، والتي هي أساسا حياة واحدة، بأعمار متعددة طبعا، وراهنت أيضا على أن يكون هذا المسرحي شاعرا وحكواتيا، وأن يكون مهرجا وبهلوانا مفكرا وحكيما إذا لزم الأمر، وأن يكون عرافا ومتنبئا، وأن يكون كاتبا عموميا، وأن يكون ساعي بريد، يحمل للناس الرسائل الجميلة والسعيدة والمفرحة، وأن يكون مؤرخا للخيال العام وللوجدان الشعبي ولأحلام الناس البسطاء وللحالات والمقامات.
سفر الاحتفالي من عالمه إلى العوالم الأخرى
وهذه الاحتفالية، في فتوحاتها الزمكانية، تقتفي أثر ابن بطوطة في أسفاره دائما، ولكن أسفار الاحتفالية تتخطى فضاء الجغرافيا والتاريخ، لأن مجالها الحقيقي هو نفس الإنسان وهو عقله وروحه، وهو خياله وحلمه، وهو جنونه وهذيانه، وهو سكره الصوفي وعربدته اوجدانية، وإذا كان ابن بطوطة قد كتب (تحفة النظار في غرائب الأمصار) فإن ما كتبه الاحتفالي والاحتفالية اليوم، وما كتبه بالأمس، وما يمكن أن أكتبه غدا، يمكن أن نعطيه اسم (تحفة النظار في غرائب المخلوقات الإنسانية في كل الأمصار، وفي كل الأزمان) وإن كل مسرحية، من مسرحيات الاحتفالية، هي أساسا تحفة فكرية وجمالية، وهي موجهة للنظار وللمستمعين وللقراء، ولكل من يهمه حاضر وماضي ومستقبل الإنسان ومستقبل الإنسانية ومستقبل الحياة والحيوية ومستقبل المدينة والمدنية.
وكما نكون نحن، اليوم وغدا، يكون مسرحنا و( نحن روحان حللنا بدنا) وأبدا لا يمكن تصور وجود مسرح عاقل ومفكر ومجتهد لدى إنسان لا يفكر، ولا يعقل، ولا يجد، لا يجتهد، ولا يحلم، ولا يتخيل، ولا يختار، ولا يسافر، ولا يتوقع، ولا يتنبأ، ولعل هذا هو ما يفسر قول الاحتفاليين بأنهم يريدون مسرحا يشبههم ويشبهونه، وأن يكون جلدهم قبل أن يكون لباسهم، وأن يون لهذا اللباس شكل معلوم ولون محدد، لأن المسرح أساسا مرآة، ولا وجود لمرآة تعكس ما ليس له وجود، لذلك تدعو الاحتفالية الإنسان المواطن في مدنها ليكون صادقا وفاعلا ومتفاعلا وجميلا وحرا، حتى يمكن أن يؤسس مسرحا صادقا وجميلا وحرا، وأن يكون بإمكان هذا المسرح الصادق أن يحيا، وأن يقاوم كل عوامل الموت. ونحن العقلاء، في هذه الاحتفالية العاقلة، نسعى باتجاه زيادة منسوب العقلانية في مسرحنا، ونسعى باتجاه زيادة منسوب المعرفة والحقيقة في إبداعاتنا الفكرية والمسرحية، والأصل في الإبداع الجميل أن يكون صادقا، وسعيا لبلوغ هذا الصدق الفكري والجمالي، فقد الاحتفالي إلى ( أن يجعل الكتابة بالجسد تنسجم انسجاما كليا مع كتابة الداخل ، أي كتابة الوجدان) حدود الكائن ـ ص10.
وفي شرع الاحتفالية، وفي دستورها الأسمى، فإنه لا حدود بين الواقع والفن، ولا حدود بين المحسوس والمتخيل، ولا بين الكائن والممكن، وأنه في هذا الواقع لا وجود إلا للمسرح، وأنه (داخل هذا المسرح نمثل / نحتفل/ نحيا، ونموت ونتصارع، وما نفعله يوميا لا يمكن أن يصنف في هذه الخانة أو تلك، لأنه الحياة، كل الحياة، في كلياتها وجزئياتها) حدود الكائن ـ ص 12.
وهذه الاحتفالية، إبداعا وتنظيرا، كيف انكتبت؟ وبأية لغة يمكن أن تنكتب؟ هي المسرح، أولا وأخيرا، وهذا المسرح لا يمكن أن ينكتب بغير لغة المسرح، والتي هي لغة كونية صالحة لكل الناس في كل زمان ومكان، هي لغة فردوسية عابرة للقارات والثقافات والإثنيات والعاميات المحلية، والموغلة أحيانا في المحلية المغلقة، وهي بهذا لغة (أكبر من اللفظ وأرحب من الأصوات والإشارات)، والتي يمكن (أن نستخرجها من الأزياء والوشم والحناء والعمران والقصص والحكايات والاحتفال والخط والفسيفساء والأساطير والأخلاق والألعاب والآداب والرقص والحكم والعادات) حدود الكائن.
Visited 6 times, 1 visit(s) today