الكارثة.. وفقه الزلازل لإنقاذ آلاف الأطفال
أحمد الرمح
اتصل بي صديق سوري مقيم بروسيا ويعيش فيها قائلا: إن زوجة ابني طبيبة وناشطة على مواقع التواصل الاجتماعي، عندما وقعت كارثة الزلزال بسوريا وتركيا نشرت صور أطفال الكارثة، فتعاطف المسلمون الروس مع الأطفال.
في روسيا المسلمون يشكلون نحو عشرين بالمئة من سكانها، تواصل بعضهم مع هذه الطبيبة وأعلنوا تضامنهم واستعدادهم لتبني أطفال الزلزال اليتامى وتربيتهم إسلاميا، وهم من عائلات ميسورة. منهم من لم يرزق بأطفال وآخرون لديهم أطفالا، كذلك أعلن صديق سوري مقيم بفرنسا عن قدرته لتبني طفلين سوريين من أطفال كارثة.
هنا ثارت ثائرة بعضهم واتهموهم بالكفر والردة وتحريف تعاليم الإسلام. دعونا نناقش المسألة بخصوصية فقه الكارثة:
التبني تلجأ إليه بعض الأسر التي حرمت نعمة الأولاد، فيقومون بتربية طفل يتيم وهذا عمل أخلاقي عظيم إنسانيا، ويعد إسلاميا من أجل العبادات قربة إلى الله، لقوله عليه الصلاة والسلام: أنا وكافل اليتيم كهاتين في الجنة. وأشار بالسبابة والوسطى، وقوله عليه الصلاة والسلام: إن أحب البيوت إلى الله بيت فيه يتيم مكرم.
لكن الفقهاء يفرقون بين نوعين من هذه الكفالة، الأول أن تتبنى العائلة طفلا يتيما، فتعامله معاملة أولادها عطفا واحسانا وتربية وإنفاقا دون إلحاقه بنسبه ويبقى اسمه على اسم عائلته الأصلية وهذا لا خلاف فيه، والثاني نفس الأول ولكن يلحق الطفل المتبنى بالعائلة اسما ونسبا، وهذا ممنوع فقهيا.
علة المنع عندهم سببان. الأول قالوا عندما يصبح بالغا يطلع على عورات لا تجوز له الخلوة بها. الثاني الميراث لأن المتبنى يرث المتبني. فإذا كان للمتبني أخوة وأخوات سيحجبهم المتبنى من الميراث.
دليل التحريم عندهم آية قرآنية تقول “ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ فَإِن لَّمْ تَعْلَمُوا آبَاءهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ وَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ فِيمَا أَخْطَأْتُم بِهِ وَلَكِن مَّا تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا”.
نلاحظ هنا اليتيم بأن كفالة اليتيم مرغوبة وتبني اليتيم ممنوع، لكننا أمام فقه الواقع وأنا أتحدث هنا حصريا عن الكارثة السورية حيث استشهدت الأسرة في الزلزال، فبقي الطفل بلا راع ولا معين ولا مربي. أمام الكارثة يصعب على السوريين كفالة الأطفال من هذا النوع نظرا لظروفهم القاهرة. اليوم كل السوريين فقراء ومحتاجين، ما العمل نحن أمام فقه الكارثة أمام حالة غير طبيعية، وبالوقت نفسه أمام حالات إنسانية ربما تكون بالعشرات أو المئات، فكيف نتعامل مع نازلة دون أن نخترق حدود التشريع.
قوانين العالم اليوم تسمح لأسرة ما تتبنى طفلا دون أن تنسبه لها، قبل الزلزال هناك مليون طفل سوري بلا عائل بحسب إحصائية لمركز البحوث العلمية والدراسات الحديث التابع لمنظمة الأمم المتحدة للطفولة اليونيسيف. إذا سوريا تعاني من كارثة بكل معنى الكلمة، صلاح جار الله الأمين العام لاتحاد رعاية الأيتام، قال في مؤتمر قبل الزلزال أن تسعين بالمئة بين الأيتام السوريين غير مكفولين، بينما والكلام له تجاوز عدد الأيتام السوريين حاجز المليون يتيم، والمؤتمر الذي عقد لم يستطع أن يخرج إلا بكفالة عشرة الاف يتيم فقط. هل تصورتم حجم الكارثة قبل الزلزال؟
في تقرير عن وضع الطفولة أيام داعش من كل عشرة انتحاريين تجندهم داعش لتنفيذ عمليات ارهابية يوجد 4 أطفال، لأن كل طفل يقدمه عائلته لداعش، يحصل ما بين مئة إلى مئتين دولار شهريا.
اليوم الزلزال زاد من حجم الكارثة. فهل نترك الطفل للمجهول؟ للشارع؟ إن تلتقطه عصابات الجريمة وتجار الأعضاءأاو التنظيمات المتطرفة، أو يموت جوعا وتشردا، بدعوى أن الفتوى تحرم ذلك، لا أظن أن عاقلا يقول بهذا.
دعونا نتوقف تدبرا مع دليل التحريم، الدليل القرآني، قالوا إن علة التحريم تتمثل بقوله تعالى “ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله”، يعني أن ننسبهم إلى آبائهم الحقيقيين أفضل من أن ننسبهم إلى المتبني. لكن تأمل الآية جيدا، اقسط اسم تفضيل، ادعوهم لآبائهم اقسط ولغة اسم التفضيل اسم مشتق يدل على شيئين اشتركا بصفة واحدة وزاد أحدهما فيها على الآخر، يعني هناك قسط واقسط، عدل واعدل. اقسط من ماذا لا بد أن يكون هناك اسم مفضل فما هو؟ وأين هو؟ ولماذا سكت كل المفسرين والفقهاء عن المفضل وتوقفوا عند اسم التفضيل فقط؟.
أنا راجعت بحدود عشرة تفاسير الأهم في الفقه الإسلامي والتفسير، كلهم وقفوا عند اسم التفضيل ولم يتحدثوا عن دور اسم المفضل، ما دام اقسط موجود، فهنا لغويا لن تحرم الآية ما هو قسط، “فإننا ندعوهم لآبائهم”، وفي ظرف كارثي كالزلزال أو قانوني أو لأننا لن نعرف آبائهم فهو عدل وقسط، ولم تقل الآية إن المفضل حرام بل قسط وعدل، فلماذا ذهب المفسرون والفقهاء إلى التحريم، دون دراسة المفضل وخصوصا في حالات طارئة كالكوارث وليس لخلط الأنساب كما قامت على ذلك الفتوى. الكارثة في سوريا أكبر من عقول الفقهاء الصغيرة، وأكبر من الفتاوى التاريخية، والحقيقة إن الفقه الإسلامي عاجز أمام فقه الكارثة، فالتحريم في هذه الكارثة ليس عذابا، والإسلام ما حرم شيئا إلا وجاء بالبديل الأفضل منه.
هاتوا لنا البديل في هذه الحالة ونحن معكم، منذ سنوات اجتهد الفقهاء بدول الخليج والأردن في هذا الموضوع، فأصدروا فتوى حق الاحتضان بشرط الرضاعة. وهناك احتضان دون شرط الرضاعة، كما في القانون الإماراتي. فاعتبر الفقهاء الاحتضان حلا وسطا بين التبني والكفالة. لكن فتوى الاحتضان منعت أن ينسب الطفل لغير أهله. يعني كأنهم فسروا الماء بعد الجهد بالماء.
لماذا نطالب بحل؟ وما هو مستندنا بتغيير فتوى التحريم:
أولا أنا منذ العشرينات من عمري قرأت ولخصت كتاب “الفقه على المذاهب الأربعة” للجزيري. وهو من خمس مجلدات كبيرة، كتاب ضخم وبحسب علمي ما يزال يدرس في الأزهر منذ سبعين أو ثمانين سنة، كما درست الفقه الظاهري والسلفي، وفقه السنة ومطلع على بعض الفقه الجعفري، وأنا درست ودرست أصول الفقه لعبد الوهاب غلاب، وهو كتاب لا يزال يدرس بالأزهر، وأصول الفقه للإمام محمد ابو زهرة.
نحن نستند إلى مقاصد الدين وأصول الفتوى، ولذلك أقول يجب أن تغير فتوى التحرير خصوصا في هذه الكارثة لماذا؟
ـــ أولا: المصلحة الاجتماعية والأخلاقية والوطنية، فالقاعدة الشرعية تقول حيثما تكون المصلحة فثمة شرع الله، وأفضل من تناول القاعدة شرحا الإمام الشاطبي في كتابه “الموافقة”، كما تناولها ابن القيم في كتابه المشهور “إعلام الموقعين” بفصل كامل مع تعديل لها، فقال أينما يكون العدل فثم شرع الله، أما الإمام الطوفي فقد اعتبر المصلحة الإنسانية والاجتماع شرعا حتى لو تعارضت مع نص، ومصلحة الطفل ألا يترك للشارع، والجريمة والتطرف والإرهاب، وربما يموت جوعا، وأما قول بعضهم بأن هذه القاعدة للعمل فيما لا نص فيه، فما لا نص فيه لا يتدخل الشارع فيه.
ـــ ثانيا: ندعو إلى تغيير فتوى تحريم التبني، لأن القاعدة القرآنية في مثل حالة الكارثة السورية تقول “فمن اضطر غير باغ ولا عاد فلا إثم عليه”. والذي يتبنى طفلا سوريا يتيما في هذه الكارثة، لا هو باغ ولا عاد، إنما بدافع إنساني وديني.
ــــ ثالثا: نص التحريم لم يدرس كما يجب، كما اطلعت على نحو عشر تفاسير، ما الفرق بين قسط واقسط، بينما تتحدث فتوى التحريم عن الأحوال الطبيعية، ونحن هنا نتحدث عن فقه الكوارث لإنقاذ آلاف الأطفال السوريين من براثن الجريمة والتطرف والإرهاب وتجارة الأعضاء.
ــــ رابعا: إذا بقي الطفل اليتيم مكفولا فقط فهذا له تداعيات نفسية، لأنه سيكون عرضة للتنمر، لكونه مجهول النسب، وحذر علماء النفس من تداعيات ذلك على مستقبل الطفل وسلوكه.
ــــ خامسا: أطالب مؤسسات الفتوى وأطالب مؤسسات الفتوى في المناطق المحردلة له، حتى لا يقال إنني أخالف النص وأنا لا أخالف النص، إنما أذهب إلى روح النص والعدل الإلهي. أطالب بأن تتم الفتوى بجواز التبني بشروط لحل هذه المعضلة، حيث تشكل لجنة لإحصاء هؤلاء اليتامى. وتوثق عائلاتهم إن عرفوا وأيضا يحفظ لهم حتى الــ “دي ان أي”، ثم تمنحهم للكفلاء لتبنيهم، حتى يعيشوا حياة كريمة، مع اشتراط أن يعرف اليتامى أصولهم عند بلوغهم سن الرشد، وتتبنى منظمة إنسانية معروفة ذلك.
أنا أضع اصحاب الفتوى في تركيا وسوريا والمنطق المحردلة أمام مسؤولية آلاف الأطفال، وسيسألهم الله عن ذلك إن سكتوا، أما أن تبقى مسؤولية هؤلاء المشايخ الفقهية محصورة في قضايا هامشية لا تمنح السوري المشرد دفئا ولا علاجا ولا مأوى، فإن الأطفال خصومكم حتى يوم القيامة، يقول الإمام سفيان الثوري رحمه الله “ما رأيت عبادة أجل وأعظم من حبر الخواطر”.
اللهم إني قد بلغت؛ اللهم فاشهد.